إهداء
بيته
جنازته
جنونه
حريته
سيرته الذاتية
شوفه
ذات يوم بارد
صنم
عريس
قلبه
مهنته
ميلاده
ابنته
في ذكرى مرور أعوام كثيرة على مغادرة بوذا لمدينة أسيوط
إهداء
بيته
جنازته
جنونه
حريته
سيرته الذاتية
شوفه
ذات يوم بارد
صنم
عريس
قلبه
مهنته
ميلاده
ابنته
في ذكرى مرور أعوام كثيرة على مغادرة بوذا لمدينة أسيوط
على هامش الأرصفة
على هامش الأرصفة
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى روح الجميلة، النظيفة، النقية، الشفيفة، مريم بت أبو جبرين، أمي.
عبده بركة
بيته
حريق
حاجة لله.
قلت لنفسي: تدعي بأنك تفكر بالحل الفردي، بينما كنت وما زلت تبحث عن حل فردي بحجم ذاتيتك لا أكثر.
اليد الحطبية تمتد، الوجه يصعق وجهي، فقر وحل، لكن لكي يحق ولو شيئا من الحق أقول: في طفولتي لم أكن بأحسن منه حالا، صديقي الصغير حمزة ولد الفلاتية، لا أعرف شيئا عن أسرته غير أن والده توفي بالأمس، دائما بالأمس كان يقاسمني بقايا الخبز الذي يحصل عليه بسبله الخاصة، وأقاسمه صيدي من «تسالي» وصمغ زريبة المحاصيل، سعداء كنا في بالوعة فقرنا ويتمنا، لكنا لم نسأل الناس، ولو أنا سرقناهم ما أمكن، فكنا كمن قال عنهم دستويفسكي: «من أولئك الذين خلقهم الخالق ثم نسيهم.»
ربنا يعطينا ويعطيك، ربنا يزوجك، ربنا يطيل عمرك، ربنا يعيدك لبيتك سالما.
قلت لها بجنون متشرد مأزوم: كذبت، كذبت، كذبت!
مكبر الصوت ينثر في فضاءاتي قرآنا كريما، تخالطه جلبة الباعة الجائلين ... توت ... توووت ... آيات المقرئ، سيارات البيجو والفيات تحلق حول دوران النافورة ناشرة أجنحتها الغبارية، أتوبيس هيئة النيل للنقل، شحاذون يسألون حق صمتهم. كنت غريبا في المقهى «غربة الشيطان»، كما يحلو لأمي القول، صامتا كنت، حزينا ومعقدا كمخيلة صوفي، قد أبدو مجنونا لدى بعض العقلاء، وعاقلا لدى كل الشحاذين، زحمة برأسي أيضا، وضوضاء طاحونة من الصخب اليومي المتراكم، أمي عاملة المزارع الموسمية، فقر أختي، يتمي، جموح امرأة جنيهات، امرأة لا أحبها أعطتني كثيرا من عاطفتها وحرام حلمها، امرأة أجحها ناومت منها المستحيل ضوء القمر، وأشباح وأطياف تسللن من ظلها، أما الحياة فلم تعطني شيئا أكثر مما تستحق، وهبتها ما أمكن من العمر، ابتسمت في قبح أحزاني، ضحكت، أنا مفجوع، تراني عندما يطفئ النادل فوانيسه أحمل كتبي أتمعن المجهول جيدا، كأنني أصيح في وجه الرب. «مبيت لله».
قد أبتسم وأنا أماوت هذه الأفكار، مثل بقية الخلق، أبتسم لأنني تعلمت من أمي كليمات قديمات: «بكرة ينسيك دا كله.»
بعنا فأسه بكيلو من السمك الجاف «الكوركي» بسوق الشمس ما بين مستشفى المدينة الذي مات به والبنك الباركليز، بعنا سراويله ما عدا تلك المزيقة التي كان يرتديها أثناء العمل؛ نعله، مقاييسه، بعنا منشاره الجديد - اشتراه قبل وفاته بثلاث سنوات - القدوم، أيضا الفأرة، ما تبقى من أخشاب بالمنزل، أمي احتفظت بمقياس الزاوية الرخيص من أجلي؛ فغدا أكبر وأصبح نجارا ماهرا مثله في كل شيء إلا في شرب العرقي والمبيت خارج المنزل مع نساء فريق الخور أو السرة طليقة عبد الرحيم البوليس ... طبيخ اللوبيا بالسمك الجاف يثير كل غرائز البؤس في نفسي، يثور بركان الغثيان ولا يهدأ، ولأن أمي - اسمها عائشة - تحبنا، ومن خلال مساحات فقرها الصفراء تعطينا ما أمكن؛ فلم أجد بدا من حبها حبا مقدسا لا تحده حدود الأزمنة أو الأمكنة أو العوز.
حبوب الفاصوليا شبه النيئة تتجمع حولها خيوط البامية الجافة وشرائح السمك، كنت وأختي - علوية - نلتقط قطع السمك الصغيرة اللذيذة الطعم متجنبين الفاصوليا، نسمي ذلك «لعبة الضيف». أحب أنا الملوخية المفروكة باللحم الجاف، لا باللوبيا البيضاء. - حاجة لله. - (...) - ربنا يزوجك، ربنا يدخلك الجنة، ربنا ... ربنا ...
لم أحلم في يوم ما حلما مستحيلا، أو بأكثر مما أستحق، أحلامي بسيطة متواضعة ملساء عادية الرائحة والطعم وممكنة المشاوير، لدرجة أن الكثيرين كانوا يسخرون مني إذا عرفوا أن حلمي لا يتعدى مائة دولار أمريكي، شريط تتراسيكلين، فانلة داخلية، وشيئا من النساء قليلا، وربما أحلم أيضا أن تبادلني المرأة التي أحبها حبي، سقفا يؤويني، آخر عدد من مجلة الماغوط - شعر - وآخر عدد من مجلة الناقد اللندنية، رسالة من أي إنسان كان، من أي وطن كان، أتعشى ثم أتمشى حتى الفجر متجولا في شوارع مدينة الله في صحبة صديقة أفكر فيها بجدية حينما نفترق، ثم أدلف إلى سقفي وفي جيبي جنيه واحد وثلاث سيجارات لايت. وربما حلمت - أيضا - بشهادة ما، بيت ما، امرأة، طفلة ... ولكن أبدا ليست سماء أخرى أو طينا أخصب، فقط هجرة إلى أوروبا أتجنس إنسانا، أكتب بلغتهم، أقرأ، أعمل ثلاث ساعات في اليوم، ثم أرسل بالبريد الدولي
D. H. L.
مائة دولار لأمي في نهاية كل شهر. - حاجة لله. - (...)
لا، لم تعطني الحياة شيئا، حسنا ابتسمت كعادتي وأنا أسمع البنت التي أحبها تقول في همس شاعري «ممقوت»: أنا أؤمن بالعاطفة، العاطفة المجردة، بالحب، بالحب كقيمة إنسانية سامية، لكن في مسألة الارتباط يجب أن نفكر في المستقبل، الإنسان لا بد أن يخطط للمستقبل بجدية.
هدير محرك عربة الجنود، معاكستهم لفتاة تدعي عدم الاهتمام ليس بمعاكسة الجنود فحسب، بل بكل تفاهات الوجود غير إيقاع كعبها العالي، قرآن مكبر الصوت الكريم ... «خالدين فيها» كلمة ضاعت في صخب الشارع «العظيم»، ودين أمي ما عنديش فكة ... ما على المؤمنين ... هل أنا أوضع من أن أنالها ... هتاف الجنود ... الجنود في كل مكان، أنا لم أطلب أكثر من مواهبي؛ فتاة أحبها، فلتحبني، أما وطني فمنذ أن أنجبتني أمي - عائشة - رسمته على صدري وأطلقتني صوبه كالقذيفة. عندما كبرت تعلمت، عرفت «أنك قد لا تجد وطنا يحتويك، لكنك بلا شك تحتوي أوطانا في ذاتك». - أرجوك. - «ما فيش». - أبي ميت، أمي مريضة، أخي في السجن، وأنا جائعة!
صديقي الصغير مات أبوه بالأمس، دائما بالأمس، سرقنا أرغفة مطعم «الشعب» معا، اقتسمنا شلنا وجدناه بسوق الخضار، وعجورة كادت أن تفسد، ترادفنا على عجلة الأجرة الصغيرة، جلسنا عند باب السينما «الوطنية» نتصيد الأغاني الهندية وفرقعة المسدسات، سعدنا بتفاهات بائعة الفول السوداني والتسالي «فطومة كانت جميلة، خبيثة ولئيمة، ولا تخفي حبها للصبيان»، وبقدر حبي للحياة نقمتها علي.
القطة الحبلى السوداء تمسح بطنها الناعمة بساقي الجافة الملساء، تذكرت القطة السعرانة التي عضت أحد المؤتمرين الكبار، مندوب إحدى الشركات عابرة القومية، بقاعة محترمة، سحبت رجلي وأنا ألصق نظري وتفكيري بالبعيد، ما وراء البعيد، هل ... هل ... لأبي؟! أصحيح ما قاله المعري حين فاض به خريف التشاؤم: أهذا ما جناه علي أبي؟
قافلة من السيارات الأمريكية الألمانية وبيجو فرنسا الشهير، تتقدم المرسيدس المزينة بأجمل ألوان الدنيا، اثنان من الموتوسيكلات، عاصفة من الأبواق: تيت تيت، تت تيت، تيت تيتي، تت تت تيت ... قرآن مكبر الصوت الكريم تداخله زوبعة الطريق، المشاة، الباعة الجائلون، صفارة قطار «الثانية عشرة» ... «حسنة لله يا بيه» ... ابتسامة بائسة متكلفة ... «قق، قق، قق شيشه» عاصفة في ... - عاوزة شلن. - اسمك مين؟ - صباح. - اسم والدك؟ - مات والدي مات، ليست لنا أرض، أمي مريضة، أخي مسجون وأنا جائعة.
أمي كانت تؤمن «بغد»، إذا أمي مستقبلية؛ لذا عندما نفدت سراويل أبي وعدة نجارته، علمتنا كيف نشارك النملة قوتها ونحن نتفحص واجهات البنوك المبهرجة العتيقة غير حاقدين ولا شامتين ... فقط حالمين.
عندما عرفت الفتاة - التي لا أحبها - أنني غريب، بكت كثيرا كعاصفة هوجاء. - أنت لست من هنا؟!
غربتي لم تمنعني من النوم على حجرها، فهي على كل غريبة أيضا؛ لأنها لم تجد نفسها إطلاقا، غريبة بعمق، ثم احتفظت بضفيرة محرمة منها، عندما تساومني الطبيعة بمثل هذه الوخزات اللذيذة أرفضها - لأنني أدعي الكفر بالحل الفردي - أكتئب مثل طفل مخطئ أجل والده عقابه للمساء.
السائلة الصغيرة، جلاليبها المهترئة، وجهها المبرقع، القبيحة قبحا متعمدا كما لو كانت في حفلة تنكرية، المسكينة تحايلا وفعلا، المقززة، تلميذة الرب المزيفة، من يبعدها عني؟
غير الرب؟!
صديقي الصغير كان يناومهن تحت الكوبري المظلم خلف نادي التعليم، أو ما بين محطة القطار والورشة عند الجنينة المظلمة المفترشة بالزيت الفاسد والجازولين، «يفترش الكرتون وجوالات الخيش الفارغة»، أما أنا فكنت أفكر فيهن كما يلي:
أختي «علوية» لها جلباب واحد من التيل المورد الرخيص اشتراه أبي لها، حينما أنجز حجرة نوم «أسامة» ابن المليونير «عبد الغني»، ذلك في عيد الأضحى قبل وفاته بعام واحد.
أختي «علوية» لها من العمر ثلاث عشرة سنة، امتلأ صدرها في ثورة أنثوية، استدارت أطرافها، نعم صوتها حتى أصبح مثل صوت خالتي «آمنة».
أختي «علوية» جاعت مثلي، بل أكثر؛ لأن بطنها الصغير كان لا يختزن غير قليل من السمك الجاف والفاصوليا؛ لذا فهي دائمة الشكوى من ألم الجوع.
أختي علوية تعرف تماما أنها تمتلك ما لا أمتلكه، ولو أنها تخاف من نار يوم القيامة ... إلا أنها تحب الحياة، لا تتعجل الذهاب إلى الآخرة، فكيف تقهر جوعها المميت حتما؟!
لم تعطها الحياة شيئا، وكأن لها معنا ثارات الحسين بن علي - رضي الله عنهما.
رماد
أطفأ النادل فوانيسه.
أو غنى بصوت قلق باهت، تثاءب.
الناس، كل الناس يمشون نحو بيوتهم في شوارع الله الفسيحة، نحو بيوتهم دائما.
أما الشاعر فيرهن قلمه، أوراقه، كتبه، كله؛ للنادل، ثم بكل هدوء وطمأنينة يموت وكأنه يهمس في وجه الرب: مبيت الله.
1 / 4 / 1992م
جنازته
في ذلك الحين كنت ترغب بشدة في الموت، بعد تردد دام شهرا كاملا، ليالي قضيتها حزينا مؤرقا غارقا في وسواسك، خطاياك وأحزانك، قلت له بصدق تام: اقتلني، دعني أسكر ثم اقتلني.
قال وهو لا يزال يعالج ثقبا بجلبابه القديم بصبر وصمت، ورفع نظره إليك في برود الموتى: سأقتلك.
قالها بشكل عادل خال من أي انفعال، وكأنه اعتاد على قولها آلاف المرات في اليوم، ربما لم يسمعك، يشغله جلبابه المهترئ، قد يكون شارد الذهن في حينها، كررت لدهشتك قولك: أقصد تقتلني، تقتلني.
قال: سأقتلك.
ثم غرق في هدوئه ليحيك جلبابه، لم يسألك لماذا، أو قل يراجعك ولو مجاملا، يا لهذا الرجل الغريب! لا بد أنه ينتظر منك ذلك، وماذا يمنع؟ إنه يضمر لك حقدا وكراهية، قد يتآمر على قتلك، من أدراك؟ لكن لماذا يريد قتلك؟
عندما عدنا من المعهد على الباص العام، فقط رأيته لأول مرة، كأنه كان مختبئا في قمقم وأطل فجأة، بدوي كث الشعر، عيناه ذكيتان ضيقتان ثاقبتا النظر، هادئ، لا تنس أنه هو الذي بادأك الكلام، فكرة البحث عن «قطية» للسكن بالمدينة، لم تشك في نواياه في تلك اللحظة، كان يحب أن ينام ملاصقا لسياج «القطية»؛ ليخطط بقلمه على شعاب الطلح البيضاء بعد أن يتخلص من قشورها الخشنة. للطلح رائحة زكية، لديه خوف فطري من القطط.
هل كنت تقرأ ما يكتبه؟ قد تجد مفتاحا لأسراره وخبائثه، عندما طلبت منه أن يبادلك مضجعه ارتبك، رفض بشدة، حينما لاحظ تحايلك لقراءة ما خطه على سيقان الطلح أخذ يمحو كتابته، رغم ذلك استطعت أن تقرأ كلمة هامة: «الموت»، اسم زينب يتكرر باستمرار - زينب الخائنة - لاحظت أن ضوء المصباح الزيتي بدأ يتضاءل ويبهت، لم تشك في أنه وراء ذلك، لم تستطع أن تفسر انهماكه في الأيام الأخيرة في قراءة الروايات البوليسية، لم تلاحظ أنه أخذ يفتعل الخصام معك، كم أنت مسكين! بينما يتآمر أحدهم على قتلك، لكن ألم تختر الموت بكامل حريتك ووعيك؟ لكن لماذا لم يتأكد من رغبتك في ذلك؟ ربما كنت أهزل، ثملا، أو جننت، أو ... لم تستيقظ من نومك إلا عندما اكتشفت زجاجة الخمر المخبأة تحت السرير، عرفت في حينها سر شراء سكين المطبخ الجديدة والجوال، كل شيء حتى نظراته المريبة، كنت متيقنا أنه لا يسكر إطلاقا، فها هو ينصب لك الشراك في صمت، صبر وخبث.
ينام في هدوء، لكن في هذه الليلة كان يهذي كالمجنون - بزينب - خائنة يقول عنها. في الأيام الخوالي حدثك عنها كثيرا، كان اسمها منحوتا عميقا على ساق الطلح، تذوقه، خمرا بلا شك، كانت جرعة هائلة، أحسست بلذة ثم تورطت في الحاجة إلى كأس أخرى، لن تسكرك، تسللت إلى قطية المطبخ، جمعت كل الآلات الحادة ... الكبريت، الإزميل، حبل الغسيل، جالون الغاز ... كان الليل أهدأ من ابتسامة بوذا، يريد قتلك هذا المجرم، ألا يحتفظ بخنجر مسموم في مكان ما؟! أضأت الفانوس واستلقيت على الفراش لا لكي تنام، لكن لتبقى متيقظا مراقبا تحركاته.
كن حذرا، هبت الريح خريفية، أطفأت السراج، تستطيع أن تبقى صاحيا لن ينيمك الظلام، كح، انقلب في بطء، نهض فجأة، ها هو يصحو.
يحسبك نائما، وقف وسط الحجرة ثم مشى نحو الباب، ماذا يفعل؟!
خرج، عندما تأخر هاجمتك الظنون ، هل كان يبحث عن سكين، إزميل، أو حبل ليشنقك؟ أنت في كامل وعيك، لم تأت على نصف الزجاجة، ولو أتيت عليها كلها فإنها لن تسكرك، تموء القطط في الخارج، لن يقتلني هذا الوغد، حينما اندفق داخلا القطية صرخت في وجهه هائجا كالثور، مفزوعا: أنا لست سكران، لن تستطيع قتلي أيها المجرم!
لم تمهله، عاجلته بطعنة نافذة على صدره بسكين المطبخ، وأخذت تصرخ تهذي كالمجنون: أنا لست مجرما، لقد دافعت عن نفسي دفاعا مشروعا.
ثم احتضنت جنازتك ونمت.
16 / 8 / 1991م
جنونه
أخيرا انتصرت.
هتفت وأنا أحتضن خطاب نقلي إلى قسم المهملات بهيئة البريد والبرق، نضال شرس خضته، كلفني من الرشاوى والوساطات، الزمن والمشاوير - ما بين رئاسة الوحدة في العاصمة والفرع، ما بين واسطة وأخرى - الكثير.
انتصرت لأشبع رغبتي الحقة، التي في اعتقادي الخاص خلقت لأجلها، كما أنها هي التي خلقت من الحكماء بوذا وفلاسفة، من الأشخاص العاديين اليوميين أدباء، شعراء، فنانين، علماء ومبدعين. حقا هي الرغبة المقدسة التي تعرف بحب الاستطلاع، يسميها بعض المتشائمين الفضول. كانت أسعد أيام حياتي، تساقطت الخطابات المهملة على مكتبي كالغيث المبارك، بردا وسلاما، هذا نسي أن يضع الطابع، أو وضع طابعا بقيمة أقل مما يجب، خطابات خالية من العناوين، خطابات ثقيلة الوزن، يجب أن تسجل لكن لبخل أصحابها أو عوزهم انتهى بها المطاف إلى مكتبي، طلاب وعجائز يكتبون إلى أنفسهم، فيرتبكون في كتابة العنوان المرسل إليه أو ينسونه، كلها أرزاق تخصني، أصنف الرسائل المهملة - بعد قراءتها - إلى فصيلتين؛ «المثيرات» و«العاديات»، فأحتفظ برسائل الحب والعلاقات المشبوهة والأسرار الأسرية، رسائل المستوحدين إلى أنفسهم؛ لأنها دائما ما تكون صادقة ملتهبة بغموض أصحابها ومأزق وحدتهم، قد أرد على بعضها، معنفا هذا، لائما ذاك، معيبا، واصفا حلولا نهائية وعملية لمشكلة «س»؛ لأنني رجل فاضل فكنت أفعل ذلك بكامل النقاء، الشرف والطهر، فلا أتدخل إلا عند الضرورة القصوى؛ حيث لا مفر من إرضاء ضجيج الرغبة في إلا بالتدخل الشخصي السريع، رغم ذلك وقعت في فخ شيطاني لم أستطع حتى الآن حل لغزه أو فك طلاسمه المحيرة؛ كان النص الكامل لرسالتها لا يتعدى سبعة أسطر، كتبت بخط لين رديء لغة ركيكة، الرسالة معنونة إلى مكان مبهم لم يستوعبه ساعي البريد ... دائما، فكأنها أرسلت إلي شخصيا في مكتب إدارة المهملات:
مقابر المدينة - قبر أمي
أمي العزيزة، أنا تعبت وزهقت وكرهت حياتي، هذه المرأة اللعينة الشريرة التي جاء والدي بها إلى المنزل بعد وفاتك، هو الآن في السجن أو في موته لا أدري، تعاملني معاملة وسخة وغير أخلاقية، فما إن ذهبت إلى هناك حتى «...»
