ليست هذه التخريجات أو هذه التأويلات إذن هي المرجع في تمحيص القول عن مسألة المقوقس وما لابسها من الأخبار والروايات، وإنما المرجع إلى «الموقف» وما يمليه بحكم البداهة وحكم الحوادث التي عرفت بمقدماتها ونتائجها. وأيا كان الرأي في هذا المقياس، فهو أصدق بيانا من جميع المقاييس التي رأيناها تضطرب ذلك الاضطراب بين أيدي المؤرخين. •••
وهذا هو حكم الموقف على أسلم الوجوه من النقد والريب، أو من الاختلاق وتوجيه المنازع والأهواء.
حكم الموقف أننا أمام «دور» واضح محدود لا يقبل اللبس على وجه من الوجوه، دور زعيم «أهلي» مسئول له صفة شعبية، لا تستطيع دولة الرومان أن تنتزعها منه، سواء رضيت عنه أو غضبت عليه.
وليس هو «دور» رئيس روماني بحال من الأحوال؛ لأن الرئيس الروماني إن بقي في مصر لم تكن له صفة ولم يكن له سلطان، وإن خرج من مصر لم تكن للتعاقد معه قيمة، ولم يكن أهلا للالتزام.
وإذا كان الموقف يستلزم «دورا» محدودا واضحا فلا محل فيه للاختلاق ولا للتنازع بين المؤرخين.
فهناك «أشخاص» يجوز الشك في وجودهم، بل يستدعي العمل المنسوب إليهم أن نشك في حقيقتهم، أما إذا كانت المسألة مسألة «أدوار» قائمة لا مسألة أشخاص، فلا محل للشك ولا للتنازع، بل الأمر ينعكس من هذا النقيض إلى النقيض الذي يقابله، ويصبح من اللازم تاريخا وعقلا أن نوجد الشخص الذي يمكن أن يؤديه، لا أن نراه موجودا ثم نشك فيه!
إن الدور الذي نسب إلى المقوقس لا يؤديه إلا زعيم له صفة المقوقس، كائنا ما كان اسمه ولقبه، وكائنا ما كان عنوانه في الدولة وفي البلاد.
فهو دور يؤديه «زعيم أهلي» عرف الناس حول بلاده أنه يملك منها ما ليس يملكه هرقل في عاصمته، ويتعاهد العرب معه فيعلمون أنهم يعاهدون البلاد، وأن البلاد مقرة لما تعاهدوا عليه.
ومن بقي من الرومان - أو من الروم - بعد وصول عمرو بن العاص إلى الفسطاط، فإنما بقي مقاتلا أو منتظرا للمدد من خارج مصر لمواصلة القتال، ومثل هذا لا يتعاهد معه عمرو بن العاص، ولا معنى للتعاهد معه قبل انقضاض المعركة بين الدولة الذاهبة والدولة الباقية!
فلا يكون المتعاهد أو المصالح في الحرب إلا زعيما يتكفل بشيء يقدر عليه، ويعلم معاهدوه أنه قادر عليه باسم قومه، وأنه إذا نقضه كانت الخسارة عليه وعليهم، لا على الرومان في مصر والإسكندرية، أو الرومان في القسطنطينية وبلاد الروم!
Página desconocida