La Justicia Divina y Su Efecto en las Criaturas
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
Géneros
وما نبغي الإسهاب في موضوع نحن نميل كثيرا إلى الاعتقاد بأنه سيكون مدرسة القرن العشرين، وإنما نحن نريد أن نلمع إلماعا بما وفقنا إليه في هذا الباب، وعسى أن يهيئ لنا القدر موقفا آخر نستطرد البحث فيه نظهر القراء على أسباب الخلاف القائم بين أنصار المادية وأشياع الروحانية، هنالك تطمئن نفوسنا، وتستريح ضمائرنا، وهنالك نكون قد أدينا ما نحسه من واجب، وما نشعر به من حق.
نقول: لقد نضجت المادية في القرن التاسع عشر، وقويت مدرستها، واتسع نطاق نفوذها، فهيمنت على المشاعر والمعتقدات، وملكت على الناس مفاوز حساسيتهم، وتولت طرائق تفكيرهم، فحالت بينهم وبين كل ما دونها بما كان من هيمنة وسلطان على الماهية الإدراكية من جهة والقوة الوحدانية من جهة أخرى، على حين أنا نرى أن هؤلاء قد عاشوا في جلودهم أكثر من عيشتهم بوجدانهم وتفكيراتهم، وعلى أن «ما بعد الطبيعة» لم يعدم من بين المفكرين وأهل العلم من كان يؤمن به، ويأبه له في كل مكان وفي كل زمان، وإن اختلف ذلك باختلاف العصور والأدوار التي مر بها التاريخ.
ولقد يخيل إلينا أن ظل المدرسة المادية قد أخذ يتزاول، وبدأ يروغ، وأن مدرسة المذهب الروحاني تقوى كل يوم وتشتد بمن يدخلونها أفواجا أفواجا من وقت وبعد حين من أقطاب المدرسة المادية، وفحول العلم، وعمد التفكير من المعاصرين المشهورين، أولئك الذين لا ينطقون عن الهوى، ولقد يخيل إلينا أن السبب في انتشار المذهب الروحاني في بعض بلاد العالم دون البعض الآخر، وعلة رواجه في الشرق، هو أنه لا يتعارض مع الأديان، ولأنه يصادف هوى في نفوس المتدينين بما يدخله عليهم من الانتعاش والعزاء، وبما يقوي فيهم من الإيمان بالعالم الدائم، وما أتعس هذه الحياة التي هي أشبه الأشياء بمقدمة طويلة عريضة لا نتيجة لها! إذا كانت حياتنا تنتهي عند تمثيلنا هذا الدور المحزن المحوط بكل أنواع الشقاء، ونختم بالموت الذي ما بعده حياة، فتسدل الستارة على مقدمة من غير نتيجة!
ولقد سمعت بعضهم يقول: دعني أعيش مع الوهم، وأمتع بما يصوره لي خيالي من النعيم المقيم جنة الفردوس أدخلها وأعيش فيها أبد الآبدين، دعني في خيالي أكفكف به ألم هذه الحياة، وأرفه عن نفسي وطأة هذه الحياة الدنيا، وأسري عنها ما يصيبها من الشقاء والبأساء، فإذا كنت خرفا - ولم يكن لهذا كله من وجود في مخي - فإني إذن لم أخسر شيئا، ولكني مع هذا أكون قد هونت على نفسي مصائب نصادفها، وخففت عنها مصاعب تعترضها في سبيل تدرجها. على أننا لا نجري مع هؤلاء حتى في شوطهم هذا، وإنما نحن نريد أن نندمج في حسنا، ونعمل على الوصول إلى الحقيقة النسبية من طريق الرقي الوجداني بتهذيب النفس وترقية الوجدان، وتقوية الماهية الإدراكية.