1
تزوجتني، أنا ... خجلة أكتب ذلك ... لكن أرجوك يا أمي أن تنقذيني منها، أرجوك، لا أظنك نسيتي عنواننا، لكني أذكرك إياه، إننا ما زلنا في نفس المكان، العنوان هو شارع «ج13، 31».
ابنتك المعذبة آستير
يوميا كان يصلني خطاب مستنسخ من هذا النص، فيشحنني برغبة هي جوع النار للريح، ولا بد من القول أيضا إنني أعرف هذا المكان جيدا وأسكنه.
الطابق الأخير يبدو جديدا، طرقت الباب، في أسرع مما أتوقع فتح، أطلت من خلفه فتاة بيضاء عميقة النظرات، لأول وهلة أحسست بألفة طاغية وعاطفة جياشة نحوها، كأنني أعرفها من قبل، إنها هي بلا شك. - تفضل.
بصوتها نعومة حلمية مثيرة، لحن من الجنون الغامض، قاعة الاستقبال المتسعة، الشمعدان، النجف الأجنبي يتدلى كالثريا من السقف، لمبات الزئبق، ورق الحائط الفاخر، تليفزيون ذو شاشة مسطحة ماركة
Hitachi ، تحته على الحامل ذي الأدراج يقبع فيديو من نفس الماركة، قد بدا لي أنه كان يعرض فيلما أوقف حين دخولي؛ نسبة للشيء الضئيل من الانزعاج الذي بدا على وجه المرأة الصفراء ذات العنق الطويل والضفائر المرسلة ... كراسي الجلوس الفخمة الناعمة التي ما إن جلست عليها حتى أودعتني أعماقها الدافئة، ابتلعتني تماما ... السجاد الإيراني، عبق المكان، كل شيء يوحي بالحياة، بالثراء الفاحش، لا أنكر أنني تآلفت أيضا مع المكان، تغلغل في عمقي، احتواني مثلما تحتوي التفاحة بذرتها. - أهلا.
المرأة الكبيرة الصفراء ذات العنق الطويل والضفائر المرسلة أجمل من الفتاة التي التقتني عند الباب، بعد قراءة سريعة لتقاطيع وجهها وفي مخيلتي نص الخطاب الذي كان، توصلت إلى أشياء كثيرة عن شخصيتها، أهمها «أنها شرسة، شبقة». - أنت من هذه المدينة؟
بادرتني المرأة الجميلة ذات العنق الطويل والضفائر المرسلة: نعم، من ذات المدينة. - لست من هذا الحي؟ - بل من ذات الحي. - لست من هذه الحارة؟ - بل من ذات الحارة. - لست من هذه العمارة؟ - بل من ذات العمارة. - لست من هذه الشقة، بالتأكيد؟
قالتها وهي تبتسم ابتسامة غامضة، لكنها مريحة ودية: بل من ذات الشقة.
تنهدت وهي تمسح كفيها بمريلتها النقية البيضاء، لم يبد على وجهها أي تأثير أو انفعال، كانت عادية كبرتقالة، في ذاتها ينام البحر. - لا بد من القول: كنت أقيم في الطابق الأرضي بعد رحيلنا من شقة 13، ذلك منذ زمن بعيد لا أستحضره الآن.
همست المرأة الجميلة في أذن الفتاة البيضاء، ثم تحدثتا كثيرا بسرعة لم أعهد مثلها؛ بحيث إنني لم أفهم شيئا مما دار بينهما من قول إطلاقا، غير أن أذني المدربة جيدا على الاستطلاع استطاعت أن تلتقط مرارا كلمة «الدائرة»، ثم اختفت المرأتان في إحدى حجرات الشقة، لفهما الصمت. شربت عصير المانجو، لم تعودا، قرأت مجموعة من الرسائل «المثيرات» كانت بجيب سترتي. زمن لا أدري مقداره تزحلق وأنا غارق في الكرسي الوثير، أبارز ظنوني محملقا في التليفزيون المطفأ، الثراء الذي يطوقني، أتفحص الأشياء بدقة، امرأة مجربة، أقدر أثمانها، أتخيلها انتقلت إلي، فلأدير جهاز التليفزيون، لم لا؟! ما لم أتوقع كان شريطا قذرا ومثيرا، المرأة الجميلة تتزوج الفتاة البيضاء، سابحتين في عري لا نهائي، وعناق محموم، حالة حب مدهشة، كما تتوحد الحنظلة مع مرها، توحدتا، وأحسست فعلا بحرارة أنفاسهما، شعرت بدوار طفيف، ودونما تفكير انتزعتني من الكرسي الوثير وأخذت أبحث عن المرأتين، طرقت كل الأبواب، في ثورة جنون وحمق، «ألم تكتب أنها تكره ذلك، ل ...»
لا أثر للمرأتين، كانت الغرف خاوية فارغة من الأثاث، خلاء كانت، مسكونة بالوطاويط السوداء وعفونتها، ولكنني أصبت بدهشة أكبر وخوف حقيقي عندما عدت إلى قاعة الاستقبال ووجدتها تنام في عري قديم ولا نهائي، لا أثر للفيديو، الموكيت، ورق الحائط، لا شيء غير العري، الفراغ والعنكبوت.
حاولت فتح الباب المفضي للخارج، ولكنه كان مغلقا جيدا، فأخذت أركله بهستيرية وجنون إلى أن فتح، فتحه الجيران، وكانوا قد تجمهروا أمام الباب عند سماعهم للضوضاء والجلبة التي أحدثتها.
وأخذوا يسألونني ويتفرسون في باستغراب وبرود أملسين: أنت لست من هذه المدينة؟ - بل من ذات المدينة. - لست من هذا الحي؟ - بل من ذات الحي. - «... - ...» - «... - ...» - «... - ...»
استطعت أن أتأكد وبما لا يدع مجالا للظنون أو الشك أن من بين الجيران المرأة الجميلة الصفراء ذات العنق الطويل والضفائر المرسلة ... والفتاة البيضاء ... وكانتا مندهشتين كالجميع وباردتين.
حريته
بقصره الصغير جنة من الفل، الورد البلدي، الياسمين بجميع فصائله، محاط - القصر - بسياج عال من أشجار البان والتمر هندي، زاهيات أشجار الواشنطونا، معلقة عليها مرجيحة القيلولة.
تنبعث موسيقى «شوبان» من بين خصلات زهور النرجس والجهنمية عبر سماعات دقيقة مخفية بحنكة، خلف أذنه اليسرى، يحتفظ بعود من الصندل موثق بختم «التأميل» البارز.
تقرأ صبيتان حسناوتان ذاتا صوتين عذبين وضفائر مسدلة على كتفيهما العاريين الناعمين، غزليات «فروغ فرخذاد»، بينما تدلك آنسة سمراء ساحرة ظهره بعطر «الكلونيا» وزيت الصندل، تسقيه وقتما يشاء كئوس الخمر البلدي بالقرنفل، وعبر أنابيب صغيرة محقونة بين أغصان شجيرات البرتقال والتين الشوكي والليمون تصله نسيمات مدفوعة بجهاز خاص، ينفح عند القيلولة في صدر الحديقة وحول المرجيحة نسمات محملة بعبق غابات المانجو الاستوائية، مصحوبة بزقزقة طيور «الكلج كلج» و«القمري».
كان صدر الصبية السمراء، وهي تدلك بطنه، يكاد يلامس وجهه، لاحظ أن نهديها نموا بسرعة لا تعقل في الآونة الأخيرة، وأنها تفتعل الالتصاق بجسده، ثم أخذ يفكر بجدية في أمور شتى صغيرة وناعمة، نام قبل أن يسمع المقطع الأخير من قصيدة «فروغ فرخذاد».
أفكر، أعلم أني لا أملك المقدرة على مفارقة هذا القفص.
حتى ولو شاء سجاني، لم يعد في رمق أطير به.
23 / 11 / 1993
سيرته الذاتية
(أ)
الشارع الترابي العام يمر بعيدا عن الحي متجنبا الغوص في متاهاته، وكأنه عاف عفونة أزقته ومواء أطفاله. من هذا الشارع العام تتفرع أشرطة من أزقة ضيقة تذوب تدريجيا بين البيوت المتلاصقة الصغيرة المبنية من قصب الذرة الرفيعة والطين اللبن، مطلية بروث الماشية والحمير، وعلى أطراف الأزقة تحت أحواش القصب الرطبة يتقنطر براز الأطفال رماديا أو أسود يابسا، عليه جيوش من ذباب الخريف الأخضر الضخم ذي الأرجل الخشنة، طنينه قد يفزع بعض المارة.
أما المرحاض العام، زريبة المواشي، دكان اليماني صالح، وبالوعة مياه الجبنة العفنة تقع في ملتقى الأزقة وسط الحي.
ماسورة المياه المتعطلة تصنع نهرا طينيا يشق صدر الزقاق الضيق المفضي إلى الخور الكبير، يبني على ضفتيه الأطفال الرماديون ذوو الأنوف المتسخة والجلاليب المهترئة (مؤخراتهم الغبشاء عار نصفها خلال مزق سراويل الدمور القديمة تعانق عفن الأمكنة) خزانات من الطين المختلط بالطحالب الخضراء، عفن الخبز وبيض الضفادع اللزج، ويشكلون جمالا، حميرا، وجرارات صغيرة، وبعض التفاهات التي تشبه عيونهم الجميلة المقذية.
يشتمون بعضهم البعض بألفاظ هشة مصنعة في الغالب من أطيان نهيرهم وخراء أزقتهم المتخمر تحت شمس الخريف الدافئة.
الناس كالأشباح ينسلون من ثنايا صمت الأزقة الرطبة، يحتضنون صخب أشعة الشمس، في بطونهم لا شيء. مباني المدرسة التي ستكتمل بمشيئة الأزمنة القادمة تقبع كالموتى، ما بين ميدان كرة القدم والجمعية التعاونية القديمة؛ أي في بداية شارع الماسورة. بعض المباني غير المكتملة، وفي داخلها ترقد جثث القطط والكلاب وغيرها من الحيوانات النافقة أو التي اغتالها أطفال الحي الذين ليس لديهم ما يشغلهم طوال اليوم.
هنا ولد، في هذا المكان. (ب)
الشرطي الوسيم ذو الهراوة الكهربائية الجميلة التي يسمع لها خشيش مرح حينما تلتحم بجسد فار أمامها، غاضب هذا الجندي غضبا لا مبرر له إلا الحفاظ على المظهر العام، قربه تقف عربة الفورد المصفحة السريعة «بأريلها» المرسل في أحشاء الهواء الساكن، على بعد مترين منه يقف الجندي الآخر الغاضب - أيضا - القبيح، وعلى بعد مترين يقف جندي آخر سمين له كرش متفيلة ووجه كحلي ملصقة عليه عينان صغيرتان لا لون لهما في الغالب، الجميع أمام مبنى من ثلاثة طوابق وحديقة صغيرة مختصرة، ثلاثة كلاب متشابهة سوداء تتجول في فناء الحديقة ، تتبول بانتظام على حجر أملس كان نصبا تذكاريا في الأزمنة الماضية لشيء ما، أو شخص ما. الحجر أبيض فيما عدا خرائط البول الصفراء التي صنعتها الكلاب عليه.
المكان هادئ، وبين وقت وآخر يخرج رجل متأنق نظيف معبق بعطر مثير، وقد يخرج أكثر من شخص من هذه العينة ويدخل آخرون، ولكن فجأة قد تسمع أصوات محرك عربة فورد تقف عند الباب الخلفي للمبنى، وإذا استرق الإنسان السمع، أو الكلاب الثلاثة ورجال الشرطة، يمكنهم سماع صرخات مكتومة وأنات باردة تسرق من عمق هدوء المبنى.
هنا مات، في هذا المكان.
18 / 6 / 1992
شوفه
«الكشة، الكشة ...»
1
احتياطي مركزي، أمن الدولة، بوليس المطافئ، جند القوات المسلحة، مخبرون سريون، المباحث الجنائية، الهجانة، الشرطة العسكرية، جند خاص مختبئة أعينهم خلف نظارات معتمة، فرقعة السياط، كعكعة العصي، تفتفة البصاق المدمى «أي أية» الغرباء وصرخاتهم العميقة المتبعة. - يا زول اعمل حسابك. «عملت حسابي»، في الريح أيضا عملت ساقي، أطلقتهما، وانطلق خلفي كلب بوليسي أغبش ضخم، خلفه انطلق سيده وسيدي الشرطي.
في حقيقة الأمر، كنت خائفا من الشرطي أكثر مما أنا خائف من كلبه؛ «لون الكلب أغبش.
لوني لون التراب.
عيناه حمراوان ضيقتان، عيناي ...
بنباحه بحة خفيفة، بصوتي أيضا بحة، لن يطلق النار علي.»
شوارع الخرطوم مليئة بالمارة، لكنه سينسؤني بهراوته الغليظة على أم رأسي، أصرخ، ثم ينسؤني فأصرخ أتأوه، ينسؤني، أسقط مغشيا علي، يركلني على بطني بمقدمة «بوته الحديدية»، ولأنني مصاب «بفتق» في سرتي لي أسبوعان فقط منذ أن غادرت المستشفى للمرة الثانية في نفس الشهر؛ فإنني - حتما - سأموت. - اصح يا عبد الله المدعو موسى. - من أنتما؟ - أنا «منكر» عبد الله خلقني من الأسئلة. - أنا «نكير» عبد الله خلقني من الأسئلة. - ماذا تريدان؟ - نسألك ما لك وما عليك ... - ما كسبت يداك. - لماذا تهرب من الشرطة، الاستخبارات العسكرية، الاحتياطي المركزي، الكلاب المعاونة إلى آخره إلى آخره؟ - هل أعتبر أن هذه محاكمة؟ - نحن نسأل فقط.
لو تأكدت أن الشرطي - جماعته من العسكريين والأمنيين والكلاب - لن يؤذيني، ضربا بهراوته، ثم رفسا برجله في بطني فاتقا بذلك «عمليتي الجراحية»؛ لاستسلمت له. - سجل أنه مبرراتي. - لقد أرهقت الكلب المعاون.
كان هريره مفزعا، وبحته مخيفة ثقيلة على قلبي، وأنا رجل نحيل بسيط مسالم، لهاث أنفاسه تحت رجلي يقلقني، الناس يفسحون لنا الطرق صارخين: - ووب علينا. - سجمنا. - يا سيدنا الحسين. - بري. - يا أخينا. - يا هو، يا هو، يا هو. - ود الكلب. - ده ساكينو وين؟ - الكشة، الكشة، ووويهو.
أما الذين يهربون أمامي إما أعراب: رثة، قذرة، عفنة، نتنة ثيابهم، جاهلون، أو سود شعث غبر، خشنو الأيدي والأوجه، من الغرب، جنوبيون من الدينكا، الشلك، اللكويا، أو غيرهم لا يلبسون البذل أو رابطات العنق أو يحملون الحقائب السومسونايت، بجا شرقيون، فلاتة ولاجئون أحباش أو «تربالة»
2
من الشمال. أما الخرطوميون: «الطمأنينة الآن سائدة.»
3 «لا إله ... سوى البندقية.»
لمن الويل، لمن الشقاوة؟
لمن المخاصمات؟
لمن الكرب؟ لمن الجروح بلا سبب؟
لمن ازمهرار العينين؟
4
أنا لا أشرب الخمر.
ولم تنظر عيناي للأجنبيات، وما نطق قلبي بأمور ملتوية.
تخطينا بنك فيصل، بائع حجارة البطارية، أستوديو كاسيت المدينة، طاردتنا لحظة بعض ألحان رخيصة. تخطينا فندق صحاري - صديقي عطا المنان يعمل نادلا به - نادي البورصة الدولي، صف المواطنين عند شباك مكتب الجنسية، الجوازات والهجرة، تقلص الصف فجأة إلى أن صار رجلا واحدا أو أقل قليلا، فلقد كنت مسرعا ودائخا لم أستطع أن أتأكد. تخطينا مدينة الخرطوم العتيقة وأمكنة محترمة شتى.
كانت دربا ضيقة رطبة، أحسست أن خيوط جرحي تنقطع واحدة خلف الأخرى، ألم كوني يمزقني. قال «منكر» بهدوء: أنت أتعبت الشرطي.
أحنيت رأسي فجأة في زاوية حادة جهة الشمال، فصفرت العصا وهي تشق الهواء وتسقط بعيدا معانقة صوان الطريق. - ووب علي ... موسى؟
قلت لأمي بصوت صدر في الغالب من معدتي: ابعدي، ابعدي عن الدرب، حتما سأعود إلى المنزل حتما، احذري الكلب، إنه شرس.
Good-bye my fancy!
Fare well dear mate, dear love!
I’m going away, I know not where,
or to what fortune, or whether
I may ever see you again,
So Good-bye my fancy.
Walt Whitman, the complete poems
كان جرحي ينزف شيئا دافئا من موضع «العملية الجراحية»، ولكني أطمئن نفسي، بعد لحظات سأدخل الزقاق وأجد «الثلة»: (أ)
حواء الفوراوية: تحمل جرة المريسة وتدفقها تحت أقدام الشرطي فيتزحلق، ثم تزغرد وصديقتها «كيكي». (ب )
أبكر، شوفل، سيد أحمد، كوكو أو كير، عيسى كويا، ساتي؛ سينقضون على الكلب الأغبش الضخم ركلا، ضربا بالعصي فيقتلونه، وفي الغد يحمله «جبرين الجزار» ويبيعه كضأن في جزارة أم درمان. (ج)
جعفر محمد مختار البوليس الأقرع، وعلي محمد آدم صول الجيش العجوز.
بطرق فنية عسكرية وتكتيك ميداني عبقري سيطيحان بالشرطي، يجردانه من غدارته، هراوته، صفارته، زيه، بوته، كابه، شواربه، شراباته، نياشينه، أنواطه، شجاعته، ثم يطلقانه في طرق الله هزيلا منكسرا دائخا مثل قط مسلول، فاقدا الذاكرة وخلفه الأطفال ينشدون وهم يرمونه بالحجارة:
البوليس
حرامي تعيس
البوليس
مرت إبليس.
سألني نكير بهدوئه ودقته المتناهية: ألم تكلف ميزانية الدولة مائة جنيه؟
50 جنيها حجارة بطارية لعصا الشرطي.
20 جنيها إفطار الكلب.
10 بدل جري للشرطي.
20 قيمة ضمادات وتتراسايكلين للشرطي علاجا للجراح التي أصابته عندما لكمك بقبضته في فمك؟!
جرحي ينزف شيئا دافئا لزجا، «ريحته» دم، دم ودم لونه آهاته دم ودم دقات قلبه.
قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيما معناه: «روضة من رياض الجنة القبر، أو حفرة من النار.»
اللهم اغفر لنا خطايانا، وسامحنا ما عصينا ولاة الأمر منا، قست قلوبنا فما استطاعت إطاعتهم.
هرير الكلب أصبح واهنا ضعيفا، أتعبته، لم يراع أننا يمكن أن نكون حليفين.
أغبشان، قراد أذنه وقمل إبطينا.
كلانا عانس ويتشوق إلى صدر أنثاه (هو إلى ظهرها).
