En la puerta de Zuwayla
على باب زويلة
Géneros
ولكن من أين لها ... من أين لها أن تظفر بمثل هاتين الأمنيتين الغاليتين في وقت معا؟! إن الأقدار لبخيلة، إنها لتمنح النعمة أحيانا، ولكن في سبيل نعمة أخرى تسلبها، فكيف تطمع نوركلدي أن تنال أمنيتين عزيزتين في وقت معا؟ إن الطبيعة نفسها تأبى أن تجمع على الإنسان سعادتين، فأماني الشباب لا تتحقق في العادة إلا حين يؤذن الهرم، فتجيء أسباب السعادة التي يتمناها الشباب، ولكن حين لا شباب، فمع الشباب دائما الحرمان والشوق واللهفة، ومع سعادة الوجدان والظفر عجز الشيخوخة والهرم. هذه هي السنة، هي الطبيعة، وهذه سبيل الأقدار فيما تمنح وتمنع، وفيما تعطي وتسلب. إن الشارب المنتشي لا يجد لذته الكاملة إلا حين الكأس بين يديه فارغة من الشراب، فمع امتلاء الكأس الشوق واللهفة، ومع امتلاء النفس بالنشوة تفرغ الكأس ، فليست بعد ذلك إلا زجاجة للتحطيم!
إنها لتتخيله الساعة كأنها تراه رأي العين: شاب في زي أمراء المماليك على رأسه عمامته.
أتريد الطبيعة أن تعلمنا - في أسلوب من أساليبها الصارمة - أن السعادة حق السعادة هي الحرمان، والشوق، واللهفة؛ لأن مع كل ذلك الأمل، وأن الظفر والوجدان وحصول المطلوب المتمنى هو أول التعس والشقاء؛ لأنه آخر الأمل!
ما أقساها حقيقة لو علم الناس!
كذلك كانت نوركلدي تحدث نفسها حين خطر في خيالها أركماس، وقد هيأت أسبابها للرحلة الأخيرة ... إلى القاهرة، حيث تأمل أن تجد ولدها طومان باي.
إنها منذ ثلاثين عاما على الطريق، لا تفكر في غير طومان، ولا يتراءى لعينيها في اليقظة والمنام غير صورته، أما اليوم وقد أوشكت أمانيها في لقائه أن تتحقق فقد خطرت على قلبها صورة أخرى، فتذكرت أركماس، أركماس زوجها الحبيب الذي فارقها وخلف في أحشائها بضعة منه منذ أربعين عاما أو يزيد، لم تسمع عنه فيها خبرا أو تقف له على أثر ... يا ليتها وليته ... ولكن لا، إن مثل ذلك التمني ضرب من المحال، لقد عرفت في هذه السنين الثلاثين ما لم تكن تعرف من علم الحياة، حسبها من الأمل أن تلقى ولدها طومان باي!
وعلى الطريق بين مرج دابق وحلب كان شخص آخر يفكر من أمره في مثل ما تفكر فيه نوركلدي ...
ذلك هو أرقم - أركماس - لقد خلف وراءه في بلاد الغور منذ أربعين عاما أو يزيد، امرأة في أحشائها جنين يرتكض، امرأة كان يحبها ويتمنى لها ولنفسه الأماني، ولكن دم أبيه المطلول كان يصرخ دائما في أذنيه، يطلب منه أن يدرك ثأره من قاتله، فلما أمكنته الفرصة أو خيل إليه أنها ممكنة، خلف وراءه زوجته وجنينها وراح يقتص الأثر ليدرك الثأر، آملا أن يعود إليها بعد أن يغسل الدم بالدم، وقد مضت تلك السنون الأربعون وهو لا يفكر إلا في تلك الغاية التي غادر من أجلها بلاده، لقد شغله ما مر به من الأحداث عن ماضيه، وعن زوجته، وعن ذلك الجنين، وقد أشرف على الموت ذات مرة في سبيل ذلك الثأر، ولكنه نجا، أو لعله قد مات حقا ثم بعث؛ فقد ألقاه الفرس عن ظهره في اللحظة التي هم فيها أن يقد عدوه بالسيف قدا، وسقط تحت أخفاف البعير الهائج فهشم أضلاعه، وحطم فكه، ورضرض فخذيه، فلولا أن القدر كان يدخره ليدرك ثأر أبيه لصار يومئذ عجينة من لحم ودم، بل لقد صار يومئذ عجينة من لحم ودم، ثم نفخ فيه الروح ثانية وعاد إلى الحياة، وسأله منقذه عن اسمه، فنطق به ولم يكد، مما به من الضعف والإعياء، فلم يسمع محدثه من مقاطع اسمه إلا «أركم» وصار ذلك اسمه من بعد، لا يعرفه الناس إلا باسم أرقم المسيخ، ثم أرقم الرمال، وما كان ينبغي له أن يعود إلى اسمه الأول، فليس هو اسمه بعد، لقد مات أركماس تحت أخفاف البعير الهائج، فهو منذ ذلك اليوم شخص آخر. هذه السحنة المنكرة، وهذا الوجه البشع، وذلك الفك المائل، وهاتان الساقان، وهذا البطن ... ذلك كله ليس من أركماس الرشيق الخفيف الحركة المعتدل القد المشرق الخد، الدائم الابتسام وإن لم يبتسم، من ذا يراه الساعة فيظنه ذلك الفتى الذي كان؟ لا أحد، حتى لو أن أباه وأمه قد بعثا من موت لأنكرا صورته ولم يصدقا أنه أركماس، إنه ليخشى أن يظن أبوه في ذلك العالم الثاني أن ولده أركماس لم يدرك ثأره، وإنما أدركه شخص آخر؛ لأن أرقم الذي قتل قنصوه الغوري لا يمكن أن يخطر في وهم أحد أنه أركماس! ولكن الناس في العالم الثاني يعرفون من حقائق الأشياء ما لا يعرف الناس في هذا العالم ... فليس ينبغي أن يشك في أن أباه قد عرف الحقيقة ونعم باله؛ لأن ولده قد أخذ له بثأره.
إنه الساعة على الطريق إلى حلب؛ ليستجم أياما قبل أن يبدأ رحلته إلى ... إلى الغور من بلاد القبج، حيث يأمل أن يجد زوجته تنتظر، وأن يجد له ولدا أو بنتا، وأن تضمه وأسرته دار، بعد طول السفار!
ولكن لا، لا، لقد مات أركماس منذ بعيد، أما هو فإنه أرقم، أرقم المسيخ، أو أرقم الرمال، فلن يصدق أحد في بلاد الغور حين يراه أنه أركماس، فأين صورته اليوم من تلك الصورة التي يعرفها الناس؟! سينكره ولا ريب كل من يراه، حتى زوجته نوركلدي، وحتى ولدها الذي لم يره قط، سينكر كل منهما أن يكون ذلك المسيخ المشوه الخلق هو أركماس، وقد تعرفه نوركلدي ولا تنكره، فهل يرضيه أن يفرض عليها العيش معه، تطالع منه كل يوم هذه الخلقة البشعة، وهذا الوجه المنكر، وهي زينة بنات الغور، وأجمل نساء الحلة؟
Página desconocida