نقول: وإذا كان العقل المجرد لا يمكن أن يسلم به أصحاب المذهب المادي، دعواهم في ذلك أنه لا عقل من غير مادة، وأن المادة الحسية الظاهرة هي التي تعرف بها أعمال العقل والروح والنفس وأشباه ذلك؛ فإنا نؤمن أن احتياج العقل إلى النفس أو المادة ضروري لنا؛ لأننا نعيش مندمجين فيها، منكرين كل ما عداها، والاندماج هذا يوجه كل قوانا إلى المادة فلا نرى إلا بها، ولا نفهم إلا من طريقها. وما نريد أن نستدل بأهل الكشف وأصحاب مذهب التصوف والواصلين من المتوجهين، أولئك الذين يرون بعيونهم سكان بعض العوالم الأخرى، ويشاهدون حقائق لا تقوى أبصارنا المادية الصرفة على مواجهتها، ولا تستطيع بصائرنا الحسية على الإحاطة بها لما يقف قبالها من مساتير الطبيعة ومغاليق هذا الوجود، ولكن ما نذهب إليه وما نريده من المفكرين أن يتمشوا معنا في طريق العقل، ويعللوا الظواهر البينة التي تظهر في العالم، والتي ينحصر عمل العقل في تعليلها وإدراك كنهها، واستكشاف بواعثها ومسبباتها.
يريدون أن تصبح مسألة الأرواح مسألة آلية صرفة، ويريدون تعليلها بعقول منفعلة مستفادة، وهم يعلمون حق العلم أن الأثير، وهو الوساطة الوحيدة التي توصل بين أطراف العوالم جميعها والذي يرجع إليه وجود التماسك والانسجام والمغناطيسية والنور والكهربائية والجاذبية أيضا على رأي أينشتين، يعلمون أن الأثير هذا يقف العلم أمامه مكتوف اليدين، وهو الذي لا بد من دراسته دراسة تامة لمن يريد أن يدرس العوالم الروحانية الأخرى، ولأنه لا بد لنا أن نعبر هذا البوغاز لنصل إلى المحجوب الذي كثرت في وجوده الشكوك والريب.
يلوح لنا أن العلم لا يزال يحبو في مهده، والعقل الذي بهره ما وصل إلى استكشافه من تسخير الهواء والماء والكهربائية والانتفاع بقوى الطبيعية، يلوح لنا أنه لا يزال يتخبط في دياجير الدجى الحالكة، ومعميات الوجود، فكلما وفق إلى ظاهرة أنسها حقيقة وقف منتعشا متباهيا شامخا، ولكنه لا يلبث هنيهة أن يرتطم في صخرة تضيع عليه جهوده، وتنبهه إلى غروره وتوقفه عند حده.
يقول الفيلسوف الإنكليزي المعروف هربرت سبنسر: إن العقل الإنساني لم يصل إلى كشف أسرار الطبيعة، وإننا ما وصلنا إلا إلى إدراك وتعليل الكليات، وأما الجزئيات فلا يزال سرها غامضا. قول حق، واعتراف صريح، ولكن العقول العاتية الجبارة ترغب في المزيد، ولا تقنع إلا بالموجود المحسوس، ثم هي من بعد ذلك لا يرضيها كل تعليل، ولا تقبل ما يجيئها عن طريق السماع أو التواتر.
الشك أول خطوة يخطوها المخلوق صوب اليقين، ولا يكون اليقين يقينا حقا قائما على دعامات قويمة متينة إلا بعد الشك، والتفكير والتأمل الطويل، والبحث والاستقراء، كلها شئون أباحتها الأديان بل أوصت بها، هذا هو الكتاب المقدس يقول: «فتشوا الكتب؛ لأنكم تعتقدون أن لكم فيها حياة أبدية.» وهذا هو القرآن الكريم يقول: )
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( ؛ لذلك نحن لا نستهجن من غير المؤمنين بالعالم الروحاني طرائق أبحاثهم وامتحاناتهم بتحقيقاتهم، ولا نريدهم أن يميلوا معنا من غير بحث ولا إقناع، وإنما نحن ننكر عليهم حججهم التي يتمسكون بها حيال هدم هذا المذهب، وكلها قائمة على أنهم امتحنوا إنسانا يدعي الانتماء إلى الروحانية، فما آنسوا إلا مهاترة وتلاعبا وشعوذة، وليس هذا يقوم دليلا صحيحا عند العقل، والفرق كبير بين المذهب والمتمذهب به، وليس من الصواب في قليل ولا كثير أن أرمي مذهبا بالعطل وأتهمه بالبطلان لمجرد وجود بعض الناس ممن يدعون زورا انتماءهم له، ولمجرد أن يخفقوا أمامي في عمل يقومون به.
Página desconocida