بحتي وبحته، عبوديتنا، هريرنا.
في الحق، إن الكلب كان يجري مائلا بجسده ناحية اليمين وبرجلي اليسرى عطب خفيف.
السياسي الحاذق هو الذي يبحث عن نقاط التقاء بينه وبين أعدائه، بل بينه وبين الذين يعتبرونه عدوا لهم. «هوشي منه.»
عشرون خطوة وبيت كلتومة الفلاتية.
فإذا صرخت: النجدة يا ناس الحلة، النجدة!
نادت «رقية» زوجها ووجهها مطلا من أعلى «الصريف»: يا كافي ... كافي ... الحق.
أطفال الزقاق الصغار: سوسن، وداد، محاسن، أبكر، إبراهيم، صالح، تيه، أحمد، جون،
5
أوشيك، ود حواء زريقاء؛ خرجوا دفعة واحدة من خلوة «الفكي» عم ياسين. (الودعاء الطيبون يرثون الأرض.)
6
أصابني دوار خفيف، وشعرت بالغثيان وأنا أشم رائحة دمي النازف، صاح «منكر » بصوت حنون طيب: تشهد يا عبد الله، تشهد.
قلت مستسلما، مسلما، مسالما، أمري لله وحده ... أشهد أن لا إله إلا ...
وهوت هرواة الشرطي على أم رأسي، إصابة أطارتني في الهواء ولم تنزلني إلا عندما أحسست أن الكلب الأغبش يتبول على أنفي، لقد كان مدربا جيدا، وعندما التقت عينانا، واساني بنظرة حانية وانسحب خلف الشرطي واختفيا، ولكني كنت مرهقا ضعيفا، كنت أحتضر، مرت بي كلاب شتى، ولكن كلبة صغيرة سوداء هي وحدها التي لاحظت أن كلبا قد تبول على أنفي، هزت ذيلها القصير، مسحت أنفها على الأرض بغرائزية فطرية، شمتني، قربت من أنفي، رفعت رجلها الخلفية!
بالرغم من ضعف بصري استطعت أن أرى تحت ذيلها مباشرة عشر قرادات صغيرة عجفاء.
4 / 8 / 1992م
ذات يوم بارد
عاريا كالبرق مشهرا جسده في فوضوية جامحة أمام الله، عادي ومسالم كشجرة السيال، وهو ينتصب على سطح المبنى، الأمكنة حوله كسولة فترة تغط في شيخوخة بليدة ونهائية، تجول بنظره بين أزقة المدينة اللينة اللولبية، كانت مخدرة أو نائمة أو كما كانت.
الجو بارد وجاف.
تحوم في الأفق الحدأة في حلقات مع نسور «الأبو خريطة» و«الكلنق أبو صلعة»، وبعض «السنبر» والغربان، تمطر الأمكنة زرقها وهي توقوق.
تحت ... قرب قدمه العارية عقربة عجوز تحمل على ظهرها أحفادها صغارا صفرا متعبة أذيالهم ذوات الشوكات الصغيرة الحادة.
يعلو صوته متفجرا، ليبعثر مكر صمت الأمكنة وبرودتها، ويحرك عهر الزمن الساكن حوله ...
سأقولها.
أحيا المكان نهيق الميكروفون، وكما لو نفخ في الصور، نهضوا من مراقدهم، تثاءبوا، ثم انفجروا بالحياة، شحنوا أنفسهم في فراغ المكان، وهم ينسلون من حنايا الأزقة الباردة، قال: سأقولها.
انفجر عريه في أوجههم اليومية المستكينة.
صعقهم جسده فاضحا تفاصيل ما يخبئونه تحت جلابيبهم، مستفزا المسافة ما بين خباثة النساء وخجلهن، فأخذن يخفين أوجههن بأكفهن الناعمة الرقيقة المزينة بالختم والحناء، وما بين أصابعهن يتفحصن دفء عريه، ومن يستعذن بالله من الشيطان ومن الشيطان بابن آدم.
ليس هناك ما أخاف عليه أو منه؛ لأنني سوف أسقط بعد ما أقولها من علو هذا المبنى الشاهق وأموت، فمن بإمكانه محاسبة جسد ميت؟!
انتبهوا، اللغة كانت تخصهم، تتغلغل في لب عظامهم وتوقظهم من العمق، وكأنها زبر منزلة لكل واحد منهم شخصيا. فجأة، ما عادوا يرونه رجلا عاريا، بل شكلا غامضا واضحا محترما وعظيما. «أزاحت النسوة أكفهن - المخضبة بالحناء، المطرزة بالمناكير المدهونة بالكركار - عن أوجههن.»
ألبس جلبابا بلديا، طاقية، مركوبا من جلد الأصلة، زوجته النسوة بنياتهن المدللات لينام على ضفائرهن من العطرة السوداء سكن أكواخهم الصغيرة، شارب الشيوخ قوة الظهيرة تحت ظل الرواكيب وأشجار النيم والتبلدي في القرى والمدائن النائية وأسواق الجمعة، اختلت به الداعرات المجدليات الحزينات أنمنه على صدورهن فضمد عهر أيامهن، باركهن، فما خلت مضاجعهن من الزبائن، ما جعن، ما أصبن بالسل والزهري، أودعنه أسرارهن، المراهقات الصغيرات بحن له كيف فاجأهن الحيض أول مرة وهن في فصل المدرسة، آنسه المرضى، تغنى به عمال المصانع، المزارع، الموظفون، الحدادون، البناءون، والسماسرة المطففون، تسكع أمامه اللوطيون وغنوا.
صلى بالمتوصفة صلاة واصلة أذابتهم بروح الرب، فهاموا عشقا ثم تلاشوا. قال: إليكم تفاصيل المسألة. أولا ...
صوته عميق مؤثر وقوي، وكان يضيف إلى عريه بعدا نبويا أو ملائكيا لدرجة أن «حليمة» همست لجارتها: «لو ما أخاف الكذب يمكن الزول تنزل من السماء.»
السلطويون يعدون الشباك لاصطياده، ينصبونها تحت المبنى، كانوا يريدونه حيا أو حيا.
النسوة، الأطفال، والأبناء يشيرون إليه من داخل منازلهم قائلين له عبر تشكيلات من أصابعهم إن هناك شباكا تشاك.
قال: قليلا وسأحدثكم عن الشباك، دعوني أتمم حديثي عنهم. أشاروا إليه إنها المصيدة.
قال: لا، ليست الشباك هي المصيدة.
الكلمات القويات العميقات انتشرت في كل أمكنة البلاد، قرئت في المراحيض وتحت أدراج المدارس، في غرف النوم، بعيدا في المغارات، همس بها العاشقون للعاشقين.
تغنى بها السكارى في أقبية المواخير، مختبئين تحت كئوس الخمر، قالتها الأمهات الفقيرات في آذان أطفالهن وهن يحكن جلابيبهم الزيقة.
همس بها مسجون لمسجون في سجن المدينة.
قال عنها معتقل تم اغتصابه في الليلة الماضية: إنها قاضمة.
أما الطلبة فخرجوا في ألف مسيرة يطالبون برغيف لكل طفل وكوب لبن.
قال رجل شريف لرجل شريف: أنا ضد الأسئلة التي ...
قالت امرأة شريفة لرجل يقدر شرفها: أنا ضد الكتابة عن الجنس، أما الجنس فلا غبار عليه.
قال، لم يبح صوته بعد: وعن عريكم أيضا أحدثكم.
هنا تزحلقت مفردات لغته طرية مخضرة بعمق الحقيقة، ونقية كخوفه المكبوت وأسئلته المرتدة إليه ... إليه.
صفرت الريح وهي تراحل سحابات دكناء محملة برعد مضمر حبلى بالبرق، وعن عريهم قال، تكلم وتكلم ...
فقال آذانهم بالصابون الأطفال وعجين الخبز.
سدت في وجهه خمارات المدينة وأعين صبياتها.
نبذته الداعرات المجدليات الجميلات الحزينات وقلن: طالما.
وعزله الأصدقاء، رموه بكأسه وقالوا: بيننا مسألة معلقة.
ضاقت الأزقة، التصقت بجدرانها وأسيجتها، وانكمشت البيوت العتيقة الحبوبة على ذواتها ونامت، عافته مبولة المدينة، جند الحراسة، المؤذنون، خيل عربات الكارو، سحليتان بجحر قرب النهر، القطط المشردة، عزلته أخيلة المراهقات الحالمات، امرأة كانت تهيئ نفسها للفراش، طفلان وقرد في معمل للتجارب ...
قال: وأيضا، أحدثكم ...
كان وحيدا جميلا، عاريا كالبرق، ومثل يسوع الناصري عذابه غير متناه، وعيناه ذكيتان.
وعندما هم بالسقوط قال فيهم: الآن أكملت لكم عريكم.
وتركت فيكم ما لو تمسكتم به ضللتم.
وأشار لأشياء بعينها.
فظن السلطويون أنها الشعب.
وظن الشعب أنها الأسئلة.
أما الطقس.
فكان باردا وجافا، أو كما كان.
صنم
طفل جميل يحبه الجميع، يهشون عند لقائه إلا أنا؛ فقد كنت أمقته مقتا حامضا، وأرجو أن لا تسألوني لماذا، فربما لأنني لا أجد سببا لكرهي له، أو لأن جدلية الكره والمحبة مسألة شخصية، دقيقة الخصوصية، ثم هل هناك حجر في أن أكره من أشاء؟!
قيل إن لهذا الطفل سمات الملائكة، لا يهمني ذلك، كما أنه ليس هناك رابطة بين هذا وأن يسموني في الخفاء: الصنم.
أمه هي أمي.
ما إن يسمع وقع خطاي على الأرض يهف للقائي فرحا، يصرخ وتتسع عيناه السنجابيتان ويهز كتفيه بطريقة طائر البطريق، ثم يصيح: صمم، صمم.
يحبني أكثر ممن خلق الله جميعا، تخيلوا أن يحبك طفل أكثر من أمه! إلا أنني كنت أبادله حبه، قليلا وشنفا، وجذله غما، وأنتهز فرصة الخلو به لأقرصه على شحمة أذنه بوحشية غارسا أظافري المتسخة فيها، وقد أزلقه من على «العنقريب» ليستلقي على الأرض صارخا، مادا إلي يدين غضتين، متوسلا أن آخذه لأجلسه قربي. أرجوكم أيضا لا تسألوني لماذا يحبني بهذا القدر؛ لأنني لا أقول لكم سوى أن المسافة ما بين البغض والوله كالمسافة ما بين الريح ودوراتها، ربما كان ريحي وأنا دوراته، أو كان العكس، فكنت ريحه ... فلقد قرأت: «بقدر حب الرب لنا ... عذابه.»
لا، ليس هنالك وقت لمسائل عينة ما ذكرت، المهم، كذلك لا داعي أن أقص عليكم فنون تعذيبي له، فتخيلوا أوحش ما يمكن أن يناله طفل من شخص مثلي.
فاجأتني أمه - التي هي أمي: لماذا تمقته هكذا؟ ولكنني لم أملك سوى تمتمة جبانة انسلخت من شفتي ببرود وألم، لا أدري ماذا قلت، اعذروني، تماديت في كرهي له، همست في أذنه: سأقتلك. ضحك، هز كتفيه بطريقة طائر البطريق - وهذا شأنه إذا سر - وهو يردد: تاني تاني. فلقد كان يستلذ بالنقنقة التي يحدثها صوتي في أذنه. قلت، كرر، قلت ... قرصته فأدميت ذراعه.
دخلت البيت الكبير، كانت «الراكوبة» تتوسط الحوش، حولها تنبت شجيرات العشر وخلفها اللالوبات نائمات في شيخوخة أزمنتهن الأسطورية، «حبوبتي» حريرة، في الزمن الكسول الذي ولى، قالت إن الجان يسكن أشجار اللالوب، ثم سردت لي قصة الحطاب، التي استمرت في حكيها لمدة شهر كامل، ذلك الحطاب الذي لم يع القول بأن الجن يسكن اللالوب، فقطعه، لتنزف سوقه دماء حمراء دافئة، فجن. جلس تحتهن قليلا، كانت أنفاسه منتظمة، كان يعمه سلام غريب وهو يغط في نومه، ذبابات يتجمعن على أنفه وبين شفتيه يمتصصن ما علق عليها من لعاب مختلط ببقية حلوى تناولها، ربما قبل نومه أو نام ولا تزال بقاياها في فمه، طنينها حادا، وهي تتطاير في كل صوب، وجهه في وجهي، كان فمه صغيرا، وشفتاه وردية طفولية في غاية البراءة، بحذر وخفة شيطانية ... اسمحوا لي أن أسألكم: من منكم رأى الشيطان؟ لا أريد إجابتكم الخرساء، فأنا على كل رأيته، وكان في شكل كلب «بت كركر»، ورأيته في رمضان قبل صلاة الفجر وهو ينزل من على شجرة اللالوب الكائنة بالخور الكبير، سمين ذو رأس ضخمة، أبيض، رمقني بنظرة رشيقة لكنها حادة، وجرى نحو النهر، كان خفيفا كالريح، أقول بخفة شيطانية، وأؤكد لكم على هذه الكلمة، وضعت قطعة الشطة ملوثة بالشيء القاتل في فمه وعبر ورد شفاهه، وهربت حاولت سحب لعابه من أصابعي، ولكنه كان عنيدا لزجا فتجاهلته. «شيوخ مجمع السحرة الأعزاء، دعوني أصلي قليلا في ذكرى تلك الأيام متوضئا بتعاسة جحيمي وعاصفة خبثكم، اسمحوا لي أن أبصق قليلا من الحلم والصلاة إذا سمحتم. حسنا لا أظن تستهوي أمثالكم تفاهة تفاصيلي.»
إذا تسللت إلى الحارة، كانت الضجة وصلتني وأنا لم أدلف إلى الزقاق الذي يقود إلى الحارة بعد، لا أدري لماذا يطغى نباح الكلاب دائما على ضجيج البشر إذا اجتمع الجمعان؟ كان الجميع يتكلم بانفعال وحماس نادرين؛ نساء، رجال، أطفال، تكومت الكلاب جماعة تطارد كلبا غريبا، أتى خلف سيدة من حارة مجاورة، ضخما ذا ذيل مقطوع أرخم تلتصق بعض القردان على أذنيه، عواؤه كان حزينا، رمقني بنظرة رشيقة وهو ينزلق عبر الزقاق البارد الضيق. عرفت ما حدث، بل سألت ودققت في الاستفسار لأبعد عني الشبهات، استعجلت الجمع إلى مستشفى المكان، ولكنه (فليرحمه الرب أينما كان) مات موتا باردا أملس رماديا يزكم الأنف فخيخه.
بصقت، أي والله، أي والله.
في ذلك الزمن المسيخ تنازعتني أمكنة وكتل، أقل ما يمكن أن توصف به أنها جنونية، شعرت أن هنالك شيئا ثقيلا انزلق من على ظهري وحملا ثقيلا تسلقني، كان شديد البرودة والصمت والكآبة لزجا، تسلقت الطريق إلى قطيتي، ويا ويلي من الطريق التي ما رجل مشت ولا قدم وطئت، وحل من الأسمنت المحشو بالدبابيس والأسلاك الشائكة والخبث المحمي، الليل مظلم ثقيل، كنت أحس بثقل الليل على أهداب عيني، على رموشي، على كل مسافة في جلدي، يتخللني كما يتخلل الزيت الفاسد الأرض العطشى، جرجرت رجلي، التصق حذائي بالأرض، تخلصت منه، حافيا مشيت، كان صراعا مريرا بيني وبين المشوار، وبعد طن من الزمن وحشد من العذابات وصلت بيتي ... آه، سأحاول أن أقص عليكم تفاهة تفاصيلي ما أمكن ... آآييه ... شيوخ مجمع السحرة الأعزاء، دعوني أصلي قليلا في ذكرى تلك الأيام، متوضئا بتعاسة جحيمي وعاصفة خبثكم. حسنا، حاولت فتح الباب، فكان ما لا يد فتحت ولا رجل دفعت، ثقيلا كان وعصيا، سقطت عليه بكل جسدي، فأصدر خشخشة حادة وتحرك في بطء، وكنت خائفا ومرهقا في وقت واحد، مثقلا بما لا أدري وما أدري، بحثت في جيوبي عن علبة كبريت، عثرت عليها، لم أبحث عن المصباح، تحسست فراشي لحظات، وكدت أن أرمي برأسي الثقيلة على الوسادة الباردة الشبعة بالرطوبة حينما سمعت طرقات على الباب، الصوت بعيد وكأنه من عمق سراديب الآخرة، المعبأة بالشياطين والسحرة، ثقيل على أذني، صار الطرق رعدا، عاصفة هوجاء، قلت: آآآآت، آآآت ... كانت المسافة بين سريري والباب لا تتعدى المترين، ولكنها تفجرت في ذاتي براكين من العذابات والأسفار من الأسئلة الممسوخة المجردة.
من يا ترى، من؟
أم أنهم ... قد ...؟
رفعت رجلا ثقيلة من على الأرض، وضعتها أمامي، رفعت الأخرى وضعتها أمامها - وهي اليسرى - «لم تعلمني أمي - التي هي أمه - أن أقدم الرجل اليسرى على اليمنى، وكذا الحال في شأن اليدين؛ لأن بهما الشيطان.»
بالتأكيد هذا لا يخصكم كثيرا. حسنا، رفعت اليسرى وضعتها أمام اليمنى، وهكذا م... ش... ي... ت، شهرا كاملا، نعم شهرا كاملا، وأنا أسير نحو الباب، لقد كان جسدي أثقل من جبل من الملح والزيت، ونفسي خاوية كبئر من الوهم، وأخيرا فتحت الباب، بالرغم من حلكة الظلام استطعت أن أتبينه، لقد كان مضاء تماما، وكمن جاء من سفر شاسع، أشعث أغبر، لا يتعدى طوله نصف المتر، أما أطرافه اللدنة الغضة عضلات مفتولة وكأنها جبيلات من اللحم، جبنت أن أتمعن وجهه جيدا، فأنتم أدرى بخوف القتلة من أوجه جنائزهم.
أو لأنني تعب ومرعوب. دخل، أغلق الباب خلفنا، ثم قفز في رشاقة «جنونية» - آسف على استخدام هذه الكلمة كثيرا، لكن ماذا أفعل وهي تقفز إلى لساني هكذا في جنون! - حسنا، همس في أذني قائلا: سلام، الشيء المسموم قتلني!
ولم أع شيئا بعد ذلك، قال لي البعض: وجدت تحت لالوبة الغنم على شاطئ النهر مغمى عليك أو سكران، وأنتم أدرى بشيطانية اللالوب وغموض صمته وخاصة في الليل.
ساءت صحتي وأمسيت كالمجنون، لا بل كنت عاقلا يقظا كقط محصور، نعم، كنت كسولا عاطلا لا أرى إلا في نعل نقل وثياب ممزقة، طلبت مني أمي التي هي أمه أن أقيم معها في البيت الكبير، فرفضت بشدة وإصرار غريبين وقلت لبعضي: ابحث لك عن دار نازحة وانخسف إلى الأبد.
تكلفت الرحلة ما تكلفت من السنين، وربما أنها لم تأخذ زمنا بهذا الكم، ربما، نعم، آسف تكلفت الرحلة زمنا أكثر، كان لزاما علي أن أفعل ذلك، فقد داوم على زيارتي يوميا، وكنت أجده في كل الأمكنة الممكنة وغير المحتملة أيضا، همس الناس حولي ... الثقل الذي يعذبني.
القرية التي اخترتها بعناية فائقة تقع في المنطقة الاستوائية الغزيرة الأمطار، تسكنها غابات الموهقني والتيك العملاقة والمستنقعات، وكثير مما خلق الرب من الوحوش والضواري: «اختبئ أيها الصنم.»
