أما شاعرتنا فقد نعمت بأب يجمع بين الإدراك والمقدرة. فسيرها في هذا الاتجاه الذي تطلب نازعة عن الإبرة التي تكره، والمنسج الذي تلقى، حتى إنها لا تذكر تلك الأشغال النسائية إلا بالاستنكاف والاشمئزاز.
هنا ملاحظة صغيرة؛ لأن هذا القول عن عائشة سيزيد في تعميم الخطأ الشائع؛ وهو أن الفتاة إذا هي أحبت الدرس والعلم، وإذا هي برعت في معرفة أو فن، رغبت عن أشغال المرأة وترجلت. وأنا أقول - وإني لأعلم ماذا أقول - إن هذا إلا مذهب طائش غبين. إني أعرف فتيات ونساء ينهضن من المسرات الأدبية والفنية، بل ومن أعمق وأعوص النظريات الفلسفية، إلى أشغال الإبرة والتفصيل، بل إلى ما دونها من رفو ورتق، وتدبير المنزل ومزاولة الطبخ. فيجدن في كل ذلك راحة وسلوى. ويدخلن في تلك الأعمال الوضيعة شيئا من التفنن محولات ما فيها من خشونة إلى ضرب من الكياسة.
كذلك رأي طائش وغبين ذاك القائل إن الاطلاع والعلم «يرجلها ...» إنها لتتضاعف بالعلم أنثويتها. ومن السخافة أن ينعى على المرأة المتعلمة التأنق والزينة واللطف. حتى أن صورة المرأة «المتعلمة» لتكاد تستحضر لمخيلة الناس عجوزا دميمة متصلبة شرسة. ولماذا؟ أترى الرغبة في تنوير الأذهان والتوق إلى حياة داخلية سامية، يعني الزهد في الدنيا، والانقطاع عن العالم، والانفراد للدرس والتحبير شأن الرهبان في الأديار؟!
ثم أليس من الغريب أن الرجل إذا هو برز في الشعر أو الفن أو الفلسفة، تأنث بعض الشيء،
9
بمعنى أنه يدق فكره وتصقل عواطفه؟ فكيف تتحور العوامل التي يتأنث بها الرجل فتكون عند المرأة مدعاة للترجل؟
لا أنكر وجود المترجلات بين المتعلمات؛ والسبب أنهن بطبيعتهن كذلك. وقد تجد المترجلات بين الجاهلات الغبيات، كما تجد بينهن من لا يعنيها أمر بيتها ولا إلمام لها بتطريز أو بتفصيل أو بتنظيم. شغلها الشاغل الزينة والثرثرة والانتقال من زيارة إلى زيارة. وقد تكون كذلك دون ترجل، وبالعكس. فإن لم تهتم عائشة بأشغال الإبرة فإنها على غير استعداد طبيعي لها. ولو لم تحب الكتب والكتابة لما زاولت تلك الأشغال، ولو زاولتها ما أتقنتها. وذلك لم يقلل من عذوبة أنثويتها الخالصة.
وعلى كل فلنغبطها على الوصول إلى غايتها، ولنصغ إليها تخبرنا باختصار كيف أنها منذ السابعة من عمرها إلى الثالثة عشرة صار دأبها التزام الانزواء، «منكبة على دروسي أجتهد فيها فوق ما كان ينتظر أبي مني. غير أن أبي لم يكن يأذن لي بالخروج إلى مجالس الرجال، وتولى بنفسه تعليمي كتب البلاغة الفارسية مثل شاهنامة الفردوسي والمثنوي الشريف، واختصني من ساعتين من وقته في كل ليلة أقرأ فيهما عليه ...»
10
هذا الأب الذي يعرف أن يكون أستاذا وصديقا معا جدير بكل شكر وثناء. •••
Página desconocida