قالت ليننا: «الجو مريع.» ثم انكمشت وراء النافذة، فلقد راعها فراغ الليل المقبل، والمياه التي رقش سطحها الزبد المكفهر، وهي تجيش تحت بصريهما، ووجه القمر الشاحب وقد بدا تحت السحب المسرعة نحيلا مشتتا، ثم قالت: «هيا بنا نفتح الراديو بسرعة!» ومدت يدها نحو المفتاح فوق اللوحة الأمامية وأدارته حيثما اتفق.
فإذا بستة عشر صوتا أجش مذبذبا تذيع: «السموات زرقاوات بداخلكم، أما الجو فدائما ...»
ثم أعقب ذلك فواق (زغطة) وصمت، وأوقف برنارد تيار الإذاعة، وقال: «إني أحب أن أنظر إلى البحر وأنا هادئ مطمئن، إن المرء لا يستطيع أن ينظر إليه وسط هذا الضجيج المزعج.» - «ولكنه ممتع، وأنا لا أحب أن أنظر إلى البحر.» - «ولكني أحب، ويجعلني ذلك كأني ...» وتردد قليلا باحثا عن الكلمات التي يعبر بها عن نفسه، ثم قال: «كأني أكثر مما أنا - إذا كنت تفهمين ما أعني، أكثر من نفسي على ألا تتغير طبيعة نفسي، ولا أقصد أن أكون جزءا من شيء آخر مختلف عني كل الاختلاف، لا أحب أن أكون خلية في جسم المجتمع فحسب، ألا يبعث فيك هذا المنظر شعورا كهذا يا ليننا؟»
ولكن ليننا ما برحت تصيح مرددة: «إنه مزعج، إنه مزعج.» ثم قالت: «وكيف تستطيع أن تبوح بحديث كهذا، وتقول إنك لا تحب أن تكون جزءا في جسم المجتمع؟ ألا ترى أن كل فرد يعمل لكل فرد آخر؟ إننا لا نستغني عن أحد، حتى «الهاء» ...»
قال برنارد بازدراء: «أجل إني أعلم ذلك، وأعرف «أن «الهاء» نفسها نافعة!» بل حتى أنا، وكم وددت لو لم أكن.»
وصعقت ليننا لهذا الكفران، واحتجت عليه بصوت ينم عن الدهشة والضيق، قالت: «برنارد، كيف تستطيع ذلك؟»
وقال متفكرا، وفي صوت مختلف مرددا عبارتها: «كيف أستطيع؟ كلا، إن المشكلة الحقيقية هي هذه، كيف لا أستطيع ، أو بعبارة أخرى (لأني أعرف تمام المعرفة لماذا أستطيع)، كيف تكون حالي لو استطعت، ولو كنت حرا غير مستعبد لما كيفت عليه.» - «برنارد، إنك تصرح تصريحات خطيرة.» - «ألست تتمنين أن تكوني حرة يا ليننا؟» - «لست أدرك ما تعني، إنني حرة، وأستطيع لو شئت أن أقضي وقتا سعيدا، كل فرد سعيد في هذه الأيام.»
فضحك وقال: «أجل «إن كل فرد سعيد في هذه الأيام.» ونحن نعلم الأطفال هذه الحقيقة وهم في الخامسة، ولكن ألا تحبين يا ليننا أن تكون لك الحرية، في أن تسعدي بطريقة أخرى؟ ولتكن تلك مثلا طريقتك الخاصة، لا طريقة كل فرد آخر.»
وكررت قولها: «لست أدرك ما تعني.» ثم التفتت إليه، وقالت متوسلة إليه: «هيا بنا نعود يا برنارد، إني أمقت هذا المكان مقتا شديدا.» - «ألا تحبين رفقتي؟» - «إني طبعا أحب ذلك يا برنارد، ولكني أمقت هذا المكان المريع.» - «ظننت أننا نكون ألصق رفقة هنا - وليس حولنا إلا البحر والقمر، هنا نكون ألصق صحبة منا وسط الزحام، أو حتى في حجراتي، ألست تفهمين ذلك؟»
فأجابت مصممة: «لست أفهم شيئا!» وقد اعتزمت أن تحتفظ بعدم إدراكها بغير مساس، وواصلت حديثها بنغمة أخرى، قالت: «لست أفهم شيئا.» وبخاصة لماذا لا تتناول السوما عندما تساورك هذه الأفكار المزعجة، إنك لو فعلت لنسيتها بتاتا، ويحل المرح الشديد في نفسك محل الشقاء، ثم انفرجت شفتاها عن ابتسامة، قصدت من ورائها أن تداهنه وترغبه وتثير شهوته، برغم ما كان يجول في عينيها من القلق والحيرة.
Página desconocida