استأجرت كوخا لصياد شمط، في أطراف القرية، وأجرته أرنبا بريا في الأسبوع، أقول هذا ليحق الحق فقط، أرجوكم لا تنزعجوا. حسنا، حسنا، سمعت طرقا على الباب، كانت سنتيما ابنة الصياد تقوم بخدمتي، ولا أدري ماذا أقول لكم عن سنتيما غير أنها من أجمل ما أبدع الله من صبيات، كانت سوداء بنعومة قلب الأبنوس، في سعة عيني صغير الجاموس الوحشي عيناها، دعجاء، لها شفاه مكتنزة، لعساء، مشحونة بسحر الدغل الغامض وكرنفالات المستنقعات وحنين المطر، وشعر رأسها القصير الأسود يتجمع في مستعمرات صغيرة، منكمشة على نفسها كحبات الفلفل المنثورة على قرعة سوداء، فرعاء كالسنطة، معبأة بالرغبة والحياة، دائما ما ترى وهي - كبقية بنات القرية - ملفوفة بثوب صارخ الألوان يتدلى من تحت نهديها - آسف، فاتني أن أذكر لكم أنها ناهد جموح كمهرة برية - ويتدلى إلى فوق الركبتين ثوبها، وعلى عنقها الرشيق عقد من الخرز الملون الرخيص المليء بصدفات بيضاء تتوسطها تميمة مغلفة بجلد الحرباء، أما نهداها فطليقان كنسرين مهووسين لا تحدهما حدود. ماذا أتى بها في الليل! الظلام ملء المكان، والذئاب مشحونة بها الطرقات والأزقة. لم أفكر بها إطلاقا؛ فلدي ما يكفي من الخوف ليمتلئ وقتي كله وأكثر، ماذا تريد مني؟ وفتحت الباب، ضحكته ملأت المكان طنينا حادا وتغلغلت بين مسامات جلدي لتغزو قلبي ورئتي بألم وشعور بارد يدفعني إلى التقيؤ، أغلق الباب خلفنا، جلس على حجري بعد أن تناول المصباح الزيتي وأشعله، قال بصوت شديد الحموضة أملس: انظر إلى وجهي.
كنت خائفا، عواء الذئاب يأتي من كل صوب، وجهه يحاصر المكان في فوضوية مطلقة، نملة تقرصني تحت إبطي، وأخذت تزحف بين جسدي والجلباب إلى أسفل، توقفت قليلا عند حنية أحد الأضلاع، لم أستطع تحريك ذراعي لهرشها، انتهرني، أوزعت البول. «انظر إلى وجهي.» رفعت وجهي في جبن تام، جاهدت ما أمكن لإحالة بصري إلى وجهه، في الباب معلقة بعض الأردية تبدو كلوحة سريالية لفنان في خريف جنونه؛ لأن ضوء المصباح الذي يتسلل ما بين صدري وظهره المتموج كحلقات جنزير، يسقط ظلالا ذات انكسارات غريبة على الباب. قال بصوت حاد وبشكل حاسم: انظر.
واهتز ضوء المصباح، تحركت النملة إلى أسفل، البلل عم الرداء، ولأنه مضاء تماما، رأيت كل شيء وكاد يغمى ... المفاجأة مذهلة وغريبة بشكل تام. نعم، لقد كان وجهي، وجهي نفسه، بكل تفاصيله؛ ملامحه وسماته، الندب الصغيرة التي تعلو جبهتي، شاربي الكث، الوحمة الكبيرة بخدي الأيسر؛ أمي التي هي أمه توحمت عندما كانت حبلى بلالوبة، كان الفصل شتاء فلم يتحصل أبي إلا على لالوبة واحدة في كل المدينة، فكانت هذه الوحمة، شفاهي الغليظة، وجهي تماما إلا أنه كان مشوها ملطخا بالدماء والصديد والديدان الميتة، ثم ... لا ... لا ... لا، لدي أشششياء مهمة لم أقلها بعد، آه ه ه.
ملحوظة:
وجدت هذه القصة منحوتة على تمثال له وجه رجل وجسد طفل بقرية أفريقية مهجورة.
23 / 12 / 1991
عريس
(1)
صلينا صلاة العشاء في جماعة، ونحن لسه في البرش، قال لي أخوي آدم: يا موسى، عليك الله، تخلي قلة أدبك وتبقى ود ناس، وأمور الحرمنة والشفتنة دي تسيبها ولو مرة واحدة في حياتك، بس عشان خاطر أمك المسكينة المشلولة دي، القاعدة في بيت أحسن منه الكوشة، وكل يوم الحكومة (مكسراو)، عليك الله شوف قدامك ووراك وابقى زول! تنفع نفسك وتنفعنا معاك، باب التوبة مفتوح يا موسى؟
قلت ليو: ربنا يهديني ويسترني مع الناس ديل، الزمن دا الشغل ما بيتلقي بالساهل. (2)
جاء المأذون، قرأ قرآن كتير، ودعا أدعية كتيرة، صلينا وراه ركعتين لله، بعد داك عقد لينا كلنا العشرين في وقت واحد، بصراحة أنا كنت ملاوز، ولكن اتذكرت كلام آدم أخوي: يا موسى الملاوز ما بيكسب، خت الرحمن في قلبك. لكن الشيء اللي أقنعني أكتر لما شفت عروستي، كانت أجمل واحدة في العشرين عروس، لونها زي اللبن، وصغيرة وطويلة، وعندها شعر نازل حتى جعباتها، سمينة ولينة، وعيونها صغار، ولكنهم لعينات ومغريات تقول عيون بت إبليس! كل مرة كانت تقول لي بدلع: أنت... محظوظ ود كلب.
كنت بسكت ساكت، بعاين ليها وبتوعدها في سري بأمور عجيبة حاتعرفها في وقتها لما نصل الفندق.
أنا مندهش من نفسي وروحي وحظي، الحافلة الكبيرة اللموزين المليانة بأربعين من العرسان كانت بتجري بسرعة رهيبة على الزلط المكسر في اتجاه «الجراند فيلتش»، بدأت الغناء عروس صوتها جميل، وكلنا عرفناها لما بدأت أول مقطع من أغنيتها، وصرخنا في صوت واحد: زهور القضارف، زهور القضارف.
حتى عريسها نفسه اندهش: أنا متزوج من أشهر فنانة شباب في السودان، وما عارف!
قعدنا نبشر ونشيل وراها وننتشي، والعروسات يزغردن ويرقصن في مقاعدهن، وفي عرسان شالتهم الهاشمية وباسوا عروساتهم عديل في الحافلة وقدام الناس، بشرنا نحن عليهم وقلنا ليهم: مبروك.
قلنا للسواق: عليك الله يا أوسطى ودينا جناين امتداد ناصر، نهيص شوية ونعمل حتة بارطي، على الأقل نتعرف على بعضنا أكتر وبعدين نمشي الفندق ... قال لينا: أنا والله ملتزم بزمن لو ما كده كنت وديتكم. - نزلنا كويس هناك ونحن نأجر لينا حافلة تانية عشان ترجعنا بطريقتنا الخاصة.
الحفلة حفلة تاريخية ، الناس اللي كانوا في رحل قدامنا خلوا فنانيهم وجو يحضروا حفلتنا، كشف شديد، حت شديد، تجدع شديد، ألم شديد، وصوت زهور القضارف بدون ميكرفون وبدون ساوند سيستم، بدون آورقن وإيقاع، كان براهو أوركسترا، ولمان تقول ليك:
جياشا ... جياشا ... ووب عليا أنا،
جياشا ... والجيش نقلو فتاشة،
كر علي.
لو كنت زول صالح وتقي عديل زي آدم أخوي أو المأذون اللي عقد لينا ذاتو، حتنمسخ. (3)
جاء البوليس، بوليس النظام العام، سأل: وين التصريح يا جماعة؟
قالت له زهور القضارف بعدما لمت توبها وجدعت يدينا المملوءة بالغوايش في الهوا ولوت شفتيها الكبيرات لويتين رايعات وصفقت: تصريح شنو يا جنابو؟ - تصريح الحفلة دي. - سجمي يا جنابو، أنت ما بتعرف القانون ولا شنو، الحفلة العايزة تصريح اللي فيها ساوند سيستم أو ميكرفون أو مسجل عندو سماعات وصوتو عالي أو أورقن أو آلات موسيقية فيها سماعات ... ولكن دي حفلة بالخشم ساكت، دي ما فيها تصريح حسب قانون النظام العام لولاية الخرطوم 1999م المعدل في 2001م.
ودوى التصفيق والصفير والكشف، وهتف الناس بصوت واحد: دا الكلام، دا العلم!
قال العسكري: أنا حأوريكم القانون، وأوريكم الكلام اللي ما بتعرفوه، والعلم اللي ما سمعتو بيه. ومشي عشان يجيب قوة إضافية، ونحن أخذنا الحافلة ومشينا الفندق. (4)
لما جينا الخرطوم ونزلنا من اللوري، قابلنا آدم أخوي ومعاه صحبانه، وقسمونا؛ أنت تنفع تبيع موية، وأنت تبقى مداح، إبراهيم أنت تنفع تبقى فنان شبابي، بس احفظ شوية أغاني حقيبة، أنت تنفع إمام جامع. - أنت يا موسى تنفع عريس. - لكن أنا ما بعرف أمثل.
رد لي سيد الوكالة مبتسم: الحكاية ما تمثيل عرس جد جد، بمأذون، وقسيمة وكل شيء، حتى شهر العسل، تمشي تقضي شهر العسل حسب حظك في السعودية أو الكويت أو أبو ظبي، بس في شيء واحد تعمله وهو المهم، لما تيجي من شهر العسل تيجي براك، تخلي العروس هناك عشان الوكالة تاني تعرس ليك.
فبراير 2003
قلبه
ينظر صابر إلى ساعته للمرة الثالثة، يتثاءب.
السابعة، سأنتظرها دقائق أخرى ، لا بد أن سببا قاهرا قد عاقها، ثم واصل تسلية نفسه بهما، في هذه اللحظة كانت الفتاة الصغيرة تعبث بأناملها الرقيقة في بنطاله متتبعة - بشبه إغماءة - خيوط النسيج الخشن، وعلى كفها في رقة وضع يده اليسرى، وبالأخرى ظل يحرك الكوب - بعصبية - على المنضدة ظانا أنه بذلك لا يثير الشبهة وشكوك الجرسونات أو حفيظة المتحفظين، وبين الحين والآخر يمشق «صابر» بنظرة حادة متسائلة: اذهب بوحدتك بعيدا عنا أرجوك. دعنا وحالنا ... ماذا تفعل هنا؟
خلق بارد!
لم يكن بالمكان في ذلك الصباح غيرهما و«صابر».
يده تنزلق من على كفها الملساء الناعمة، وتحلق لحظة قلقة وتنزلق على موضع حساس من جسدها، فترتجف الصغيرة، وبحركة لا إرادية متبوعة بتغضينة جبين حلوة، يبتسم خجلا، ولا يشك لحظة أن رجلا متعطلا مثل «صابر» قد رأى تفاهة عشقه.
سلمى لا تخلف له ميعادا، مطلقا، ستركب النقل الطارئ، ستجري على قدميها الدقيقتين عابرة الكبري، تستأجر تاكسي، تنحشر في باص مكتظ بالخلق، يخالط صنان إبطهم المقرف عطرها الفلير دامور.
وأنفاسها العطرة تخالط تجشؤهم المشحون برائحة الفجل والبصل الأخضر، ولا تهتم بفسائهم، ستحلق في سماء المدينة بأجنحة يمامة أو تسرق عربة «بابا»، ولكنها لن تخلف ميعادها.
قالت له: الجرسون!
سلمى تحب أن تحمل حقيبتها بسكويت «ماكنتوش» ومناديل ورق فلورا بيضاء معطرة لطوارئ الأمور؛ مسح حذائها بعد عاصفة غبارية أو عبور طريق ترابي، أو عندما تمسح دموعها الشفافة الرقيقة نتيجة لمعركة كلامية تافهة بينهما بشأن تسمية أطفالهما القادمين. - سأسميه «اسبارتاكوس». - لا، سأسميها «رؤية».
ولسلمى في المناديل مآرب أخرى.
أخرجت مناديلها، أحاطت بواحد منها زجاجة «البيبسي كولا»، وكادت أن تجترع منها شيئا لولا أن مارس دعارة ظفرية مباغتة قامت، قام، خرجت، بعد لحظات خلفها خرج.
لونها أسود كقلب الأبنوس، ناعمة بشرتها لها لمعة «كريمية» أخاذة، وأعلى شفتها العليا زغب ناعم كشعيرات من الحرير باهتة لا يذكر أين رآها من قبل، إلا أنه يتذكر أنها لفتت انتباهه بجمالها الأخاذ وبراءة وجهها، وأيضا لجموح تفاصيل جسدها الأنثوي الشبق، بالتأكيد ليست موظفة بالشركة، ولكنها قد تكون عميلة أو إحدى الطالبات اللائي يتدربن في الصيف بالشركة، ولم تمهله ليذهب لأبعد من ذلك، سألته: هل رأيت ولدا يرتدي «بنطلون جينز بلو»، «وفانلة تي شيرت جري»، طويلة قامته ... وقال مقاطعا مقلدا لهجتها الحلوة وهدوءها: معه بنت صغيرة ترتدي الزي المدرسي للثانويات! لقد كانا هنا قبل لحظات وخرجا.
سقطت منهارة على كرسي قربه دافنة وجهها بكفيها، وبعد لحظات قضتها في نحيب مكتوم انتزعت منديلا وأخذت تمسح أدمعها.
ماذا لو جاءت سلمى ووجدتكما معا؟! ماذا تقولان؟!
لم يستطع أن يتخيل وجه «سلمى» وقد فوجئت بهما.
نظر إلى ساعته.
لا بد أن تحضر حالا، كيف تتأخر إلى هذا الوقت، هذه القردة الصغيرة؟!
قالت وهي تمسح بقايا أدمع بظهر كفها: هل تتحدث معي؟!
قال مندهشا: هل أنا تكلمت؟! آسف، فأنا، لا أدري.
قالت مقاطعة ودون مقدمات: أنا خطيبته!
ومدت له كفا صغيرة لامعة - بفعل الكريمات أو زيت السمسم - وعلى سبابتها الوسطى خاتم من الذهب أصفر، عليه نقوش دقيقة لما يشبه الورد أو العصافير، لا يدري. - خطيبته؟ هذا الشخص؟ أنا آسف مرة أخرى ما كنت أظن ...
قالت مقاطعة بلغة باردة: إنه شخص داعر، أنا أعلم ذلك، خائن وكذاب، ولكني أحبه، ثم صمتت لزمن لا يعلم مقداره؛ لأنه كان يحسه دهرا طويلا مملا ولا نهاية له، أما هي فلم تحس بأن - هنالك - زمنا مضى، إنها لحظات أقل من أقل جزء من الثانية بساعة الجرسون.
قالت فجأة: هل تنتظر أحدا؟! - نعم.
قالت وهي تحملق في عينيه: أهي بنت؟!
قال بصوت منخفض كأن على رأسه عصفورة: نعم.
قالت: أهي خطيبتك؟!
قال متضايقا: لا، ولكنها ...
قالت مقاطعة وعلى عينيها بريق غريب وسحر أنثوي غامض: أنا سأخرج معك، هل توافق، ألست أنا أجمل منها، لقد كنت أجمل طالبة «بالكامبوني». ألديك مكان قريب من هنا؟!
سلمى لا يمكن أن تقول ذلك، مهما انحط سلوكها واحتقرت نفسها، وعندما تأتي سيحكي لها ويقول: إنكن - صنف النساء - منحطات. - اخرجي وحدك.
حملت مناديلها واندفعت خارجة، ومن فمها تسقط ألفاظا «شديدة العفونة».
نظر إلى ساعته، عشرين مرة في نفس اللحظة، وفجأة تذكر شيئا مفجعا، إنها لن تأتي؛ لأنه لم يعدها على أن يلتقيا هنا عند السادسة أو غيرها، بل لم يلقها منذ أسبوع مضى، فقط استيقظ عند الخامسة وبه إحساس قوي بأنه على وعد مع «سلمى» في المكان المعتاد عند السادسة، ولكنه الآن اكتشف أن الأمر ليس إلا خدعة أحاسيس حاكها عقله الباطني بخبث ومكر. لعن عقله ونفسه وأسماء أخرى وخرج.
في المدخل للميدان العام المواجه للمكان كانت تقف «سلمى» وخلفها صف من أشجار الجميز الضخمة القديمة، مرسلة جذورها المعلقة كأشطان المشانق، عندما رأته ابتسمت، توردت أسنانها البيضاء، ومثل فلة تفتقت محاجر مقلتيها عن عينين عسليتين مرحتين، منفعلتين كفراشتين في موسم التزاوج.
لقد انتظرته كثيرا قبل أن يأتي.
ولكنه مشقها بنظرة عابرة وجد في سيره قائلا لذاته وهو يهرب: لن يخدعني إحساسي مرة ثانية.
مهنته
وفي شارع مختبئ خلف السوق كانوا يقتعدون الحجارة وقوالب الطوب في صف ينتظم الطريق كلها، وعندما توقفت العربة الفارهة انزلقت منها امرأة حسناء ملساء نقية البشرة رشيقة كجنية، ترتدي بنطلون جينز وفانلة قصيرة الأكمام، في نهاية العقد الثالث من عمرها، جميلة، تصايحوا كالعادة: بياض ... مباني ... بياض ... سباكة ... بلاط ... حفر ... مسلح ... جناين ... عتالة ... حدادة ... بياض ... بلاط ... بلاط ... حفر ...
يشبه بعضهم بعضا؛ البشرة الجافة، الأوجه الباهتة، الأيدي الخشنة الغليظة، رائحة العرق الجاف التي أصلتها الشمس بأجسادهم.
ملابسهم ذات الألوان الداكنة المليئة ببقع الطلاء، الأسمنت والزيت، لغتهم اليومية المستهلكة. صدحت: حفر جدول.
السائق الوسيم وضع الجاروف والفأس داخل صندوق الخلفية ثم انتهره: اركب!
ثارت موجة من الأغبرة عندما ضرب جبارة قدميه بشدة على الأسفلت، تخلص من بعض ما علق بحذائه من أتربة، امتعض السائق، فتح هو باب العربة وركب، ولكنه فجأة صاح مذهولا: الكلب!
قالت وعلى فمها ابتسامة باهتة: لايكة مخلوقة مسالمة وطيبة جدا.
اندهش قليلا لكلمة طيبة، ولكنه أخفى دهشته بظل ابتسامة أحس في ذاته أنها مبتذلة، جلس ملاصقا للباب مبتعدا عنها بقدر الإمكان، تهز ذيلها القصير بتودد وتقترب منه ، لم يذكر أنه رأى كلبة بهذا القدر من النظافة والنعومة، أحس أنها أنظف منه بكثير وأسعد، كان فراؤها أرق ملمسا من القطيفة وأكثر بهاء، معبق هذا الفراء بعطر أنثوي مثير، ضخمة، تقاسيم وجهها مخبأة تحت شلال من الصوف الأبيض الناعم، إلا أن عينيها الحمراوين تطلان من وقت لآخر حينما تهز رأسها أو تهتز العربة ... كانت ترقبه بواسطة مرآة العربة الداخلية.
إنها من أب بريطاني أصيل وأم ألمانية!
يرى وجه السائق منعكسا على المرآة، نظيفا عليه شارب حف بإتقان وصبر خاص، ذقن أملس «لعقه الكلب»، كان ينطلق عبر الشوارع الفسيحة الفارغة في جنون وهو يهذي بأغنية رخيصة. - ألم تسمعني؟ - آه ... أنا؟
وعند بوابة الفيلا العتيقة وضع جاروفه وفأسه أمامه، اقتعد قالبا من «الطوب الحراري»، حفر في نفس الحي ورفاقه حديقتين وما يقارب المائة بئر، يعرف هذا المكان جيدا، في نهاية الشارع وقرب المتنزه امرأة تبيع الطعام للعمال في ظل عمارة تحت التشييد، فإذا أخبرته بموضع عمله وأعطته «العربون» فسيتناول إفطاره عندها قبل أن يبدأ «عمله»، وبعد ربع ساعة سمع صوتها يطالبه بالدخول.
