وكان بليغ البادرة سريع الجواب، سديدا في توفيق لفظه ومعناه، ولا عجب أن يكون كذلك، وهو مع ذكائه المتوقد عرضه للمسبة، مضطر إلى إفحام من يتعمدونه بالغض والإزراء!
قال له المنذر بن الجارود العبدي: أي رجل أنت لو لم تكن أمك من هي! فسرعان ما ردها عليه قائلا: «لقد فكرت فيها البارحة، فجعلت أنقلها في قبائل العرب، فما خطر لي عبد قيس ببال!»
وقال له رجل: والله لأتفرغن لك، فقال: «هنالك وقعت في الشغل!» قال الرجل: «كأنك تهددني؟ والله لئن قلت لي كلمة لأقولن لك عشرا.» قال: «وأنت والله لئن قلت لي عشرا لم أقل لك واحدة!»
وقال له سلام بن روح الخزاعي: كان بينكم وبين الفتنة باب فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ قال: «أردنا أن نخرج الحق من حظيرة الباطل، وأن يكون الناس في الحق سواء.»
ومن أشبه الأجوبة به وقد سئل: ما السرور؟ فقال: «الغمرات ثم تنجلي ...» فهي كلمة رجل يقدم على المغامرة، ويحسن جلاء الغمرات.
وشبيه به كذلك قوله: «ما وضعت عند أحد من الناس سرا فأفشاه فلمته ...» فسئل: ولم؟ قال: «أنا كنت به أضيق صدرا حين استودعته إياه.»
وشبيه به على هذا النحو قوله: «لا أمل دابتي ما حملتني، ولا زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا جليسي ما لم يصرف وجهه عني.» لأن الذي يصطنع الناس ويشتري الصدقات، ويتجمل للرئاسة لا بد له من هذه الخصال. •••
وقد اشتهرت القبريات في آداب الأمم، وشاعت الكلمات التي حفظت عن العظماء في ساعاتهم الأخيرة، فلو جمعت كلمات المحتضرين ومن يواجهون الموت، لما كان في عظماء المسلمين أحفل من عمرو بن العاص نصيبا من هذا الأدب الذي يدل على حظ قائليه من الحياة، وميزانهم في الحسنات والسيئات، ومعظم المنقول عنه في هذا الصدد يوائمه أن يقوله، ويشبه ما يستقبل به آخرته ويودع دنياه!
فكان في أخريات أيامه يدعو الله قائلا: «اللهم آتيت عمرا مالا فإذا كان أحب إليك أن تسلب عمرا ماله ولا تعذبه بالنار، فاسلبه ماله! وإنك آتيت عمرا أولادا، فإن كان أحب إليك أن تثكل عمرا ولده ولا تعذبه بالنار فأثكله ولده، وأنك آتيت عمرا سلطانا، فإن كان أحب إليك أن تنزع منه سلطانه ولا تعذبه بالنار، فانزع منه سلطانه.»
ويرحمه الله! لقد دخل الإسلام وهو يشترط أن يضمن له إسلامه سقوط العقاب على آثام ماضية وهم بمفارقة الدنيا فلم يبال أن يخسر ماله أو ولده أو سلطانه إذا ضمن شيئا واحدا في الآخرة: ألا يعذب بالنار!
Página desconocida