وذكرت هذه العبارة «حتى الناس من طراز «ه» ...» ليننا فجأة بحادث وقع لها أيام أن كانت طفلة بالمدرسة، وذلك أنها تيقظت مرة في منتصف الليل، وأدركت لأول مرة الهمس الذي كان لا يبارحها كلما نامت، عاد إلى ذاكرتها شعاع القمر، وصف الأسرة الصغيرة البيضاء، ورن في أذنها ثانية ذلك الصوت الناعم الذي كان يردد هذه العبارة: «كل فرد يعمل للأفراد الآخرين، إننا لا نستغني عن أحد، حتى أبناء «ه» نافعون، لسنا بغنى عنهم، كل فرد يعمل للأفراد الآخرين، إننا لا نستغني عن أحد ...» (وقد ذكرت الكلمات بنصها، ولم تغب عن ذاكرتها - ولن تغيب - بعد تكرارها عدة ليال طوال)، وتذكرت ليننا أول صدمة من صدمات الخوف والاندهاش، وتأملاتها خلال نصف ساعة من ساعات اليقظة، ثم تذكرت ما كان يحدث لها تحت تأثير ذلك التكرار، الذي لا ينتهي من هدوء عقلي تدريجي، هدوء يزحف عليها خفية وخلسة.
وقالت بصوت مرتفع: «أظن أن أفراد «ه» لا يهمهم فعلا أنهم من طراز «ه».» - «طبعا لا يهمهم ذلك، وكيف يهتمون وهم لا يعرفون كيف يكون المرء غير ذلك، نحن طبعا يهمنا الأمر، ولكن ذلك لأننا تكيفنا بطريقة أخرى، ثم إنا فوق ذلك نبدأ بوراثة تختلف عن وراثتهم.»
قالت ليننا وهي واثقة: «أحمد الله أني لست من «ه».»
قال هنري: «ولو كنت من «ه» لتكيفت على صورة تجعلك تحمدين الله، على أنك لست من الألف أو الباء.» وأدار المحرك الأمامي ودفع بالطائرة نحو لندن، وكاد يتلاشى خلفهم في الغرب لون السماء القرمزي والبرتقالي، وزحفت سحب الظلام إلى كبد السماء، وبينما كانا يطيران فوق محرقة الجثث، اندفعت الطائرة إلى أعلى في عمود الهواء الساخن المرتفع من المداخن، ثم هبطت بغتة عندما مرت بالمنطقة الباردة خلف المداخن.
وضحكت ليننا مسرورة وقالت: «ما أعجب هذه الحركة الرجعية!»
ولكن هنري أخذ يتحدث في اكتئاب فترة وجيزة من الزمن، قال: «هل تعلمين ما هذه الحركة الرجعية؟ هي كائن بشري اختفى نهائيا، لقد ارتفع في دفعة من الغاز الساخن، وإنك لتعجبين من يكون ذلك الشخص - رجلا أو امرأة، من الألف أو الهاء ...» ثم تنهد وختم حديثه بصوت ينم عن الابتهاج والعزيمة، قائلا: «على أية حال، هنالك أمر واحد نستطيع أن نكون منه على ثقة، أيا كان ذلك الشخص فقد كان سعيدا حينما كان على قيد الحياة، فإن كل إنسان اليوم سعيد.»
ورددت ليننا عبارته قائلة: «أجل إن كان إنسان اليوم سعيدا.» فقد سمعا هذه الكلمات تتكرر مائة وخمسين مرة كل مساء مدة اثني عشر عاما.
وهبطت الطائرة فوق سطح بيت هنري ذي الطوابق الأربعين في وستمنستر، فتوجها توا إلى قاعة الطعام، حيث تناولا معا وجبة فاخرة وهما يصيحان من فرط السرور، أخذت ليننا قرصين زنة الواحد منهما نصف جرام، وأخذ هنري ثلاثة. ولما بلغت الساعة التاسعة والثلث عبرا الشارع إلى مرقص (كاباريه) وستمنستر آبي الذي افتتح من عهد قريب، وكانت ليلة غير مقمرة صافية مرصعة بالنجوم، ولكن هنري وليننا لم يدركا - لحسن الحظ - هذه الحقيقة المقبضة؛ لأن «علامات السماء» الكهربية أخفت الظلام الخارجي كل الإخفاء، وطالعا هذه العبارة «كالفن ستو بز وفرقته المكونة من ستة عشر عازفا على السكسوفون»، وقد كتبت خارج مرقص آبي الجديد بخط عريض براق يجذب المارين، وطالعا كذلك هذه العبارة: «أجمل أراغين لندن للعطور والألوان، أحدث موسيقى مركبة.»
ودخلا المرقص، وكان الهواء حارا ساكنا تشم فيه عبير العنبر وخشب الصندل، وعلى قبة سقف الردهة كان أرغن الألوان في تلك اللحظة، يشع ضياء كضياء الشمس الغاربة في المناطق الحارة، وكان العازفون على السكسوفون الست عشرة ينشدون الأغنية القديمة المحبوبة ، التي تبدأ بهذه العبارة: «ليس في العالم كله قارورة مثل قارورتي الصغيرة العزيزة.» وكان بالقاعة أربعمائة زوج يدورون حول أرض الردهة الصقيل، وهم يرقصون الرقصة ذات الخمس خطوات، وسرعان ما انضم هنري وليننا إلى هذه المجموعة الراقصة، وكانت آلات السكسوفون تنوح كأنها القطط ذات الصوت الرخيم تحت القمر، وتئن بصوت مرتفع مرة ومنخفض مرة أخرى كأن الموت يقترب منها، والجوقة ذات الصوت المرتجف - وهي غنية بما تعرف عن علم قواعد الألحان - علت نغماتها حتى بلغت القمة، لقد أخذت تعلو ثم تعلو حتى لوح في النهاية رئيس الفرقة بيده، فانطلقت النغمة الأخيرة للموسيقى الأثيرية وقضت على غيرها من النغم، وبذا بدد الرئيس الستة عشر عازفا من البشر العادي من الوجود، وقصف الرعد من أحد المفاتيح، ووسط الضجيج والأضواء ارتفعت بالتدريج نغمة عجيبة، وأخذت نغمة أخرى في الانخفاض شيئا فشيئا، وظلت خافتة فترة ما، فكانت مجموعة عجيبة من الأنغام، وأخيرا حدث انفجار فجائي، صحبه الستة عشر عازفا منشدين:
قارورتي، كنت دائما بحاجة إليك!
Página desconocida