تماما كما تخيله، كان منزلا فخما تتقدمه حديقة خضراء مزهرة، وفي حجرة جانبية متسعة قدمت له الخادمة إفطارا وبعض الفاكهة، لم يندهش لذلك، فغالبا ما يقدمون إليه إفطارا عندما يعمل في المنازل، سواسية في ذلك الأغنياء والفقراء من الناس، ولكنها أخذت تسأله: من أين أنت؟ أين تقيم حاليا؟ ألا يزال أهلك هناك؟ كيف تقيم في مثل تلك الأماكن؟ فلقد قرأت عنها كثيرا في الجرائد، ولماذا لم تكمل تعليمك الثانوي؟ أتخجل مني؟ لا أصدق.
كيف أنك لا تدري كم عمرك، أليس لديك شهادة ميلاد؟
ما رأيك لو وجدنا لك عملا معنا هنا. نعم، وكل شئونك علينا؛ طعامك، سكنك، وشرابك؟ هل يكفيك هذا الأجر؟
هكذا، ثم قالت: نحن نحتاج لخفير، أنا وزوجي ولايكة نقيم هنا وحدنا، وقد يتغيب زوجي كثيرا عن المنزل، كما أننا في حاجة لمن يهتم «بلايكة»؛ فقد توفي مربيها قبل أسبوع في حادث «سير»، ومن يومها حزنت «لايكة » المسكينة على موته حزنا عميقا، كاد أن يودي بحياتها لولا أن طبيبها الخاص استمات في علاجها، وقال: لكي لا تموت لايكة لا بد ممن يهتم بها ويرعاها.
قضت ساعتين بالتمام لتشرح له كيفية إعداد أطعمة لايكة والتعامل معها، ثم اختتمت محاضرتها بأنه سيكتشف بنفسه أشياء أخرى طيبة، وأنها واثقة في قدرته على استيعابها والتعامل معها.
في الأيام الأولى قامت «سابا» برعاية لايكة بنفسها لافتة نظره بأن يتعلم: أتعلم، إن لايكة من أجمل ما خلق الله من حيوان؛ فهي خليط من فصيلتين، فالأم «جرمان بريد»
GERMAN BREED ، وفصيلة «أسبانيل» من جهة الأب، «أسبانيل» مشهورة بفرائها الجميل وآذانها اللينة المنبسطة مثل آذان الفيلة، ألم تلحظ أذني لايكة الجميلتين؟ وعندما اشتراها بابا لي من ذا جود برادايس
THE GOD PARADISE
بلندن، أعطي معها شهادة ميلادها مسجلا عليها شجرة نسبها، تركيبتها الوراثية، فصيلة دمها، نوع الأجسام المضادة التي بدمها، انتهاء بالأشياء البسيطة مثل: تاريخ ميلادها، اسم والديها، المستشفى الذي ولدت به، مسقط رأسها ... إلى آخره.
ما معنى تركيبتها الوراثية؟
حجرة لايكة هي حجرته، سريره من النيكل، ناصع البياض، عليه مساند بها رسومات بألوان زاهية وكتابة بلغة لا يعرفها، وبعض ملاءات التيل الغالية الثمن. أما مضجع لايكة فعبارة عن حوض متسع من الخشب المضغوط مفترش بمساند من الصوف عليها ملاءات من الحرير الناعم المختلط بالقطن. «نريدك أن تصبح جزءا من الأسرة»، سابا فتاة طيبة القلب، قالت إنها تعز لايكة، تحبها، وإذا أراد أن يكتسب ودها فعليه بحب لايكة ومعزتها. وعندما جاءته في تلك الأمسية ومعها لايكة أوصته خيرا بها، ثم أضافت: لايكة - كما قلت لك - حزينة جدا في هذه الأيام، ولقد سمعت بأذنيك بالأمس ما قاله طبيبها البيطري ... آه لو رأيتها وهي في كامل سعادتها، فقد كانت تملأ البيت حركة، نشاطا وشغبا لا حدود لهما، إن مخلوقا رقيقا مثلها حزنه أليم على أصدقائه وأحبائه.
وإذا استمر المرتب على هذا المنوال فبإمكانك يا جبارة ود جبر الدين أن تتزوج بعد ثلاثة أعوام فقط، لا بأس أن تقيم زوجتك مع أمك وأبيك هناك، ويكفي أن تعودها مرة واحدة في الأسبوع، والمصروف الذي يطعم أمك وإخوتك الصغار لا شك أنه سيسع زوجتك كذلك. آه إنه مبلغ كبير كبير، لا أكاد أصدق. هه، نحن نكره هؤلاء الأغنياء بغير سبب يذكر، فقط لأننا لم نرهم من الداخل، وفي ركن الحجرة المواجهة لسريره يقبع سرير لايكة وحوض استحمامها، وبالقرب منهما مقعد صغير صنع من الرخام لقضاء حاجتها، صنع خصوصا لهذا الغرض. «بابا جاء به من لندن.»
أطفأ لمبة النيون، ولأن لايكة لا تحب الظلام؛ أضاء لها لمبة صغيرة، اعتاد قبل أن ينام أن يتنقل بمؤشر المذياع الصغير عبر المحطات الإذاعية باحثا عن أغنية جميلة ينام على إيقاعها، بالتأكيد لم يصدق أصحابه: أن ينتقل «جبارة ود جبر الدين الحفار» في لمح البصر من ألحفة الخيش، البنايات المهجورة والسكن العشوائي، الذباب والبعوض، إلى سرير النيكل، الجبن المعلب، ولحم الضأن.
في لمح البصر، كما لو نزلت عليه ليلة القدر، ضحك.
لو كان يحبك الله فماذا تفعل؟ غير الإذعان لرحمة محبته.
كان المغني الأمريكي يصرخ بشدة عندما قفزت لايكة من مضجعها، تمطت، أصدرت عواء باهتا، هزت ذيلها القصير، خفض صوت المذياع وأخذ يراقب تحركات هذا المخلوق الضخم. بالأمس قال له طبيب لايكة بعد أن أجرى عليه بعض الفحوصات: صحتك في تحسن، وتخلصت تماما من فقر الدم.
برفق أغرقت فراءها الناصع البياض المعطر في حوض الحمام، وأخذت تسبح في مرح، وتلاعب قطع الفلين الملونة الطافية على سطح المياه، في هذه الحالة عليه بتهيئة جهاز التجفيف الكهربائي ليجفف فراءها فور انقضاء متعتها المائية؛ لكي لا تصاب بالبرد أو داء الفطر.
سعيد وهو يؤدي كل ذلك، إن جده «جبر الله» كان يعمل سايسا للخيل أربعين عاما، عاصر الترك والإنجليز، وكان أشهر من ساس الخيل في بلده، وهو الآن يسوس الكلاب، كلها حيوانات، وقد يسوس حفيده - غدا - القطط. ابتسم لنفسه وهو يعود لسريره المريح مرة أخرى.
لا يدري ربما كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحا، أو بعدها بقليل، الحجرة شبه مضاءة عندما فتح عينيه على عواء لايكة وخدش مخالبها، مرهقا كان، أضاء لمبة النيون، ماذا أصاب لايكة؟ «كانت تتشبث محاولة صعود السرير ... آه» تذكر قول سابا: أحيانا تحب لايكة صعود السرير، فلا تحرمها ذلك، فهي لا تؤذي.
ساعدها على التسلق، حاول أن يواصل نومه، ربما شك في وفاء سابا لزوجها العجوز، ولقد سمع بما فيه الكفاية عن زوجات الأغنياء ذوي الشعر الأبيض، كانت تقول إنه يحب الترحال والمال أكثر من أي شيء آخر، وأخذ يبحث في مخيلته عن عشيق يناسبها، حينما قفزت صورة السائق الوسيم. والحق يقال؛ لقد فكر في نفسه هو كذلك. لم ينم تماما حينما أحس بأنها تتمطى أمامه ملاصقة لجسده شبه العاري، فتح عينيه التعبتين، وعندما فردت ساقيها أصبحت في خط مواز لجسده. تنظر، تعوي، تلحس عضوها، تتمطى، لم يصدق عينيه، يهتز الجسد الضخم المعبق بالعطر الأنثوي، يعوي، يرتجف، فهمت الآن يا جبارة كل شيء، أطفأ كل الأنوار، أغمض عينيه بشدة. (...)
كان أذان الصبح قد بدأ نداؤه، ويستطيع أن يتسمع هدير السيارات، وقع أحذية العمال وهم ينشدون أعمالهم، ضحك في نفسه، خيل إليه أنه نبح. كانت تنام في هدوء تام حينما خرج من الحمام وصرخ في وجه الخادمة بأن تعد له الإفطار في قاعة الطعام.
لقد أصبح من أعضاء الأسرة.
27 / 8 / 1991
ميلاده
أنينها جذبني إلى المكان، كنت مرهقا، نظام العمل الجديد كان يمتصنا إلى آخر قطرة حياة في شراييننا، ولكن سوء الظن بما يكون عليه الموقف، سبب الصرخات والأنين والتوجع المكتوم، هو الذي أعاد لي شيئا من الحياة وجعلني أندفع نحوها كالسهم.
كانت وحدها تحت نخلة أمام دكان مهجور، حولها قاذوراتها، ولو أن الظلمة حالكة في الزقاق إلا أنها كانت تحت شعاع متسلل من لمبة طريق بالشارع العام، مضاءة بالقدر الذي يجعلني أرى وجهها الأغبر وتقلص عضلاته الصغيرة، واحمرار عينيها وهما تضيقان وتتسعان في آلية مؤلمة مثيرة للإشفاق، وكأنها في وحدتها وظلمها تستشفق شياطين الظلمات، انزلقت نظرتي إلى موضع كفتيها، وكانت تضغط بهما بطنا منتفخا تحت أسمال بالية، وعندما رأتني صمتت فجأة وهي تحملق في وجهي بعينين ثابتتين ، ووجه بارد خال من أي تعبير كوجه مومياء فرعونية، ثم قالت بكل براءة: هل تستطيع أن تولدني؟ الطفل سيشقني، سأموت إذا لم تفعل!
قلت لها دون تفكير: لماذا لا تذهبي إلى المستشفى؟!
ابتسمت ابتسامة زيتية داكنة ثقيلة: لا أستطيع المشي، ولا أجرة التاكسي، أيضا لا يمكنني أن أدفع للمستشفى، لا يوجد في الكون شيء من غير «قروش». أصدرت مواء باهتا ثم غابت عن الوعي وهي تهذي كالسكرى، واحترت فيما أفعل وأنا لا أمتلك غير خمسة جنيهات «للباص» العام للبيت، والساعة تشير إلى العاشرة والنصف، بعد نصف ساعة فقط ميعاد حظر التجوال، ولأنني مرهق من جراء كنس السينما وغسلها؛ لا أستطيع حملها على ظهري، ولو حملتها فلا يمكن أن يقبلها المستشفى، ولا يوجد مستشفى لله في هذا البلد.
هم في نفسي صوت لم أستطع أن أتبينه؛ أصوت ملاك هو أم صوت شيطان رجيم. - ما لك أنت؟ ربها اللي خلقها قادر على أن يجد لها مخرجا، اقدر على نفسك أنت. نصف ساعة وحظر التجوال، الحق آخر باص، وغدا الصباح تعال لتجدها قد أنجبت صرصورا كبيرا قابعا قربها يستكشف العالم من حوله بقرني استشعار وعينيه اللامعتين.
خطرت لي فكرة، وهي أن أحاول حملها إلى رصيف الشارع العام، ربما وجدتها الدورية، أخذتها إلى الحبس وأحضرت لها قابلة أو طبيبا على نفقة الحكومة.
أخذنا جند «الحظر» معا.
ربما كان الطبيب على شيء من الحق.
فلقد كانت متسخة وقذرة، رائحة إفرازات المرض الجنسي المصابة به قوية نافذة ولا تحتمل إطلاقا؛ لذا طلب الطبيب من «الفراشة» أن تقوم بإزالة شعر عانتها، بقمله، صنانه، وإفرازاته النتنة.
وأن تغسل هذا الجزء جيدا بالمياه الدافئة وصابون «الفنيك»، وتضع عليه مادة «الديتول» المطهرة مركزة.
ثم مضى يستفرغ أمعاءه عند المغسلة، لاعنا اليوم الذي درس فيه الطب وعلم النساء والولادة.
قالت لي الفراشة: ساعدني، أرجوك.
قالت هي: أنا أموت.
انتهرتها الفراشة مغتاظة: موتي، موتي، أريحينا واستريحي.
عندما باعدت بين ساقيها المتسختين البنيتين المنقطتين بآثار الدمامل، وغابت في شبه إغماءة مستسلمة لآلام المخاض ولذة وجع الطلق، حينما ظهرت مخالبه الأمامية، صغيرة، بيضاء، طرية وناعمة، كنا أنا والفراشة مندهشين وغارقين في غيبوبة فنطازية لزجة موقعة في وعينا بموسيقى ال “Ragae”
المتسربة إلينا من مكتب الصحة المجاور، صرير الجرذان، هدير البحر، نعيق الغربان السوداء، هفهفة شجرة النخيل الباسقة المتشامخة خلف شباك المكان، رعد مفاجئ، ثرثرة هلامية تنبعث من مسام الجدران وفراغات الأسرة، قطع الأقمشة الثقيلة البيضاء، القطن الدامي المتناثر هنا وهناك. فجأة أحسسنا بالبرد ونحن نرى رأسه المستطيلة تعانق فراغ الحجرة، عليها شواربه السوداء الدقيقة غارقة في مخاط لزج شفيف وهلامي. قالت لي الفراشة فيما بعد: كنت أحس بالأشياء تتوهج وكأنما ركبت عليها أقمار مضيئة صغيرة.
قلت: امتلأت حينها بكلام غريب ثقيل غير مفهوم، كان يخنقني، بطلق أخير قفز خارجا رشيقا، نشطا، وكأنما نغمات «موسيقى ال
Ragae » كانت توقع جريان الدم في شرايينه البكر، أثبت في أقوالي لإدارة المباحث الجنائية أن التراتيل القرآنية، هديل الحمائم، أناشيد المحبة؛ ما كانت تأتي من مصدر محدد، ولا يمكن أن ندعي في إمكان واحد منا أن يموسق جمود الزمن في تلك اللحظة، تساقط رطب النخلة، غرد عندليب، هوت نجمة أضاءت مشارق الدنيا، عندها فتح عينين سوداوين متفائلين، نفض عن نفسه المخاط بهزات عنيفة متتالية (نبح)، وذلك أمر مؤكد قبل أن يقفز عبر النافذة إلى الرصيف.
10 / 11 / 1993م
ابنته
حاج زكريا العجوز رجل محدد جدا، ومن الصعوبة أن يحب إنسانا ما، أو يدخل في علاقة عابرة مع من كان من الناس، ود محمد يعرف ذلك جيدا؛ لذا عندما خاطبه حاج زكريا قائلا: غدا الجمعة تغدى معنا!
قبل فورا ودون مجاملة، وعلى الرغم من الفارق الطبقي إلا أن إحساسه بأنه أصبح من خاصة الخاصة، أدخل في نفسه عبقا من البهجة وسرورا عظيمين.
كان عاملا بسيطا في مستشفى الحياة، رجلا فقيرا، وبقدر فقره كان محترما ومحبوبا من الجميع، ولو أنه أعظم من الخواجات وقد بهرهم بذكائه وعبقريته في جامعات أمريكا وبكين، ويعظمه القابلات العجائز والممرضات حين ينتفخن بالقول فخورات : لولا أن ستره الله لقتله الخواجات؛ فهم لا يحبون أن يتفوق عليهم أحد إطلاقا.
نحيفا كان، رشيقا كعود ثقاب، تعلو هامته صلعة جميلة ملساء، متواضعا أنيقا كجناح فراشة، رجل نقابة نشط، ولكنه كما يقلن لسوء الحظ أو لحسنه (لدى الطبيبات والجميلات المقربات منه) عانس.
فرحوا بزيارته كما لم يفرح طفل بهدايا جدته، ولأنه حلو كلامه محب للطيب من القهوة، حكاوي الجدات، الخالات، والأخوة المتحفظين أيضا، فكان كنبي الله الخضر في بيت أم موسى. «هل تريه البنت؟ لا، لا، هذا أمر تافه، وقد لا تقبل أمها أيضا؛ فهي حريصة على كتمان هذا السر، وهي أيضا لا تحب أن ترى أحدا.»
همس في أذن زوجته، فقالت ببرودتها المعتادة: دع الرجل يحترمنا. - إنه طبيب جراح يفهم كل شيء في هذا الشأن وربما ساعدنا. - اترك البنت في حالها، أرجوك لا أحد غير الله في هذا الكون يستطيع أن يفعل من أجلها شيئا.
ولأن حاج زكريا عندما يركبه جنون فكرة ينطلق بها إلى أبد منتهاها، وهو أيضا أحب أن يرضي زوجته، ألح عليها أن تقبل، وقبل أيضا ابنه «ناصر»، فابتسم في وجه الدكتور الذي كان غارقا حتى شعر رأسه في حكاية للجدة فاطمة بنت الوكيل، خرفة، قال: هل أريك ابنتي منى! - ألك ابنة؟ قال محاولا أن يندهش: ألك ابنة أخرى غير أمل، سعادة، زهرة؟!
قال حاج زكريا، وكأنه يريد أن يؤكد لنفسه هو أيضا أن له بنتا تسمى منى: منى، نعم منى. منى، تعال لتراها.
وفي قلق وانفعال سحب دكتور محمد فتحي من يده منتزعا إياه من خرافات الجدة إلى خرافاته هو الخاصة.
إطلاقا لم ير في حياته أجمل من هذا الوجه. غير وطنه، رأى وطنين، ففي بكين الأوجه مستديرة ناعمة كلحن فلوت منفرد في ليلة مقمرة، عليها عيون حادة، ذكية ضيقة مختصرة مشحونة بسحر أنوثة عريقة القدم، دافئة كشط حلم صيفي، فمنى خلاصة هذا السحر الكونفوشيوسي.
في مساءات الربيع، وعندما يتجول في أزقة مدينة بوسطن بين مقاهي الطفل إدجار آلان بو الذي يسكر بكأس واحدة من البيرة، وتحبل أساريره بمجرد عطر أنثى، كان يجد الخلاسيات والهجينات الأمريكيات، سمرتهن القمح، عيونهن غابات الأبنوس، منى كان وجهها تعبيرا غامضا عن كل ذلك. ولأنها أجمل ما رأى؛ رفع والدها عنها ثوب الترقال السميك والذي كانت تتدثر به، في جرأة وانفعال مهووسين، المقل الدمعة المحملقة في تلك المحنة العجيزة المعكوسة، ومن اللمحة الأولى، كاد يغمى عليه، أحقا ما يرى، أم كان كابوسا عابرا جميلا مجنونا؟! يريد أن يفهم، هل العجز هو الذي بالأمام؟ أم الوجه الجميل الساحر هو الذي بالخلف؟! لكن الذراعين كذلك معكوستان، أحس بدوار طفيف ولكنه ظل متماسكا، ولم ينطق بغير جملة غليظة لم يفهمها أحد:
Congenital anomaly .
1 - إنها ولدت هكذا منذ عشرين عاما.
جذبت الملاءة لتغطي أحزانها، ثم أخذت تبكي بعصبية تحت الغطاء بكاء حامضا، ثم انفجرت: اتركوني وحدي. «لا، لا» في عمقه صرخ د. محمد عندما لاحقته صورتها الجميلة المفزعة في نفس الآن، الغيث والصاعقة، «لا، لا»، كان يحاول أن يخلق توازنا نفسيا، لم يستطع هذا العقل الجراح الصمود أمام مسألة الوجود أو لعبته البسيطة جدا.
