فاحمرت ليننا خجلا، وتوردت وجنتاها، ولكنها تحدت زميلتها بنظرة عينيها ونغمة صوتها، وأجابت في شراسة شديدة، قالت: «كلا، لم يكن هناك رجل آخر، ولست أرى البتة لماذا يكون هناك ثان.»
ورددت فاني عبارتها: «لست أرى البتة لماذا يكون هناك ثان.» وكأنها توجه الخطاب إلى منصت غير مرئي خلف كتف ليننا اليسرى، ثم غيرت نغمة صوتها فجأة، وقالت: «ولكني أظن حقا - وأنا جادة - أنك ينبغي أن تحرصي. إن دوام صحبتك لرجل واحد سيئ جدا، إذا كنت في الأربعين أو الخامسة والثلاثين، فإن الأمر لا يكون سيئا إلى هذا الحد، ولكنه لا يليق بك البتة في سنك يا ليننا، وأنت تعلمين كيف يعترض المدير بشدة على كل تركيز أو مواصلة في أي شأن من الشئون، أربعة شهور مع هنري فستر، دون أن يكون لك رجل آخر، أحسب أنه يغضب لو عرف ...»
قال المراقب: «تخيلوا الماء تحت الضغط في إحدى الأنابيب.» فتخيل الطلبة ذلك، ثم قال: «سأطعنه مرة، وسوف ترون مقدار انبثاقه.»
وطعنه عشرين مرة، فتفجرت عشرون نافورة صغيرة، يتحدر منها قطرات صغيرة من الماء. - «ولدي، ولدي! ...» - «أماه!» إن الجنون معد. - «حبيبي، وحيدي، عزيزي، عزيزي ...»
الأم والزواج من واحدة والهيام. وانبثقت مياه النافورات إلى أعلى، وكان انبجاسها مزبدا شديدا، ولم يكن للدافع سوى مخرج واحد، حبيبي، ولدي. لا عجب إن كان هؤلاء القوم المساكين السابقون لأبناء العصر الحديث مجانين خبيثين تعساء؛ فإن دنياهم لم تسمح لهم أن يكونوا أصحاء العقول فاضلين سعداء، ذلك أنهم كانوا يعانون وجود الأمهات والمحبين، والمحرمات التي لم يألفوا اقترافها ، ووسائل الإغراء ووخزات الضمير عند الوحدة، والأمراض وآلام العزلة التي لا تنتهي، والشكوك والفقر، وإذا كان إحساسهم بذلك شديدا، يزداد في حالات العزلة الفردية التي لا رجاء فيها، فكيف يستقرون؟ - «ليس ثمة بك حاجة إلى التخلي عنه، ولكن ليكن لك غيره من حين إلى آخر، هذا كل ما في الأمر، فإن لديه بنات أخريات، أليس كذلك؟»
فاعترفت بذلك ليننا. - «بالطبع، وثقي أن هنري فستر هو الرجل المهذب الكامل، وهو دائما على صواب، ثم هناك المدير تعتبرين به، أنت تعرفين أنه يصر على أن ...»
وأومأت ليننا برأسها وقالت: «لقد ضربني من الخلف ضربة خفيفة اليوم بعد الظهر.»
فانتصرت فاني وقالت: «ها أنت ذا، إن هذا يبين لك عقيدته، التقيد بالقديم إلى أبعد الحدود.»
وقال المراقب: «الاستقرار، الاستقرار، لا حضارة بغير استقرار اجتماعي، ولا يكون الاستقرار الاجتماعي بغير استقرار الفرد.» وكان صوته كالبوق، استمع إليه الطلبة فأحسوا بالعظمة وبالدفء.
إن الآلة تدور ثم تدور، إنها تدور إلى الأبد بغير انقطاع، والموت إن وقفت، إن ألف مليون نقشوا قشرة الأرض، ثم بدأت العجلات تسير، وفي خلال مائة وخمسين عاما كان هناك ألفا مليون، ولو وقفت العجلات جميعا هبط العدد مرة أخرى إلى ألف مليون فقط في مائة وخمسين أسبوعا، فإن ألف ألف ألف رجل وامرأة يهلكون ويفنون.
Página desconocida