Mundo de Presas y Restricciones
عالم السدود والقيود
Géneros
تقدمت في علم السجن بعد يوم واحد خطوات سريعات، وعلمت مركز الدور الذي أنا فيه - وهو الدور الخامس - بين أدوار السجن عامة، وعلمت ما له من الشرف والوجاهة المرموقة في تلك المدينة الصغيرة التي يسكنها نحو أربعة آلاف، فإنه هو محور حركة التهريب والحيل والمناورات.
وليس التهريب في السجون بالشيء الهين ولا بالطلب اليسير؛ لأنه هو الدفاع الوحيد الذي ينتقم به المسجونون من الأسوار والقيود والحراس، وهو فسحة الحرية الباقية لمن فقدوا الحرية، فعليه وحده تنصب جميع الجهود والحيل والخبائث، وله وحده تجارة واسعة النطاق تجري على معاملات خاصة ولغة خاصة ومواصلات خاصة، لا يكفي للعلم بها يوم واحد، ولكن لا يمضي يوم واحد على السجين حتى يأخذ في العلم ببعضها، ثم لا يزال في الافتنان والمزيد ما شاء الله أن يهبه من سعة الفهم والنبوغ!
والتبغ والحلوى هما عماد المهربات جميعا في السجون، وهما السلعة التي يغالي بأثمانها من يطلبونها هناك حتى يبلغ ثمن اللفيفة الواحدة خمسة قروش، وثمن عود الثقاب قرشا أو أكثر، وثمن القطعة «من الحلاوة الطحينية» كثمن اللفيفة من التبغ وربما زاد عليها في بعض الأحيان.
ولكل سلعة من السلع المهربة، بل لكل شيء من الأشياء التي يتصل بها السجناء رمز من الرموز، يعرفه كل من في السجن ولكنهم لا يزالون مصطلحين عليه بعد انكشاف سره وافتضاح صفره، فالحارس يعلم أن «الزمارة» هي اللفيفة، وأن «العين» هي النار من ثقاب أو غير ثقاب، وأن «العربة» هي الحارس نفسه، وأن السجين الذي يقول لزميله: «حاسب العربة فايتة.» إنما يعني أن الحارس في الطريق، ولكن السجناء مع هذا قد ألفوا الكناية والتخفي والزوغان فنسوا الكلمات الواضحة وصمدوا على هذه المصطلحات والرموز.
والدور الخامس فيه سجناء المحاكم المختلطة أو «الحمايات» كما يسمونهم هناك، وهم مميزون بطعام غير طعام السجن يشتمل على الخضر واللحم والفاكهة والحلوى كل يوم، ولهم في الإفطار كوب كبير من الشاي وبيضتان، وفي المساء جبن أو ما شابهه من طعام محرم على سائر المسجونين.
وفي الدور الخامس قسم آخر من سكان السجن المجدودين في نظر الزملاء الآخرين، وهو قسم المحبوسين على ذمة التحقيق الذين يسمح لهم «النظام» بالطعام واللباس من المنازل، فيصل إليهم كل يوم دجاج ولحوم وخضر مطبوخة وفاكهة وحلوى وألوان من «الثمرات» المحرمة المشتهاة في ذلك الجحيم.
وهؤلاء يشتاقون «التبغ» إن كانوا من المدخنين فيجدون في «العنبر» من يشتاقون الحلوى واللحوم ويملكون اللفائف أو «الزمامير» للبيع والمقايضة، فتنعقد الصفقات وتظهر البراعة والافتنان في التوصيل والتسليم.
على أن البيع لا يجري كله بالمقايضة ولا غنى فيه عن «النقد» في كثير من الأحيان، أما حمل النقد فممنوع في نظام السجن ولكن هل يمنع بلع النقد واحتواؤه في الأجواف؟ هيهات! ومن هنا كانت العملة المختارة في السجن هي قطعة القرشين الفضية وقطعة «نصف الجنيه» الذهبية، وما عدا ذلك من القطع فهو شذوذ يتوقف عليه شذوذ المعدات والأمعاء، ومنها ما تصل طاقته في الشذوذ إلى ربع ريال، وقد تزيد على ما يقال! •••
ولم تمض علي ليلة في السجن حتى عرف الخبثاء المتربصون أن هناك فرصة للاستغلال لا ينبغي أن تضيع، فاستغلوا جهلي بكل ما استطاعوا من وسيلة وحيلة، وكانوا موفقين كل التوفيق.
جاءني خادم الحجرة في الصباح الأول بعد الإفطار، وأنا لا أعلم بطبيعة الحال شيئا عن المحظورات والمباحات وأولها إعطاء الطعام والفاكهة لخدام الحجرات، فأعطيته كل ما بقي من الموز والفاكهة في السلة، ففرح بها وتهلل وجهه وأسرع فخبأ بعضها تحت لبدته ولف بعضها في سرواله، وتسلل من الحجرة إلى حيث لا أعلم، فأدهشني أنه لم يأكل ما أعطيت وظننت أنه يخفيه عن أصحابه حتى ينفرد بأكله في ناحية، ولكني عرفت بعد ذلك أنه باع معظمه بزمارة! وقنع منه بأكل القليل.
Página desconocida