من يوم ميلادها خبأناها وقلنا للآخرين إنها ماتت، ولا أحد يعلم بوجودها غير أفراد الأسرة وخاصة الأقارب، وأنت. امرأة بهذا الجمال، بهذا القبح والمفاجأة، لم يبدعها حتى خيال «سلفادور دالي» في قمة جنونه وعظمة شيطانيته، وقد حاول كثيرا د. محمد أن يقنع نفسه رغم ذلك بأنها حالة عادية، وأنها فتاة كاملة في جمالها وخلقها، فقط بإبداع رباني مختلف، شغلت باله كل الوقت ولم تبق في سماوات وعيه وغيبوبته غير هذه «المنى» وحدها. فكر فيها بعقل الجراح، وجهز في صمت سكونه المشحون بصخب الفكر والمحاولة غرفة العمليات، وأخذ يعمل مشرطه، ثم أطلق لخيالات إنسانه العنان ورسمها امرأة، أنثى، فصعبت الصورة ولكن لم يستحل التخيل، «لا بد أن تكون أنثى، ممكنة جدا»، طرد ذلك وهو يكتب رسائله لأساتذته ببوسطن وبكين شارحا لهم مأساة أمكنة الجسد المختلفة، ومرفقا مع الخطابات رسومات «المنى» وهي في مواضع شتى:
صورة للعجيزة الضخمة نائمة في نهر أنوثتها أمام الوجه الجميل، وهما يتناجيان في حوار خلقي صامت.
صورة أمامية أو خلفية للبطن وهما يتناجيان في حوار خلقي صامت.
صورة أمامية أو خلفية للبطن في لقائه الغامض بالخصر وملتقى الفخذين، وهما يطلان على الجزء الخلفي من الجمجمة، وربما كان هذا الجزء الأكثر قبحا وألما.
وصورة للوجه المبدع بموسيقاه السريالية المجنونة وفضاءات الأسئلة الكامنة فيه، فاكتناز الشفاه يحاور نجل المقلتين الحزينتين، وكما ينفرد النأي بتعبيره العاطفي في لوحة الحب، كان الأنف يشكل تواصله غير المتناهي في عبثية القبح، الجمال، الوجود والعدم، ثم دقق ما أمكن لكي يبرز مسحة الحزن الباهتة التي تنام بين ثنيات تفاصيل وجهها الملائكي، محتضنة الأسئلة الكبرى المقعية ما بين الجفن والرمش والتجاعيد الناعمة والناعسة في زوايا مقلتيها.
داوم دكتور محمد فتحي على التواصل إلى أن اعتادت عليه وكأنه أحد أفراد الأسرة، كثيرا من وقت زيارته كان يقضيه في حجرتها، ولو أنه قد بدأ بأخذ عينات دم وخلايا ومخرجات لإجراء الفحوصات المعملية عليها، إلا أنه اكتشف مجالا آخر في ذات «منى»، وأخذ يسبر غوره بكل دقة، صبر وأناة، وكان هذا المجال هو البعد النفسي فيها كإنسان، البعد الألفوي، فكانت نادرا ما تتحدث معه بعيدا عن دائرة أسئلته الطبية. - أتحسين بألم في هذا المفصل؟ - أحيانا ... لا ... سابقا. أو تهز رأسها سلبا أو إيجابا.
ولكنه عندما أخذ يحدثها عن نفسه، معاناته اليومية، مآسي مرضاه وموتهم في كثير من الأحايين؛ لعدم توافر العلاج، ولشح إمكانيات المستشفى من معدات لغرف عمليات إلى أبسط العقاقير، وعن مآسي العالم خارج هواء حجرتها، ثم أخذ يقرأ لها بعض الروايات العالمية مثل: غادة الكامليا، أو الرجل الضاحك أحدب نوتردام، آنا كارنينا، أو حتى فتاة من روما، أخذت تتجاوب معه أكثر وأكثر، ثم انفجرت تروي ما حفظته من حكاو عن جدتها بنت الوكيل وأمها، ثم تحدثت ولأول مرة في حياتها عن نفسها، حرمانها، تصورها للحياة الطبيعية خارج هواء حجرتها، شوارع الله الفسيحة، مدنه، أسواقه، المستشفيات، السينما، المدارس، إلى أبسط تفاهات أحاسيسها: كم أشتهي أن أرى حمارا ، فلقد سمعت صوته كثيرا، لا بد أن تكون له رأس ضخمة، أكبر من قلة المياه.
عشرين عاما قعيدة ذات الأمكنة، ولأنها تعاني مشقة بالغة عند المشي؛ فإنها تظل أياما رقيدة مضجعها، تحلم بالأمكنة الشاسعة الرحبة الخضراء، حيث الهواء، «الحرية»، الناس والحيوانات المرحة الجميلة، وفي منتصف بعض الليالي القمراء، وعندما يهدأ الليل، البشر، العالم كله ينام في ثباته العميق، تصحبها أمها في جولة صعبة مؤلمة في فناء الدار، وقد لا تستمر هذه الجولة أكثر من ربع الساعة لتعودا وهما مليئتان بالأسى ولعنة الحظ والميلاد إلى آخر الحزن والمأساة. - أرجو أن تقبلوا هذا التلفاز هدية مني، من أجل «منى».
وهكذا كان لها أفق جديد ومساحة للضوء صغيرة، ولكنها عميقة وبعيدة الأثر في نفسها ووعيها، كان عالم خيالاتها بحرا، وهذا بحر آخر.
ولكن كانت المفاجأة الكبرى المجنونة عندما جالس د. محمد حاج زكريا بعد يوم شاق قضاه في المستشفى بين المرضى وجرحى المظاهرات وأعضاء نقابة الأطباء في اجتماعهم الطارئ، وسافرا في بحور الكلام شرقا وغربا، ثم انفجر د. محمد قائلا: بصراحة يا حاج زكريا أنا أريد أن أناسبك. - خير يا بني، ولكن «أمل» صغيرة، و«سعادة» مخطوبة لابن خالتها، وزهرة ستزف في عيد الفطر القادم لابن عمتها «مجاهد». - إنني ... إنني أطلب يد ابنتك «منى».
بلا شك اعتبره الأب مجنونا أو في غير وعيه، أو أنه ظن نفسه يحلم حلما ملائكيا سعيدا، ولو أنه لا يخلو من الكوابيس الشيطانية. - لا إنها ليست بنتا، ولن أزوجها لأحد؛ فهي خليقة مشوهة ولا تصلح للزواج. - ولكني أريدها كما هي؟! فلقد أحببتها، إنني اكتشفتها كإنسان بعيدا ...
قال منفعلا مقاطعا: لا، ليست لي بنت تسمى منى، لا أريد فضائح، يمكنك أن تتزوج من تشاء من النساء، فأنت رجل مرغوب ونادر، بل يمكنني أن أزوجك أمل، ولكن منى لا، إطلاقا. - حرام عليك، فهي إنسانة كاملة، فقط ... - لا. - راجع نفسك؛ لأنه لا مجال أمامي لمراجعة نفسي؛ لأن ... لأن منى حبلى الآن؟!
أسرة الحاج زكريا من الأسر العريقة القديمة بالمدينة والغريبة أيضا ، وكان الناس دائما تنظر إليها كأسرة غامضة لها خصوصيتها التي لم يجرؤ أحد من الجيران، المعارف أو الأصدقاء على اختراقها أو محاولة الاقتراب منها أكثر مما تشاء الأسرة، وكأنهم لا يريدون أن يدنس أحد حرمة عالمهم الخاص، فكانوا لا يوسدون صدور فتياتهم غير رءوس أبناء العمومة والخئولة والإخوة، ولا يعشق أبناؤهم غيرهن، فكانوا مثل أشجار السرو تنمو رأسيا كافرة بحكمة الدوم والصبار، كما أن أصدقاءهم محدودون ومحددون، ولا مجال أمامهم لكسر أطواق محدوديتهم.
لم يدع أحدا لحفل الزفاف، بل لم يكن هنالك حفل، ربما غم صغير مر في رشاقة وتوارى خلف الأيام، لفت الفتاة في ملاءة وأودعت العربة لينطلق بها الدكتور نحو بيت قصي اتفق عليه قبل الزواج، وأتبعت بأختها الصغيرة «أمل» لخدمتها.
سعيدة منى في ذلك اليوم وأجمل مما كانت في أي وقت مضى. «ماذا لدي لكي أقدمه له، إنني لا أستطيع مجرد خدمته، فهل سيظل مكتفيا برؤيتي راقدة على السرير أتعلم القراءة والكتابة، أشاهد الفيديو والتلفاز؟! وإنني لا أستطيع أن أغني، أو أقرأ له ... دمية ... دمية ... ليتني ما زلت هنالك بين جدران أبي، نائمة ليل نهار بغير مسئوليات تجاه أي كان، عاطلة أصارع بؤسي ومحنتي.» - اغفري لي، لقد جنيت في حقك مرة. - هل حدث ذلك؟ معقول، لا أذكر إطلاقا! - بل حدث، فلقد قلت لوالدك، لكي يرضى بزواجي منك، إنك حبلى. - معقول، ولكن ... ولكن ... - لا، لقد أخبرته بالأمس بكل شيء ولو أنه غضب مني، ولكنه سامحني وربما احترمني أكثر. - ولكن ماذا لو كان قد فاجأني بذلك؟ - أنا أعرف أنه لا يفعل، فلقد عاشرته سنوات طوالا، وأنا أعرفه أكثر من نفسي.
كثيرا ما كانا يقضيان الليل متجولين عبر الشوارع الفسيحة الفارغة إلا من عسكر الدورية وبعض المجندين الرسميين، السهرانين في أمكنة المدينة الشتى والمتشردين، «هذا شارع صلاح الدين الأيوبي الذي يتفرع منه شارع الثورة، حيث يفضي إلى مستشفى الحياة الجامعي، الذي أعمل به ويعمل والدك به أيضا، كل هذه المباني المبنية من الخيش والصفيح والكرتون يسكنها النازحون الفقراء. تلك هي سلخانة المدينة، والمبنى الضخم ذو الجدران الحجرية العالية الذي يقبع خلفها هو «السجن الكبير»، أما تلك فهي المقابر. الساعة الآن العاشرة، تبقى من زمن حظر التجوال ساعة واحدة، هل نتمشى قليلا على كبري الحرية؟!» - ماذا لو رآنا أحدهم؟! - أحرام أن يتمشى رجل وحبيبته، أو يجلسان على شاطئ؟
قالت وقد خنقتها عبرة عابرة: أنت رجل عظيم يا محمد، أنا أحبك. (نطقت الجملة الأخيرة بصعوبة وجهد.) - أنت متأكدة؟! أما أنا فأحببتك منذ أن عرفت كيف أراك. - فلنعد إلى المنزل. قالت بقلق، وهي تلوي عنقها لكي تنظر إليه نظرة مستقيمة فاعلة.
كان البيت بعيدا جدا، والشوارع الفسيحة يتمطى فيها الأسفلت الأسود البارد ليؤجل عن قصد وصول السيارة بزمن يعادل لهفتها إلى احتضان عبق البيت.
قالوا لها إنها محنة ابتلاك الله بها، وسيأجرك عليها ما صبرت. ولكنه قال إنها عملية تفاعل الجينات تفاعلا كيمائيا أو فيزيائيا، مما أدى إلى ظهور كثير من الصفات المتنحية أو صفة جديدة، وقد يكون للتزواج بين الأقارب منذ مئات السنين أثر ... و... «فكيف» يكون خلقا مختلفا فقط كما يقول؟! وإذا كان الأمر كذلك، لماذا يهرب مني؟ لا بد ... لا بد ...
قال: أنت تبكين؟!
مسحت دموعها بكبرياء وهي تتوكأ على كتفه وهما يلجان للداخل.
لم تندهش «أمل» الصغيرة لما طلبته منها، ولكنها أنجزته بجدية وإخلاص، فحفرت في المطبخ وسع دائرة صحف الطعام في عمق ذراع أو أكثر بقليل وبما زودتها أمها من حطب الطلح والشاف ذي الرائحة العطرة، أشعلت الحفرة ثم حجبت عنها الهواء إلى أن انطفأ لهب الطلح أو استحال إلى سحب من الدخان الرمادي الباهت، لفت أختها ببطانية الصوف الخشنة الرمادية العسكرية بعد أن أجلستها عارية على فوهة حفرة الدخان، ودلكت بشرتها الملساء الناعمة بزيت السمسم المختلط بعطر الكركار الزيتي والدلكة، كانت تعرف كل ما يدور برأس أختها «منى».
إنها تريد أن تصبح امرأة، امرأة كغيرها من النساء، ولكنها لا تعرف أن «منى» تريد أن تؤكد شيئا واحدا، شيئا ملحا إلحاحا مرا، وهو أنها إنسانة عادية، فقط بخلق مختلف، «خلق لم نعتد عليه».
أما دكتور محمد فإنه أصيب برجفة خفيفة، ولكنها نابعة من عمق الموقف والأسئلة الملحة، ولها بعدها الإنساني، وضع المجلة جانبا، ونظر إليها مشدوها وكأنه يراها لأول مرة. - منى؟! - هل هنالك شيء غريب؟!
أودعتها «أمل» السرير وانسحبت بسرعة إلى حجرتها، حيث أخفت وجهها تحت المخدة وغرقت في عاصفة من الدموع والنحيب.
لا شك أنها امرأة، بل نهر من الأنوثة والجمال الصوفي لا نهائي التدفق، وكانت تحرك فيه كل خبائث رجولته، ولكنها بين يديه كالمتاهة المعقدة في يد طفل نعس.
من أين يبدأ الولوج؟!
أي السبل تقود إلى فك العقدة؟!
بقدر ما كانت «منى» امرأة ممكنة، كانت جسدا مستحيلا.
الصدر في مكان الظهر أو العكس، ثدياها المنتصبان، ثديا فينوس تواجه العجيزة الضخمة، والصدر وخلفية الرأس والظهر يشكلون متاهة التشوه مع ملتقى الساقين، وقد فكر كطبيب لبعض الوقت ... - هل يمكن الحبل بسلامة؟! إن وضع الحوض المعكوس سيؤدي إلى وفاتها أثناء الحبل أو الولادة.
ولكنه في الحقيقة له أسباب أخرى إنسانية تخص الآلام، ونفسية معقدة ما باستطاعته سبر غورها.
إلا أنها الآن تفاجئه برغبتها المجنونة. - «إذا كان لا يرغبني كامرأة، أفضل الموت على البقاء في هذا المكان، إنه إحسان قاتل.»
قالت له: لنا عامان منذ أن تزوجنا!
قالت لها أمها: ألا تنجبان؟!
قال لمنى: لا تقلقي، الأمور ستصير على ما يرام، قريبا، قريبا جدا.
قالت لأمها: إنني أستخدم موانع الحبل.
قالت له: إذا، لماذا تزوجتني؟! هل تشفق علي؟!
قالت لها: طفلة ستسعدك، وتسر بالك، وتغير حياتك تماما، وسيحبك أكثر، ولن يغضب منك، فلا تستخدمي شيئا.
قال لها: لا تقلقي من أجلي. - ولكن من أجلي أنا، أنا أيضا، أليس ... أليس ... «أمل» تعرف أنهما منفصلان ولا علاقة جسدية بينهما، ولو أن منى تحاول أن تفهمها عكس ذلك.
ليلة مشبعة بدم الحزن والخوف، عميقة بغير غرار، كل شيء كان مستحيلا، حتى اللغة تباعدت حروفها، وانفرط عقد الكلام، ولأنها كانت ترغب بشدة أن تكون امرأة عادية كغيرها من النساء فقط بخلق مختلف؛ استطاعت أن تنجح في إجراء حوار حسي ذكي معه، واستخدمت إمكانيات جسدها المبعثرة على طول المسافة المستحيلة ما بين أخمص قدمها إلى خصلة شعرها؛ لتقنعه في نهاية الأمر بأن الطريق التي اختارها، هي الطريق نفسها التي يمشيها الآن، وأنه لا أحد آخر غيره هو.
ولأن خدمة المنزل فوق طاقة «أمل» الصغيرة، استأجر دكتور محمد اثنين من النازحين الفقراء، صبية في السادسة عشرة من عمرها؛ أي في عمر أمل، وأخ يكبرها بعام ونصف العام؛ ليقوما بنظافة المنزل وترتيب وتشذيب حديقته، التسوق والأمور البيتية الأخرى، وتفرغت أمل لمدرستها، ووضع الطعام، وأمور أختها الخاصة جدا.
ولكن ثورة «منى» شملت كل شيء بدءا من عاداتها الخاصة في التجوال والقراءة ومشاهدة الفيديو والإطعام، إلى آخر علاقاتها الزوجية، وشملت أيضا وضع الطفلين الفقيرين وخاصة البنت «محاسن»، فإن منى تريد أن تشارك مشاركة فعالة في ساقية الحياة بالبيت؛ لذا قررت أن تقوم ببعض الأعمال المنزلية، بالرغم من العناء البالغ الذي تلاقيه من جراء القيام بأقل مجهود يتطلب حركة عضلية ولو بسيطة وسهلة، إلا أنها كانت تصر على العمل، الحركة والحياة وبشدة؛ لذا فاجأت الصغيرة محاسن في تلك الأمسية: غدا لا تحضري. - لماذا يا ستي؟ هل أنا أخطأت في شيء؟ - لا، ولكني أستطيع القيام بكل ما تقومين به؛ غسل الملابس، كيها، كنس الحوش، نظافة المرحاض ... وكل شيء. - ولكني ... ولكني ... أين أعمل، والعيد قريب؟! - سأشتري لك ملابس العيد، وأعطيك أجر الشهر إلى أن تجدي عملا آخر، فقط آتي إلينا في الشهر مرتين.
قالت الصبية بطيبة قلب: ولكنك مريضة ولا ...
فقاطعتها في ثورة وكمن فقدت رشدها فجأة: اسكتي يا بنت يا قليلة الأدب، أنا لست مريضة، أنا قوية، هيا اغربي عن وجهي!
كان الجلباب المتسع الذي ترتديه يعوق حركتها، ولكنها تفضله؛ لأنه يخفي تفاصيل جسدها، فتتعثر وهي تعمل المكنسة على الأرض الرملية الرطبة، أو تسقط على وجهها فجأة وهي تحاول أن تنتزع عشبة برية تطفلت على أزهار الحديقة. وهكذا، صراع مرير مع مفردات الواقع، وإذا ما حاولت «أمل» أن تريحها شفقة عليها، انتهرتها بصرامة: إنه بيتي وزوجي، وأنا امرأة البيت؟!
في نهاية الشهر انتظرت نقاط الدم الداكنة كالعادة، ولكنها شكلت غيابا تاما، وفي الأسبوع الأول من الشهر الجديد، اقتنعت يقينا بأنها ستنجب قريبا، بعد ثمانية أشهر ويومين، طفلة جميلة ستسميها «سارة محمد فتحي».
وستلعب معها في الحديقة وعند شاطئ النيل بين أشجار الحراز والمانجو، وستزرعان معا أزهار الياسمين والفل والورد البلدي، وستكتب اسمها على سوق التين الشوكي، وتعلمها القراءة والكتابة والموسيقى قبل أن تدخل المدرسة، ولن تتركها تلعب مع أطفال الشارع؛ حتى لا تفسد أو تؤذى، وكما غنت لها أمها وهي في المهد، ستغني لها:
ربو يا ربو
كلب العرب ربو
أمو تبكي وتشكي وتقول وين يا ولدي
العروس عايزة المنديل
المنديل عند الجهال
الجهال عايزين لبن
اللبن عند البقر
البقر عايز حشيش
الحشيش تحت الجبل
الجبل عايز مطر
المطر عند الله
الله يا الله، الله يا الله.
وستحفظ من أجلها عشرات الأغاني الأخرى الجميلة من أمها وجدتها.
وعندما تكبر سارة لن تزوجها إلا لزوج يقبل أن يعيش معها في المنزل، ويجب ألا يكون من أبناء الخئولة أو العمومة، ولكن مهندسا أو طبيبا أو مديرا غريبا عن الأسرة، وحتى لا تكون سارة مشوهة مثلها، أو عادية بخلق مختلف، ولكنها متناسقة كوالدها، جميلة الوجه مثلها، وسيتخانق عليها العشاق والخطاب وهم يتدافعون عند بابها، ولكن بشروطها هي الخاصة.
