Mundo de Presas y Restricciones
عالم السدود والقيود
Géneros
جاءني مأمور السجن عصر اليوم الذي سأغادر السجن في غده، وقال لي: إنه لا يعلم في أي ساعة سيكون الإفراج، فيحسن بي أن أكون على استعداد للخروج منذ الصباح الباكر، وإنه لهذا سيرسل لي الحلاق بعد هنيهة ليحلق رأسي ولحيتي التي مضت عليها ثلاثة أيام، ولا يحب رجال السجن أن يخرج السجين من عندهم على هذا الحال؛ لأن رؤية اللحية الطويلة تلقي في روع الناس أن السجين خارج من مكان يكثر فيه الإهمال وتقل النظافة والنظام.
والحلاقون في السجن هم حلاقون مسجونون يزاولون هذه الصناعة ويحسدهم أصحاب «الأشغال» الأخرى؛ لأنهم يرون أن الحلاقة عمل خفيف لطيف لا مشقة فيه، وكانوا يزوروننا في الحجرة مرتين كل أسبوع فتسمع منهم قصص السجن بجميع أنحائه؛ لأنهم يطوفون على جميع السجناء، والعجيب أن هؤلاء الحلاقين على كثرتهم كانوا من المتهمين في قضايا المخدرات إما بالتعاطي أو بالاتجار، وكانوا لهذا يعلمون من أخبار الحياة الاجتماعية العالية والوضيعة ما يشوق الاطلاع عليه، وقد نسوقهم إلى ذكره إن آثروا السكوت أو خشوا رقابة الحراس.
أما في هذه الحلاقة الأخيرة فقد كان يعنيني أن أفرغ منها في دقائق عاجلة؛ لأنني فوجئت بتغيير نظام الخروج، وكان لا بد لي من إبلاغ ذلك إلى أخي الذي كلفته أن ينتظرني بباقات الزهر على مقربة من السجن حوالي الظهر موعد الإفراج المعتاد، وقد كان ضريح «سعد» الذي أعددت له تلك الباقات على طريق «قره ميدان»، وكان يتردد بيني وبين أخي بالرسالة والجواب بعض الموظفين وهم ينصرفون بعد العصر بقليل، فإذا فاتني أن ألقى واحدا منهم قبل انصرافه فقد اختلف التقدير واختل الحساب، وقد أزور ضريح سعد عقب خروجي ولكن بغير أزهار، أو أزوره ومعي الأزهار، ولكن بعد أن يبطل معنى هذه الزيارة التي قصدت أن تكون أول ما أباشر من عمل الحرية.
وشاء الحلاق أن يبتليني في هذه الحلاقة الأخيرة بكل ما اشتهر به أبناء صناعته في أحاديث الغابرين والحاضرين من حذلقة، وثرثرة، ومضايقة، وإعنات.
والحق أنني كنت أسمع بهذه الشهرة وأقرأ روايات الرواة عنها في كتب العرب والإفرنج فأحسبها من مبالغات الهازلين؛ لأن الله لم ينكبني قبل ذلك بحلاق ثرثار، أما في ذلك اليوم فقد عرفت أن الحقيقة أكبر من مبالغات الجادين والهازلين في بعض الأحايين، وأخذ هذا الحلاق «الظالم» بحقوق جميع المظلومين من أبناء الصناعة!
وضع صاحبنا في ذهنه أنني خارج غدا وأن الناس سيلقونني فلا يلتفتون إلى شيء غير «حلاقتي» النظيفة وغير العجب من أن أظفر بهذه الحلاقة الفاخرة بين جدران السجون! وسيتحدثون ولا يسألون عن شيء في حديثهم إلا أن يعرفوا اسم ذلك «الفنان» المغمور المدفون في تلك الغيابة المظلمة، وسيلبثون منتظرين متشوفين حتى يأذن الله برده إلى حانوته المجهول فيتسابقوا إليه وينبذوا من كانوا يعبثون في رءوسهم ولحاهم من جهلاء الحلاقين، ويحمدوا الله أن سعدوا بجلسة تحت يدي هذا النابغة العظيم.
وضع صاحبنا في ذهنه هذا الخاطر فأحفى غاية الإحفاء وأمعن غاية الإمعان، وطفق يفهمني أنه ما من عدة يستعد بها الحلاقون في الأماكن المنتظمة إلا وهو قادر على الاستغناء عنها بحيلة من الحيل وبراعة من البراعات، ومضى يجرب تلك الحيل وتلك البراعات حيلة حيلة وبراعة براعة ليريني صدق ما يقول رأي العين، وأنا أقرظ وأزكي وأعيد التقريظ والتزكية، ولا جدوى ولا نجاة.
وأخذت أنبهه إلى أنني مستعجل وهو لا يتنبه، وأرجوه أن يسرع وهو لا يزيد على قوله «حاضر» ثم ينساها بعد لمحة، ويدأب على ما كان فيه كأبطأ ما يكون الإبطاء وأدق ما يكون التدقيق.
وتململت وهو لا يحفل، وتأففت وهو لا يكترث، وظن أخيرا أنه فهم لماذا أتململ وأتأفف وأن «الدنيا» حر وقد كانت «حرا» حقا؛ لأن الشهر شهر يوليو والساعة ساعة الأصيل، فلما قلت له: بل إنني «أنتفض» من البرودة ضحك وأغرب في الضحك وظن أنها «نكتة» وأنه وهو «واحد» من أبناء البلد لا يليق أن تفوته هذه النكتة دون أن يوفيها حظها من المزاح والتعليق!
فما العمل؟
Página desconocida