ومن المستحيل أن يكون الرجل مطبوعا على الحيطة دون أن يكون لذلك الطبع أثر في إسلامه، أو يكون مطبوعا على الشك والتردد ثم يخلو منها ساعة تفكيره في التدين والاعتقاد، أو يكون شجاعا ويسلم إسلام الجبان، أو جبانا ويسلم إسلام الشجاع ...!
فإذا أسلم رجل كما ينبغي لطبعه وخلقه، فقد أسلم إسلامه الصحيح، ولا عجب أن يخالفه آخرون في دواعيهم التي جذبتهم إلى الإسلام، فإنما العجب أن يتفق الناس وهم مطبوعون على اختلاف!
ومن سيرة عمرو بعد إسلامه نعلم أنه كان يتعبد ويتصدق ويستغفر من ذنوب وقع فيها، ويقيم الصلاة ويسرد الصوم، ويعيش بين ذويه مسلما وكلهم مسلمون، وأدركته الوفاة فبكى لما أضاع من أيامه في جمع الحطام، وود لو يأخذه منه من يحمل وزره، وهو هنا أيضا يستقبل الموت استقبال المسلم الذي لا شك في إسلامه، وإلا لكان رضاه بترك المال لذويه أولى من أسفه لجمعه وحفظه، ولكنه كذلك لم يخرج عن طوية طبعه الذي لا حيلة له فيه، فهو يأخذ بالأحوط في حفظ المال ما قدر على حفظه، ولا يضيعه إلا وهو قادر على تضييعه ناجيا من وزره، آملا أن ينجو من حسابه! •••
مسلم لا شك في إسلامه، ولا شك في طبعه، ولا شك في اختلاف الطبائع بين المعتقدين جميعا في كل دين من الأديان ورأي من الآراء.
فلما فتحت له الحيطة باب التفكير في الإسلام أقبل عليه وود لو يغنمه بريئا من عقابيل الجاهلية؛ لأنه نفض يديه منها وأيقن بضلالها.
قال - وقد اعتزم لقاء النبي عليه السلام - ما فحواه: «فلقيت خالدا فقلت: ما رأيك؟ قد استقام المنسم والرجل نبي، فقال خالد: وأنا أريده، قلت: وأنا معك ... وقال عثمان بن طلحة: وأنا معك ... وكنت أسن منهما فقدمتهما لأستدبر أمرهما، فبايعا على أن يغفر لهما ما تقدم من ذنوبهما، فأضمرت أن أبايعه على ما تقدم وما تأخر، فلما بسط يده قبضت يدي، فقال - عليه السلام: ما لك يا عمرو؟ قلت: أبايعك يا رسول الله على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، قال: إن الإسلام والهجرة يجبان ما كان قبلهما فبايعته، والله ما ملأت عيني منه وراجعته بما أريد حتى لحق ربه، حياء منه.»
وقد كان ذلك في السنة الثامنة للهجرة على أرجح الأقوال، ويؤخره بعضهم إلى ما بعد فتح مكة بزمن وجيز.
ولقد كانت رحابة صدر النبي - عليه السلام - تسع الناس جميعا، ولا تضيق بأحد من مختلف الطوائف والطباع: سنة النبي الكريم الذي يدعو الناس جميعا، ولا يخص منهم فئة دون فئة ولا خليقة دون خليقة، فكان يتقبلهم مرحبا بهم مشجعا لهم راجيا أحسن الرجاء فيهم، كلا وما فطر عليه وكلا وما تؤهله له فطرته وشأنه، وقلما ذهبت هذه السماحة سدى في نفس مسلم أقبل على الإسلام سمح الإقبال أو مشوب السماحة بشيء من عقابيل الجاهلية ؛ فكان أول أثر من آثار هذا الكرم النبوي أن يتسامى المسلم إلى المنزلة التي رفعه ذلك الكرم النبوي إليها، ومنهم من كان يستكثر الثقة الرفيعة التي ظفر بها فيعمل على استحقاقها والمحافظة عليها، ويشفق أشد ما يشفق أن يداخل النبي طائف من الظن بصدق نيته وخلوص إيمانه.
وطالما أشفق عمرو بن العاص هذا الإشفاق، وود لو تخلص له ثقة النبي على أحسن ما يتمناها؛ لأنه ما زال يستكثر الثقة التي ظفر بها، ويرى فيها من كرم النبوة أكثر مما يراه من حقه واستحقاقه.
فلما رشحه - عليه السلام - لبعثة يسلم منها ويغنم، أسرع قائلا: ما أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة في الإسلام!
Página desconocida