قال منزعجا: سارة ... سارة ... من سارة؟!
فلوت ذراعها إلى الخلف مشيرة إلى بطنها: إنها هنا؟
وقف على رجليه وحملق في عينيها بخوف: إذا حدث ما كنت أخشاه.
قالت والدتها وهي تقبلها بحماس: مبروك، مبروك يا بنتي، ومنذ الليلة اعملي حسابك وابقي عشرة على نفسك.
قال بجدية بالغة: أخطر شيء في حياتك هو الحبل.
قالت لأمل: ستكون عيناها متسعتين كالفضاء، شعرها أسود كالليل، وفمها أعزب من النيل.
قال لوالدها: أرجو أن تقنعها بأن تجهض حبلها، إنه خطر عليها.
قالت له: لن أفعل وسألد بسهولة، ولن أقتل طفلتي سارة.
قالت والدتها: كانت دميتك وأنت صغيرة اسمها أيضا سارة.
قال وبه من الحزن ما به : حياتك أهم من أي طفل ستنجبينه.
قالت بعناد: أنا معافاة ... ولن يصيبني سوء، أنا لست مريضة، ويمكنني أن أتجول في الشوارع، وأنجب كما تنجب النساء.
قال أستاذ الجراحة بالمستشفى الجامعي: وضع الرحم معكوس؛ أي وضعه عكس وضع الحوض الطبيعي، وبالتالي تستحيل الولادة الطبيعية، وبنفس القدر تستحيل الولادة القيصرية؛ لأن موقع الظهر غير الطبيعي المشوه جعل الرحم في موضع ملاصق للظهر ولا يمكن الوصول إليه إلا بتفريغ الأحشاء، أو إجراء العملية عن طريق فتح الظهر، وهذا مستحيل لوجود النخاع الشوكي.
إذا أمامها فرصة واحدة.
ولكنها ترفض بشدة.
عادت «محاسن» للبيت وانضمت لفريق العمل بعدما أقنعت «منى» نفسها بأن تتفرغ لأجل طفلتها القادمة، فكانت تقضى جل وقتها في حياكة ملابسها الصغيرة، وصنع سرير المرجيحة من السعف، وتجهيز العطور وغيرها من ضرورات النفاس، كانت تحس في قرارة نفسها أنها في الطريق الصحيح، وأن المخاطر التي يتحدثون عنها لا وجود لها إلا في أذهان الأطباء وعاطفة والدها، ولأنها كانت تخشى أن تدس لها بعض العقاقير في الطعام أو الشراب لكي تجهض حبلها؛ فكانت تصنع طعامها الخاص بيديها، ولو أنها أجبرت أختها أمل على أن تقسم على المصحف بأنها لن تفعل شيئا يفقدها «سارتها».
في ذلك الشهر، كان إضراب الأطباء عن العمل احتجاجا على عدم توافر الأدوية ومعدات العمليات والفحص والتشخيص، بالإضافة إلى ممارسات جهاز الأمن والاحتياطي المركزي وقوات الشرطة العنيفة ضد طلاب المدارس والجامعات في شوارع المدينة طلبا للخبز والديمقراطية ورفع حالة حظر التجوال والطوارئ، وقد فشل الإضراب، واعتقل دكتور محمد فتحي لدوره في تنظيمه ومشاركته الفعالة في تنفيذه، ولم يطلق سراحه إلا بعد ستة أشهر؛ أي في الشهر الثامن لحبل «منى».
ففي تلك الأيام العصيبة كانت «منى» تعاني آلام المخاض.
في الوقت الذي كانت «منى» في أوج سعادتها تسبح في عبق الفرحة المنتظرة، كانت أسرتها جميعا في عمق القلق ونار الترقب ينتظرون، أما الدكتور محمد فكان متفردا في حزنه نسبة إلى إيمانه المطلق بأن منى لا محالة ذاهبة إلى حيث لا رجعة. ولأنها كانت تعني له الكثير؛ كان حزينا لأجلها: «هذه المرأة أول من أحببت، والأخيرة أيضا.» - أحس بحزنك، ولكني سأفاجئك وألد ابنتي في سلام تام، فماذا تقول؟ ألم تقل لي من قبل إني عادية وطبيعية فقط في خلق مختلف؟! فها أنا أؤمن بقولك، وإذا بك تكفر بما تقول؟! - لا تدريب كما الآخر يختلف في حالة الحبل والولادة. - لا، لا يختلف أنا أحس بذلك.
ولكن تدريجيا تلاشت شجاعتها، وكلما اقتربت من زمن الوضع، كبرت مخاوفها وتبدد يقينها، وكفرت هي الأخرى بمعرفتها. - هل سألد بسلام؟! - بالتأكيد، فلقد كانت مخاوفنا كاذبة، فقط هدئي من روعك وكوني طبيعية، وبعد ساعات سترين «سارة».
كان الجو غائما، الرياح الجنوبية تبشر بالأمطار.
وهتاف الطلاب والعمال والنسوة ينبثق من عمق الأمكنة السحيق محملا بفرقعة غدارات العسكر وصراخ الجرحى، أما رائحة البمبان الحارقة فتتسلق متين الريح لتغمر كل فج بشرورها، فتدمع المقل الحزينة ويختنق الأطفال.
و«سارة» في العمق المشوه والجسد الجميل سجينة لا تجد منفذا تعانق به نور الشمس. الحوض معكوس، والظهر لا يمكن شقه، ما بين الرحم وسطح البطن أحشاء، كل شيء كان مستحيلا، مغلقا وقاتما.
قال البروفسور: يجب أن ننقذ إحداهن!
وفهم الجميع معنى هذا القول، حيث لا خيار، أما «منى» فقد اختارت سبيلها التي سلكت، وأفسحت المجال واسعا من أجل «سارة».
قام فريق الجراحة بإجراء عملية قيصرية عنيفة، بعدها استطاعت «سارة» أن تعانق الرياح الخريفية المحملة بهتاف الطلاب، العمال، المزارعين، النساء، الأطفال، أجراس الكنائس، صياح الديكة، تراتيل الآذان ... وأن تصرخ ما أمكن صرخة تجاوب هزيم العاصفة القادمة لا محالة، الكامنة في جوف سحابات الغد الحبلى.
فصل د. محمد الجسد إلى ثلاثة أجزاء، أعاد وضعه في شكل متناسق صحيح ومتناغم، تنفست «منى» الصعداء، وحبلت في لا نهائية وجودها بعشرات الأطفال العاديين الطبيعيين، ولكنهم كانوا دائما في خلق مختلف، خلق أبقى!
أبريل 1999
في ذكرى مرور أعوام كثيرة على مغادرة بوذا لمدينة أسيوط
بغم أسيوط
أسيوط في أسيوط، أما الصادق حسين عند دوران روكسي يرقب المارة، في شارع النميس، ثلاث فتيات، ولد واحد، جلال الجميل، النفق الصغير، شارع الجامعة، عند كلية التجارة تقف عربة التاكسي، تنزل فتاة واحدة، تمضي العربة بالبنتين، كل ما في جيب محمد الناصر ثمن سيجارة واحدة، سوف يستخدم علبة الكبريت الفارغة كراسة لكتابة ملاحظاته عن محاضرة الدمشاوي الأخيرة، يغني الدمشاوي لسيد درويش، ثم يموت.
أنا لا أحب الفلافل، ولكن الجوع الكافر هو الذي جعل الفتاتين توقفان سائق التاكسي وتطلبان منه أن يشتري لهما جريدة المساء، ستقرآن لأول مرة لعاطف خيري وحسين تيه باجور وشكيري توتو كوه ووداد مرجان والشاعر الرقيق حمدي عابدين. هل نذهب إلى قصر الثقافة، اليوم هو الثلاثاء، البنت الكبيرة حميدة والبنت الصغرى فوزية أبو النجا، سمر هي أيضا طفلة جميلة ستصير أكبر من المروحة وأكبر من حديقة الفردوس، أنا أعرف ذلك وأيضا سعد عبد الرحمن، تتحرك عربة التاكسي نحو الفرح والجوع والآمال العريضة، دار الاتحاد، أمين حمدنا الله، جفون، أمل الخاتم، بهاء غير موجود الليلة يسهر مع أسامة الكاشف في الإسكندرية، فالموسم مطير، أشجار المسكيت تنمو في كل مكان مجانا، لا ثمن لشيء، تقف عربة التاكسي عند مدخل بيت الطالبات، درويش الأسيوطي، محمد درويش، إبليس الشعراء أحمد الجعفري يغني هو وجمال عبد الناصر على ترعة الإبراهيمية. يدخل، كانت بذاكرتي تعبث الجرذان، ذاكرة جرذ كبير، كبيرة ذاكرة الجرذ الكبير، بوذا يعشق الليل والنهار والسفر، وكتب عم سيد الشهية المتبلة والدوريات الكويتية، عالم المسرح وأقلام صدام حسين، العالم هنالك أقرب، أقرب أكثر من السماء، السماء هنالك تمطر قططا وكلابا، بوذا يرضع أغنام المهاتما غاندي ويهرب نحو قمة لاسا، معاوية الزاكي، انتصار، انتصار، انتصار الشايقي، دبي، الفاشر، انتصار الأخرى، أبو ذر وداليا وآمال في جمالها المرعب، جمال كبير البصاصين، تنزل بنت جميلة ولكنها تقول لجلال الجميل: نتلاقى في جامعة بحر الغزال.
عاطف خيري، اخرج، اخرج، عاطف خيري، عاطف الحاج، عاطف الفوكس، عاطف البحر، عاطف، نادر، عبده، سوسن، سوسن عبد العزيز، عبده نادر، اخرج يا عاطف، أنت لست في المنزل ، لست في الحسبان.
معروف عني،
أنك في كأني،
معروف عنك،
أني منك إليك،
أحبك شئت،
أبيت،
بكيت،
ضحكت، أرضت،
سموت،
لأنك أني،
وأني،
ذاتك أنت.
معروف عني، أنك في كأني، معروف عنك، أني منك إليك، أحبك شئت أبيت، ضحكت بكيت، أرضت، سموت؛ لأنك أني، وإني ذاتك أنت، سلام لطيف لا يوق، سلام لأشجار دفلي، سلام لسياب روحي، سلام لأسيوط قلبي، سلامي لقلبي، صديقي محمد فتحي، زكريا عبد الغني، صديقتي البتزا بنادي الحقوقيين، صديقتي جدا اليوم يمضي، والتكاسي تلفظ البنات في الشوارع الجانبية، بوذا وحيدا يواجه بوذا، والناس مشغولون عنه بالناس، والقصص القصيرة والأشعار والروايات تنتظر في دواته، أكره هذا العالم الجميل، أحبه أكثر، ما بين 1963 يوم الثلاثاء وبين 1993، ثلاثون عاما في الحمراء، عزبة السجن، محمد عيسى، عادل خليل شايب، عبد الله إبراهيم عبد الله، عبد الله المبصر، نحن العميان، رياض تبن، منى، نازك، الحاج حمد الحاج، جوهر، نادر، هجو، هجو اللعين، هجو اللعين جدا، هجو، عصمت، معاوية الآخر، معاوية الأول، أدخل مهجرا أخرج من آخر، الولد الكبير يغني.
بلادي وإن حنت علي كريهة، قومي وإن حتموا علي لئام، بوذا يتبول عند حائط المبكى فيلعن، أولئك أصحابي فجئني بمثلهم، كتاب، لسان سليط، مناهل سعيد، زينب، لا أعرف بحرا للمحس غير النيل، زينب حلمي، أطول عنق، عنق النخلة، وأجمل عنق، عنق النهر، وبوذا يستفرغ ذاكرته في قاع النهر، بوذا يحلم، تنزل حبيبة من عربة التاكسي، تصعد حبيبتان، جلال الجميل يتأمل وجه ياسر، ينقسم وجه ياسر لوجهين، وجه يخشى الأسفلت، ووجه يشع كالنجم، يذهب الوجهان لحضور البروفة النهائية لفرقة ساورا، الزين بحاري، أمل الخاتم، ابتهاج، موناز، السماني لوال، الصادق الرضي، أخيرا يفشل فيصنع فتاة من دمه، ولكن ينجح في أن يسميها نضال، من ينتصر علي من؟ كلتوم فضل الله، الدار صباحي، 012233305، الطريق إلى الله يبدأ من الله، في سنة 1992.
أحبك حبا شديدا.
فيروز، شادي، اللوسينا، حبيبة الصادق، أطيار الكلج كلج، قطية الروح، سلام بلادي في عيد السمك، خشم القربة، بنت النوبة، أحمد سعودية ، حماد، كفاح، حسن علي، كوثر حسين، سيحزن الليل أنه وحيد، يريد ليلا يؤانسه، في شارع روكسي، عند الدوران يقف الصادق حسين، لا ينتظر أحدا، ولكنه أيضا لا يريد الذهاب؛ لأن كل الأتوبيسات، والميني باص وعربات التاكسي والمترو والقطارات السريعة لا يمكنها أن توصله إلى كمبو كديس، ولا خميسة ولا عايدة ولا نعمة ولا علوية، ولا أحد باستطاعته أن يأخذه إلى ديوانه بالحي الجنوبي، قرب الزاوية شمال الغسال تسفاي، الصادق يحملق في المارة، الصادق حسين في جيبه علبة كليوباترا ومائة دولار أرسلها له أخوه داود من الولايات المتحدة، له حذاء جديد، وهو لا يهتم بالموضة، يكتفي بالجينز في جميع الفصول، تماما كما كان يفعل في خشم القربة وفي أسمرا أيضا، الآن لا ينتمي إلى أي حزب كان، فقط حزب المغربين والمبعدين عن كمبو كديس، الذين ليس بإمكانهم حضور يوم السمك في 18 / 8 / 2008، كل سنة وأنت بخير، أحمد زكي، كمبو أحمد زكي، معروف عني، أنك في كأني، كتبت حبيبة ذات يوم لحبيبها واسمه السمندل، أمه سوزان وأبوه المتنبي، قالت له: عد.
قال: من أين؟
قالت: عد وحينها انظر خلفك لتعرف أين كنت.
وكانت البلاد شاسعة، والنيل يمتد إلى ما لا نهاية، السمندل لا يعرف أحدا في أستراليا ولم ير حبوباته من قبل، لا يعرف وجه صالحة، فات منها فوتا، والصبر والكدح أبدا لا يعيدان غريبا لوطنه، عبثا الصادق حسين يقف عند الدوران، تقف عربة التاكسي، تنزل صبية، تلقي التحية كيفما اتفق، ثم تنتبه لوجود شخص تعرفه يقف عند الدوار، وجلال الجميل لا يعرف أحد أنه يحب الجميع، قالت: الصادق.
قال إنه سوف لا يذهب لأي مكان كان وبأي طريق كانت طالما لم تقده هذه الليلة إلى كمبو كديس.
قال لها: لا يوجد يا أختي ملجأ أفضل من الوطن. «قلنا لن يوصلك البحر.»
قلنا.
لن.
يوصلك البحر.
عاد أبكر آدم إسماعيل، وفرحت أمه بعودته وزغردت، ولكنه نسي في المهجر كراسة أشعاره الأخيرة، عاد مرة أخرى، سوف لا يشتاق إليه أحد. «لسنا في البيت
لسنا في الحسبان.»
نعم، سوف لا يشتاق إليه أحد، قلنا لن نشتاق لأحد، نحن هنا في البيت لا نضع أحدا في الحسبان، لن نشتاق إلى أحد، منذ أن غادر أحباؤنا البيت لم يعد البيت للبيت، والبنيات الصغيرات أطلقن ضفائرهن للريح.
أعدنا نحن الضفائر للنهر.
أطلقن ضفائرهن مرة أخرى للمطر.
أعدنا نحن الضفائر للرمل.
أطلقنها للنخيل.
أعدنا نحن الضفائر للودع.
أطلقنها للسوميت.
أعدنا نحن الضفائر للبنات.
فنعسنا ونمنا على أكفنا، وكنا كما تركتمونا أمينين على الصبيات، فتغازلنا الليل كله، ثم عندما أشرقت الشمس حملن أطفالنا وذهبن لآبائهن بالبشارة، بوذا يرسم في كهف العذراء مريم ليل دير المحرق، الأب ناشد بشارة، البابا كيرلس، لا أحد في المغارة، لا وجه يبكي، حبيبتي تقلم أظافرها عند المزلقان، تنبهها خديجة لأمر أهم، كريمة ثابت، آمنة الصعيدية الشاعرة، دكتور مصطفى، عم سعيد صاحب الكتب الشهية، نادي الأدب، الريح تأخذ حبيبتك للريح، والله يأخذ الريح بالريح، لا بأس، سلام من أجل وردة الطين، سلام من أجل كتاب لم نقرأه، سلام لأطفال الشوارع، أولاد الحرام، الذين ليست لهم ريح يستحمون بشظاياها، وأنت بارد كجرادة تبيض، بوذا سوف يغادر الآن أسيوط، نعم سوف يغادر أسيوط إلى محاسن، رحلة لم تنته وسيظل طبق الكسرة على عطر الطايوق ودخان الكتر، كان بول كلب طريد، أغسلته محاسن، ما زالت رائحة شوائه تزكم أنوفنا، عاد بوذا يحمل أسفاره الخمس: كتاب اللبن، كتاب السماء، كتاب الصبيان، وكتاب كمبو كديس، أنت لا تسوي شيئا في المنفى، حسن البكري، هنا سوف يراك الناس عندما تستحم في الخور، سوف يراك الجميع ويصفقون، ويرميك الأصدقاء بالسفاريك والدراب كما رمي الشنقر والرضي، كما رمي شكيري توتو كوة، يرمونك بالكلج كلج وأم بقبق وصلاح أحمد إبراهيم، بصديق الحلو، سيرمونك بي وبك وقبلة سريعة من صبية تشهيتها كثيرا وطويلا وقصيرا، ومثل عبد الله زيدان عندما انفردت بها في زقاق ضيق وهي عائدة من الدكان، ضممتها لصدرك بشدة وقلت في ذات روحك: ديني أنا.
الصبية الآن في البيت، ولكنها لا تنتظر أحدا، لا تشتاق إلى أحد، لستم في البيت، لستم في الحسبان، عند المساء، عندما يتهيأ لنا أن العسس في سنة عنا، آخذ صديقي الصادق وبابكر الوسيلة، عبد الله زيدان يقف عند الماسورة يشيل نسوان الكرنقو باقات المياه، وبين مسكيتتين كبيرتين ندخل إلى خميسة، تغمرنا رائحة البيت العطرة، رائحة البلح المعتق، تحتفي بنا، تدير موجة الراديو إلى أم درمان، ويا سعادتها إذا صادفت أغنية، كأنما هيأت ذلك هي بنفسها شخصيا. - ديل أنتو. - يا بنت ... يا بنت أديهم البنابر.
وتأتي سلوى بالبنابر، ومنذ أن فعل عبد الله زيدان فعلته تعاهدنا بأن سلوى زيها زي انتصار، زيها زي صباح، زيها زي عزيزة، جلسنا، لم نتذكر أحدا، لم نشتق إلى أحد، ولو أن خيال الذي يصحي التمرة نصف الليل لم يبرحنا، إلا أن بابكر دفق كأسا مليئة في وجهه قائلا له: لست في البيت.
أسيوط روحي، البيه مهران، حمدي عابدين: لسنا دائما على ما يرام.
