فهل فرط الدهاء خيل إلى الرجل الذي وصفه بتلك الصفة أنه أشبه الناس سرا بعلانية؟
أو هو الصدق رآه الرجل الطيب فوصفه كما رآه غير مبال بمن يستغرب هذه الغريبة أو تخامره الشكوك فيها؟
إننا في الحق لا نستبعد أن يكون عمرو بن العاص شبيه السر بالعلانية في جميع الأمور التي لا يعنيه أن يكتمها أو يلوذ فيها بحيطته ودهائه!
فقد عهد في كثير من الدهاة أنهم ينطلقون بالحديث، ولا يتحرزون من الصراحة في أخطر الأمور، وقد أثر هذا عن بسمارك كما أثر عن بيكنسفيلد
2
من دهاة الأوروبيين في الزمن الأخير.
ومعظم هؤلاء الدهاة يحبون إرسال النفس على السجية، ويشبهون المهرة من اللاعبين الذين يلعبون «على المكشوف»، كما يقولون في عرفهم، ثقة منهم بالقدرة على الإصابة والسداد، أو يشبهون الفارس الذي يخلع شكته من حين إلى حين مباهاة ببأسه واقتداره، ولا سيما إذا كان هؤلاء الدهاة ممن امتزجت بهم نزعة المغامرة والطموح البعيد.
ويلوح من جملة أخبار عمرو مع معاوية على التخصيص أنهما كانا في الصلة التي بينهما يؤثران اللعب على المكشوف، ولا يضيعان الوقت في مراء يعرفانه ولا يجهلانه، وقد كانت مساومة عمرو لمعاوية صريحة لا مداجاة فيها، فقال له: «أترى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟ لا والله! إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذنك ...»
وعلى هذا النمط كانت المساومات بينهما في معظم الأحاديث المروية عنهما، فإذا عمد أحدهما إلى المداورة لم يلبث أن يرتد إلى الصراحة وقد رأى عين صاحبه واقعة على أخفى خفاياه!
فغير بعيد إذن أن يكون عمرو من الظرفاء الصرحاء في أحاديث المجالس وعروض الكلام المشاع، وليس في شيء من هذا ما يناقض صفته التي خرجنا بها من جملة أحواله ومساعيه، وهي صفة الرجل العملي، الطموح الذكي الذي يكبح هواه وينفلت منه بين الحين والحين في نوبات مجازفة تغريه بها وثبات العبقرية وضرورة الاقتحام، ويهونها عليه اقتداره على رد الزمام إلى يديه، وابتداع الحيلة المسعفة حيث شاء.
Página desconocida