فيا رجال أوطاننا! لم تركتموهن سدى؟ وهن بين أناملكم أطوع من قلم؛ فعلام ترفعون أكف الحيرة عند الحاجة كالضال المعني، وقد سخرتم بأمرهن وازدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال واستحسنتم انفرادكم في كل معنى؟ فانظروا عائد اللوم على من يعود؟
منذ خمس وثلاثين سنة طلبت عائشة اشتراك المرأة مع الرجل في الأعمال، ولم هذا الاشتراك؟ لأنه طبيعي «من حكم باري النسمات وموجد المخلوقات» ولأنه الأساس الأصلي «لصيرورة مدار عمران هذا العالم على الزوجين. ولو أمكن الانفراد لخص عالم الأسرار إحداهما دون الآخر، وهو الأفضل، ولم يفقره إلى ما هو دونه. فكان التأمل في هيولي هذا الكون موجبا على الهيئة الرجولية العناية بتعليم المرأة وتهذيبها لينالوا بذلك أرفع مجدا وأهنأ جد، ولتعتاض الفتيات عن قلق الجهل براحة العرفان»؛ أي ليقمن بواجبات التدبير في منازلهن وفي شئونهن، ويأتين بالمطلوب من عطف ووقاية وحكمة نحو نفوسهنتركتموهن سدى وذويهن، دون شعوذة ولا شرود عن الصواب.
إنها تقول بلغتها بالمساواة بين الرجل والمرأة، تقول بذلك تصريحا لا تلميحا: «إذ لو أمكن الانفراد للرجل لخصه الله بالوجود دون المرأة، فهما ضروريان كل منهما للآخر، موجودان معا تحت شمس واحدة وأحكام واحدة ليأتي كل بقسطه من واجبات متعادلة.»
لقد قالت بهذا في الشرق، ورأت أن يتساوى الرجل والمرأة وأن يشتركا في الأعمال، وهي محجوبة رهن جدران الخدر ... ومتى؟ في حين كان هذا يعد بدعة في أوروبا؛ إذ لا يفوتنا أن لفظة «ذكر» لم يتفق على حذفها من قوانين إنجلترا والاستعاضة عنها بلفظة «رجل» أو «أحد» إلا منذ سنة 1850م. وكان ذلك مقدمة لتحرير المرأة عندهم من حيث إدخالها في الإنسانية. •••
تنطوي التربية على فروض كثيرة وتحتمل شتى الإيضاحات والتأويلات. وعليها تحت قلم عائشة مزيد من الإبهام والمرونة. إلا أنها بقولها «تأديب البنات وتهذيب العائلات» يغلب عليها وجوب تنشئة الفتاة لتكون أهلا للسهر على مصلحة الأسرة والقيام بالمطلوب في سبيل تقدمها وراحتها وهنائها؛ لأن في حجرها تشب الأجيال، ومن كان مهيأ لإعداد الصلاح والعظماء والنبلاء وجب أن يكون على عظمة ونبل وصلاح.
والمساواة؟ هي معنى عارض في كلام عائشة، برغم أهميته بالنسبة للوقت الذي ورد فيه. أما اليوم فقد شاعت هذه الكلمة وذاع معناها لدى من يفهمه ولدى من يزعم أنه يفهمه. ولكن أكثرية الرجال، حتى المتعلم الراقي منهم، تكهربهم هذه الكلمة وتثير سخطهم وتهكمهم، وهم لا يقرون منها ما يقرون إلا بشروط من الحصر والتقييد.
وأرى أن في إنكار المساواة على المرأة تكريما لها، أية كانت الصيغة واللهجة المعبرة بها من ذلك الإنكار، لعل الرجل الذي يجهده كفاح الحياة لا يريد ذلك الكفاح للمرأة، طامعا في ادخارها للراحة والهناء والرخاء والمواساة. بل هو دليل على محبته المتلونة الألوان، وعلى احترامه ولو مسخه أحيانا بشكل الاستخفاف. أذلك الإنكار محض أنانية كما يزعمون؟ وماذا ترى لو كان ذلك؟ ومتى كانت الحياة خالية من الأنانية؟ وما أحب أنانية أحبابنا إلينا! أما الأنانية الممقوتة من القريب والغريب على السواء فهي الأنانية التي تتورم على حسابنا، ولا تجعل لحقوقنا في إحصائها قدرا وشأنا. ومن هنا منشأ كل ثورة، وكل فتنة، وكل ظلم.
إن المرأة التي تنال عوضا عن تأدية واجباتها عطفا وحبا، لا تثور ولا تشكو حتى ولو عسرتها المسئولية، وإنما هي المرأة المظلومة من ناحية العواطف ومن ناحية المعاملة، التي تضج وتلج. يطلبون منها ألف ألف واجب، ويقيدونها بألف ألف قيد، ويرهقونها بألف ألف وقر، ومقابل ذلك، ماذا؟ مقابل ذلك لا رعاية، ولا عطف، ولا محبة، حتى ولا مجاملة. مقابل ذلك أحيانا، لوم وتفنيد، إذن لماذا تحتمل؟ وفي سبيل أية غاية هي تحيا؟ لقد سن لها المجتمع، دون الرجل قانونا للعواطف والأفكار والأعمال، وركز لها ضمن حدود الأسرة هناء القلب ومسرات الحنان. ولم تقدر تلك القوانين أن ما فرضته لها من رضى قد لا يتحقق، في حين تظل المرأة مرغمة على الواجبات الباهظة وتظل تعذبها لجاجة العيش ووخز الحاجة. وليست كل أسرة لتقوم بتلك الحاجة المحسوسة نحو أفرادها، ولا كل رجل، زوجا كان أو أبا، أو أخا، ليعلم ويدرك أن الرجولة لا تقوم بترأس العائلة وبالأمر والنهي، بل بتأدية واجبات ييسرها لها المجتمع قدر الإمكان ويجعلها على المرأة أعسر ما تكون.
قيود واستدراكات وحدود من كل جهة في حياة المرأة. وعلى هذه المخلوقة الضعيفة أن تذعن لها جميعا وأن ترى فيها الفضل والبر والكمال، وأن تأتي بما لا يخجل أن يهمله الرجل شرط أن تظل ضمن حدود الفضل والبر والكمال. وللرجل كل الحرية في الحلال والحرام، في الممنوع وفي الجائز. أيمكن أن يسكت على هذا الجور قلب يحس وينبض؟ إنه ليتآكله الجوى ويكظم عذابه إلى حين، ولكن لا بد أن يتفجر عن الأسى يوما، لا سيما إذا رأى أن لا منفعة له من جهاده وأن خيوط حياته تبلى عبثا ليجني ثمرة تعبه من ليس لذلك أهلا.
واها، أيها الرجال الفضلاء، أنتم الذين تسعدون النساء العائشات تحت رعايتكم، لو علمتم كل ما تكنه الدعوة إلى المساواة من نصال مغمدة في القلوب!
Página desconocida