في العراق عند الباب الشرقي صنع السودانيون المغربون تمثالا لأبادماك من التمباك، واحتج نفر من الساسة، أعجب بذلك نفر من الساسة، تخاصم عليه نفر من الساسة، انشقوا على أنفسهم عندما باعه أحدهم وقبض الثمن، حدث ذلك في العتبة، وفي ركن السودان بأسيوط، لكن من يوصل الصادق حسين إلى كمبو كديس، إنه ما زال عند دوران روكسي، يرقب المارة، السنوات الأخيرة، هكذا نغني، السنوات الأخيرة، كتب بوذا في سفر اللبن، عندما عدت من لاسا عدت إلى نفسي، كنت موزعا بين الصخور، اللالوبات، المسكيتات، الدراب، الخيار، أزهار الليمون، خجل الصبيات، ألعاب الأطفال وشليل، بنات بنات، كنت الدكتور في لعبة المستشفى، اللص في الحرامي والشرطة، والكديس في من نطاك، الرمة في الحراس، التمساح في لعبة النهر، كنت الطيش في الفصل، الغياب والمشاغب، كنت ود أمه وصديق أبيه وحبيب أمل، صديق عبد الرحمن، الولد اللي عضه الكلب، اللي قطع البحر، اللي جري من الثور، اللي رفسه الحمار، اللي شرب المريسة، اللي سأل الأستاذ سؤالا عوقب عليه الفصل كله، كنت موزعا في المكان؛ لذا لم أجدني في لاسا، لا في أعلى قمم التبت ، لا عند معبد القردة أو في شوارع روكسي، كان قلبي في صدر هاشيما بنت الكرنفو، ورأسي عند الشنخابي صاحب صاروخ الكيف، يداي في جيب صديريتي، ووجهي في راكوبة مريم يستنشق عطر البن المقلي، لا أتذكر أحدا، لا أشتاق إلى أحد، في الانتنيه جلس شيخان، كانا يتوكآن على عصا واحدة، شيخان طويلان لهما وجهان جميلان، لكن لم يتعرف عليهما أحد، كانا يعرفان المكان، تحدث أحدهما إلى الآخر: إن في المكان لحمة تخصنا.
لم يتعرف عليهما أجمل الجالسين عندما يدخن سيجارة برنجي؛ ماو، لم يتعرف عليهما، شخص ليس في المكان، من هو أبرع منه في اختراع الشجار الممتع وأروع الألفاظ السوقية ذات العفن البهيج العفن الشهي، وليد إسماعيل حسن، لم يتعرف عليهما المراسي محمد إسماعيل في عنقريبه، المقدود وقربة قرعة البقو تحفل في حضرتها الذبابات الكبيرات الخضراوات، التي يجيد رسمها صلاح إبراهيم. كان الشيخان شيخين يتوكآن على عصا واحدة، ولهما وجهان جميلان.
قال شيخ جميل لصبية تلعب بجملة قصصية: أنا إدجار ألان بو.
قال شيخ جميل لصبية تلعب بجملة شعرية: أنا أوفيد.
ولكنا قتلنا العمر خارج البيت، فلم نكن في الحسبان، الآن ليست سوى عصا واحدة نتوكأ عليها ونهش بها على الكلمات، وجهان جميلان، لدينا ظل لا يقي يوم لا ظل إلا ظل الله، بكت الصبيتان قبل أن تمضيا مع محمد خلف إلى مكان قريب، يصنع الأمدرمانيون دائما نصوصهم في مكان قريب، الصادق حسين يلتفت يمينا، يسارا، لا باص، لا حافلة، لا قاطرة، لا نفق، لا تاكسي، لا قدمان، لا حمار أو ناقة، تستطيع أن تلقيه في خور قريب من كمبو كديس، أو عند مشرع السقايين، حيث اعتاد في الماضي الالتقاء بالصبيات على الرمل بعيدا عن القيل والقال، لا عند الصفصافات، آسف أنت لا تعرف الصفصافات، لقد نمت بعد رحيلك تأكيدا على غيابك ونكاية بك، نبتت غابة الصفصاف العشوائية على شاطئ النهر، شرق معسكر اللاجئين عند الشلال، لا نجوى، لا زهور، لا نعمة، لا نزهة ، لا جهاد، حماد، لا الحلب المزعجين، لا شجارهم في المغرب، سوف لن تحضر زواج موسى السمح، لن تشاهد صراع النوبة غرب مكتب الأمن، أمام المستشفى، في 18 / 8 / 2003 يوم دق السمك السنوي، 012205926، 23 / 2 / 2003 حفلة ختان ولد نعمة أختك، أعرف أنك نسيت اسمه؛ لذا لن أخبرك باسمه، 16 / 3 / 2003 عرس سعاد، نعم للمرة الثالثة، سيتزوجها صلاح، وهو ضابط إداري جديد، أنت لا تعرفه، لكنه سمع عنك، سعاد أخبرته عن كثير من عشاقها، تشاجر معي، تعرفني جيدا أنا لا أفتعل حربا في النساء، لكنه دفعني إلى ذلك دفعا؛ فهو شخص جديد في النساء، سوف يتزوجها على أساس أنها عذراء، ما زلنا نذهب لكبري ستة لتناول الإفطار في مطعم حسين كل يوم جمعة على عربة إبراهيم الديدي، في صحبة عتوت أو خروف أو ما تيسر من خيرات الله، نذهب للرميلة، يغني الدرديري لأبي داود، الكاشف أغنيات الحقيبة التي تعجبك كثيرا، لا أحد يتذكرك، لا يشتاق إليك أحد، نغني، نسكر، نرقص، نهيص ونبيص، تحت أشجار السنط، على رمل الشاطئ، عمر، التاج، حمادة، مساعد الديدي، عادل موسى، جني، عصام، الأعراب، الأسماك، الحدأة، ياسر، وأنا.
نسيك الجميع، والأنكأ والأمر أننا تقاسمنا حبيباتك جميعهن، غازلناهن، قبلناهن، ثم بذرنا في أرحامهن أطفالا، أسمينا الأطفال بأسماء نعرف أنك تكرهها، مثل عايدة، غايدة، رايدة، مثل الكاسح والماحق والبلى المتلاحق، أسمينا كبيرهم باسم قاتل محمود محمد طه، منذ أن قتل محمود لم يسم أحد طفله بذلك الاسم البغيض، نكاية بك أسمينا أول الأطفال باسم القاتل، لا أحد يتذكرك، لست في البيت كما يؤكد عاطف خيري، لست في الحسبان، هنا أنا في البيت أنا وحدي في الحسبان، بوذا يرسم خارطة لمن يريد العودة للبيت: (1)
للذين في السعودية: تمشوا في الشوارع بحرية، غنوا للكاشف ومحمود عبد العزيز، هي أقرب الطرق إلى البيت. (2)
للمغربين في مصر: اضربوا بعصيكم البحر. (3)
للذين في بلاد الفرنجة: حطموا سور الملجأ الذي فيكم، ثم الذي يحيط بكم، والعنوا اليورو والدولار وكل العملات التي يستحيل الاحتفاظ بها في الجيب، قولوا لبعضكم البعض: لا يوجد منفى أحلى من الوطن. (4)
دكتور السماني في ماليزيا : لا أحد سوف يتصل بك، نسي الجميع رقم هاتفك الجوال وعنوانك وصورتك الشخصية، وحبيبتك سوف تتزوج من صديقك في 30 / 3 / 2003. (5)
عاطف خيري: من يوقظ التمرة.
جلس شيخان في مقعد واحد، كانا يتوكآن على عصا واحدة ولهما ثلاث أرجل، قال الشيخ للشيخ: ما اسم هذا المكان الفسيح؟
قال الشيخ: أظنها روما.
بوذا عاد، عندما عاد من أسيوط عرف الفرق ما بين روما وكمبو أحمد ذكي، ما بين روما وكمبو الليمون، وعرف الفرق ما بين السمؤال محمد الحسن ورجل تبول على واجهة المحال التجارية في التحرير، شوقا لشوق ونادية.
سلام مصر روحي، سلام منفاي الجميل، سلام بنت جوعي، سلام لطائر الكلج كلج على شجرة اللوسينا، لحدأتين على قمة قطيتي، لعبد الله زيدان وهو يحملق بعينين خبيثتين تافهتين في حشو شجرة طندب تسكنها بومة، سيدة الشاي، متلة بنات الجامعات الصغيرات يبحثن عن معرفة لا تفيد، كلام قاله الجامعة في الكتاب المقدس، يكرره عبد الله في جمال هذا المساء، لا يتذكر أحدا، ولا يشتاق إلى أحد، ودكتور علي شرفي يزداد طولا وبؤسا، ويزداد بيته صغرا وضيقا ولا يمتد ناصر، ولكنه هنا أكثر جمالا، الصادق حسين.
أم صلمبويتي.
ولا.
كدقاية زول.
لا تعد، ابق في دوران روكسي، هنالك النساء في الميني جيب والميني ميني جيب، الرجال على عجل، الدراجات للسباق والفيلم الهندي، تحياتي لمكتبة مدبولي، أسيوط في أسيوط وبوذا يحيي ذكرى سنوات كثيرة مرت، منذ أن ودع درويش الأسيوطي يوم السبت في نادي الأدب، أستفرغ الذاكرة.
أرمي بكم بعيدا عني، اخرجوا مني كي أراكم أكثر حلكة، كي أدفق عليكم ماء النسيان، لكي أحبكم أكثر ألعنكم، عوض شكسبير في صلعته الجميلة، عبيد، أنس الشرير، اخرجوا، اخرجوا، تدور عربة التاكسي دورتين سريعتين ليضغط السائق على زرار المنبه، يفتح الحارس الباب، تدخل السيارة حرم الجامعة، في كلية البيطرة تنزل بنت جميلة اسمها ياسمين، تعود سيارة التاكسي فارغة لتختفي في شوارع الوليدية الضيقة، تزحف بين عربات الكارو والباعة المتجولين، من على البلكونة يطل وجه عبد الرحمن جربو، ثم يختفي مرة أخرى، باتريشيا الآن وحيدة، كتنق، تمتطي طول قامتها، ترسل أظافرها في الهواء الندي، هواء الصباحات القادمة، سوف يحاول الأطفال تأجيل عيد الفصح من أجل باتريشيا؛ فالحائك لم يجد منديلا بطول باتريشيا، ولا نخلة يطيل صبرها بها، ولم يجد مرسى لسفن الباشوات والقرصان حتى يستريح عندها العبيد، والرحلة طويلة سواء أكانت إلى مصر أو جورجيا.
الرحلة طويلة.
والأغلال تحز معصمي وتأكل ساقي، وكلما أدمي لي جرح بصقت عليه، وكلما رآني السيد أفعل مشقني بالسوط على ظهري، وسب أمي وأبي والمستنقع الذي خلقني منه الله. - أنتم وصمة العار الوحيدة في جبين الإنسانية.
قالت لي كتنق بلغتنا: إنه كلب حقير.
كدت أبتسم لولا الحزن الذي يغمر قلبي. لا، لا، لن أبتسم للسيد، ولكن من أجل كتنق وحدها، الصادق حسين تؤلمه الجغرافيا، وبذاكرته مجزرة تعمي دماؤها المسفوكة قلبه، لا أحد، لا درب، لا شجرة، لا سنبرية، لا بنت لا ولد يقوده اليوم إلى كمبو كديس.
كل البدائل ظلام، والنجم.
أين النجم؟
هنا في الحي الجنوبي، تحت ظل النجم جلسنا، الطيب، إبراهيم، التاج، سليمان والسلطان، حولنا أشجار المسكيت التي سوف نستخدمها سواتر طبيعية إذا هاجم العسكر الكمبو، سلوى تغني بلغة الباريا، أنا بصوتي الأشتر أغني خلف سليمان:
ساقني بعجلة وداني كمبو،
وين يا ناس؟
ساكن جنبو.
عندما يؤذن للصلاة، يوم العيد، نرتدي ما تيسر ونصلي مع المصلين في ميدان المدارس.
من يجرؤ على سرقة عتوت سيدة، غير كبسون نفسه، من يجرؤ على شيه كاملا غير منقوص، تحت السنطات الشاهدات على المسرقة، غير إبليس ذاته.
بغم الأسماء
عبد الله الحارث، صلاح، حلفا الجديدة، علي الكوتش، محمد، الأستاذ محمد، عبد المعطي حجازي، أبو حديدة، سيرة العرق والطين، عرق الحصي، حبيبته الجميلة، طلال، ظلال، دلدوم، حسن كوكو، عبد العزيز كافي، الشريف موسى، مملكة سنار، الطواوشة، التنابلة، الماسليت، الصابونابي، حكومة، جيرمني، سيدة وعائشة وموريس، حي صدام، حلة عم محمد زين صاحب النيفة، حسن مرسال، حسن الكونج، حسن حسن حسن، علي جعفر، ابتهاج ، فرحة، زهور عبد الله، عبد الله، صورة ، عصافير، ود أبرق، عشوشاي، سمر عبد الله، لتجاني عثمان حسين الحاج، شيخ السمانية الصالح العاقل الكريم، طائران، شجرة واحدة، قال إبليس:
إن دخلت الدائرة الأولى ابتليت بالثانية.
وإن حصلت في الثانية ابتليت بالثالثة.
وإن منعت من الثلاثة ابتليت بالرابعة.
قال إبليس: لو علمت أن السجود لآدم ينجيني لسجدت، ولكن قد علمت أن وراء تلك الدائرة دوائر، فقلت في حالي: هب أني نجوت من هذه الدائرة، كيف أنجو من الثانية والثالثة والرابعة.
1
فدخل الصادق الدائرة الأولى، وهي السفر، هب أنه نجا من هذه الدائرة، فمن ينجيك من الغربة؟
من ينجيك من الأمريكيين والكنديين والاشتراكيين وشامل كامل أوروبا؟ من ينجيك من روكسي وعاطف خيري؟ من ينجيك من انهيار الاتحاد السوفييتي ومجازر القاعدة؟ إنهم في كل مكان، الذين صنعوا القاعدة هم ذاتهم الذين صنعوا انهيار الاتحاد السوفييتي، وهم الذين جندوا شيكيري توتو كوة في الحزب الشيوعي، جنبا لجنب مع روزا لكسمبورغ 1918 بألمانيا، وهم الذين أوحوا لإبليس ألا يسجد لآدم ولا لمخلوق بعده، ربابة، إيقاعات كنيسة مجاورة تتسلل إلى حوش بيتنا، أفراح الحي الجنوبي بعيد السمك لا تحدها كراهية الطارقيلة للقرقور أو البلطي، الدنيا بخير ولكنها بشر أجمل، والشر جميل وبهيج ورائع، الخير بارد ماسخ ولا طعم له، إن الدم الذي يلون الشر هو الذي أعطاه حرارة الوردة وأزلية التراب، انظر جمال وليد إسماعيل حسن، انظر لروعة بابايات استيلا قيتانو، أميمة حسب الرسول، صلاح إبراهيم، بابا بلوم واشتياق، من الذي أكد جمال هؤلاء؟ من الذي شق نهر عطبرة على صخرتين كبيرتين وأنشأ على شطه كمبو كديس، الأنادي والرميلة؟ يد خبيثة، يد خيرة، الجامع الكبير، زاوية محمد عثمان، العرديبات، بنات البني عامر، والباريا والعنسبة، البجوك، فلاتيات الشوارع الغربية، مسكيت مدرسة البنات، يد شريرة هي اليد الخيرة ذاتها، دم الحلاج أضاءه أكثر، قتلة محمود محمد طه، طبخة دمه، الذين صنعوا البهار، الذين ولغوا الدم، الذين رقصوا على القبر، الذين عندما سمعوا نشيده تبولوا في أرديتهم، هم الآن الحجر الذي يدل على الرمس، كلما عرقوا تفصدت مسامهم دما نعرفه، دما يدل عليهم، دما ناره هنا لا تنطفئ، على إيقاع الصيد ومراكب الكرنقو، على طس الأسماء، على بغم الكلام، على ناصية روكسي تسأل روحه روحه، الصادق.
كلما ولج دائرة طائعا أولج مليون دائرة قسرا، طالما كفر بإبليس، دعه، فالله يؤجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات.
بغم الخطيئة
أعطيناك كل ما تقوى على أخذه، أعطيناك شوارع الطين والأطفال المشردين وبقايا أحشاء الذبائح بسوق النوبة، أعطيناك بنياتنا السوداوات الجميلات، وهبنا لك عطر إبطهن الممهور بالمكافحة والمنافحة والسعي اليومي وراء الخبز، أعطيناك أزقتنا وقطاطينا وأزيار المياه والطحلب الذي في باطنها وخارجها، أقسمنا على رأس حرابنا والتراب، على أن نعطيك الخوف، بذا تكون قد سلبتنا الحياة، أبقيتنا عراة يضحك علينا الرهو والسمبر وطيور الكلج كلج الساخرة، وسوف لا يرى عري بعضنا البعض، فالعري يا حبيبنا حجاب، وحجاب العاري بصيرته، بغم الخطيئة، بغم كلامي إليك، بغم الغياب الطويل، أعطيناك كل ما تقوى على أخذه، صلاتنا، صيامنا، قيام الليل، عهر العاهرات، مياه الواردين، بلح الفقراء، لالوب الناسكين، لعب أطفالنا، بول البائلين، السلام الودع، السفر، موت الأصدقاء، قبر الذي لا قبر له إلا في أحشاء قاتليه، كل ما تقدر على حمله، حملناكه، سوسن الجميلة، حفرة يقف عندها عبده ويعتذر عن مواصلة السير، طلقتان منتصف الليل، جندي يسأل عن الطريق إلى الحامية، الحامية، وهبناك السكة والتكة والفكة والكحة والحكة وقول القائلين وقلناك في الشعر ومقام الشعر وخالد بخيت وكل ورقة شجرة وكتب الجغرافيا وتاريخ الوردة.
أعطيناك أشعار بابكر الوسيلة وبنته والجبال التي في بيته وقلبه كله، كله، كله، ثم لم نقصر، أعطنا فقط، أعطنا الرجوع.
بغم ويلتاه
أزهرت برتقالتا حبيبتي ورك عليهما الطير الطنان الصغير يمتص رحيق الوردة الصغيرة، يسكن في التويج، يطرق رجل الباب المرحوق، تنق ضفدعة، تبوم بومة عجوز، على شجرة تمر هندي جوار البرتقالتين، تستيقظ البنت، تفتح وردتيها في كسل، وردتا غاردينا بيضاوان، يسمع نوسهما الطنان، يطرق على تويج الزهرة، تعرف الوردة الطنان وتراه عندما يراها وعندما يغفل عنها أيضا، وعندما يقبل وردة مجاورة، تنهض الصبية، تقف على غصنيها، ثعبان يلتف بأحد الغصنين، يصعد نحو الوردة، يدب حزينا حذرا سوف لا يزعج الطنان، يريد أن يقتنصه وهو في مزاج رايق، تتمطى الصبية، تمد أفرعها في جهات الله الكثيرة، يرك سرب من عصافير الجنة جنة، ينشد السرب أناشيد الصباح البهيج، يبتسم الثعبان وهو يرتقي الغصن، عصفور الجنة جنة ألحم من الطنان، سوف أصطاد عصفور جنة جنة، تتثاءب الصبية، يصعد بخار الماء إلى السماء، تمتص وريقاتها الضوء والأكسجين، الجذور البعيدة المتوغلة بين الطين والرمل والحصى، تشرب شاي الصباح، أمها سيدة جميلة يعرفها الناس، ويعرفها كلبها وقطتها العجوز هنا في الهامش لا أحد يرى جمالك، يرون عوزك وفقرك ويديك الممدودتين، ترك عليهما حدأتان حرتان تطيران عندما تحاول قفل أصابعك على مخالبهن، تشرق هذه الشمس علينا جميعا ويخصنا الله معا بالصحيان، الذين في البيت والذين خارجه، عندما تلبس البنت طرحتها، كل شيء يكون قد تم، أتمه الله بقدرته، نحن يا حبيبتي الصغيرة لا نستطيع أن نعيق الحياة مهما تجملنا بالشر والقبح وعفونة الريح وتغربنا.
بغم الشجرة
يقف الآن الأحباء والأصدقاء والأعداء على حافة المقام، ويسع المقام الشعر وبسم الله الرحمن الرحيم، يكفيك من القول القائل من المطر العشب، ومن الرمل البيت، يكفيك من الثمر الشجرة، تمد يدك، إن مددتها مهبطا للنسور، ويدك هشة وقلبك كسير، دربك معوج وبصرك اليوم حديد، ماذا تفيد الرؤية والقلب محجوب؟
ويلك.
إذا عرفت كل لغات البشر وعجزت عن مخاطبة شجرة.
خشم القربة
24 / 1 / 2003
Página desconocida