فقال سعيد: «أتظنين أني أقتلك الآن؟ لا، لا تعلقي نفسك بهذه الأمنية، فإنني سأميتك صلبا.» وأشار إلى بعض الوقوف من رجاله فرفعوها عن الأرض وأوقفوها إلى شجرة من السنط وألصقوا ظهرها بها وشدوها إليها شدا وثيقا بحبال مجدولة من ألياف النخيل، وكان في جذع الشجرة نتوءات وأشواك أصابت بدنها فآلمتها. لكنها لم تبال في جانب ما شعرت به من الشوق لرؤية محمد في آخر ساعة من ساعات الدنيا، وحزنت على فراقها الحياة دون التزود بنظرة منه. وكانت تفكر في ذلك وهي ترسل نظرها إلى الظلام من حولها، فلا تتبين غير تلك النار الموقدة بين يديها.
أما سعيد فتركها مشدودة إلى الشجرة وذهب هو ورجاله يلتمسون الراحة أو النوم، وظلت هي مصلوبة تنظر تارة إلى الأفق وطورا إلى السماء وآونة إلى النار أمامها وهي غارقة في بحار الهواجس، وحدثتها نفسها أن تلين لسعيد وتعده خيرا ريثما ترى ما يجيء به القدر، ولكنها علمت أنه لا يكتفي من رضاها بالكلام فقط، فعادت إلى اضطرابها وهي تنظر إلى النار فرأتها قد أخذت في الخمود فخافت أن تنطفئ فلا يبقى ما يؤانسها. على أن خمودها جعل الأفق أكثر ظهورا فقد كانت لا ترى فيه إلا ظلاما دامسا، فلما خمدت النار ظهر في أطراف الأفق بعض الأشباح من الشجر أو التلال، وكانت لفرط قلقها تحسب الأشباح أناسا قادمين لإنقاذها. •••
وفيما هي تحدق في الأفق رأت أشباحا تتحرك، فتفرست جيدا فإذا هي هجن وأفراس عليها رجال فاستأنست بهم وهمت بأن تستنجدهم فمنعتها الأنفة وعزة النفس، فقالت في نفسها: «إذا كان لي نصيب في الحياة أتى أولئك الركب لإنقاذي بإلهام من الله.»
وظل سعيد ساهرا يتوقع أن تسترضيه أسماء فرأى الأشباح عند الأفق وعلم أن ناره ستهديهم إليه فأمر بإطفائها، فلما رأت أسماء الرجال يهمون بإطفاء النار أيقنت أنهم خائفون، فقالت في نفسها: «عسى أن تقع عاقبة خوفهم على رءوسهم»، واستبشرت. على أنها لم تكد تفعل حتى رأت سعيدا قادما نحوها والحسام مجرد في يده، وصاح وهو يحسبها لا ترى أحدا قادما وقال: «هل لان قلبك الآن أم ماذا؟!» فلم تجب، فقال: «قولي، أجيبي، إن حياتك بين شفتيك فإما أن تعيشي سعيدة وإما أن يجري دمك على جذع هذه الشجرة!»
فحارت في أمرها ولم تدر بم تجيبه وهي تعلم أنها إذا أجابت بالرفض ضربها بالحسام وهي مشدودة الوثاق، فرأت المماطلة خير ذريعة لنجاتها ريثما يصل أولئك الركب عساهم أن ينجدوها، فلم تجب.
فأدرك سعيد قصدها وخاف إن هو انتظر جوابها أن يصل الركب، فشرع الحسام بيده وصاح بها: «قولي حالا، فإما أن أسمع صوت قبولك وإما أن تسمعي صوت حسامي على عنقك!»
فعظم عليها هذا التهديد وهجرها التعقل، فقالت: «لا، لا، لا أرضى! فاضرب عنقي والله يجزي الظالمين!» ثم صاحت: «آه يا محمد يا ابن أبي بكر! أين أنت؟! آه! لو تعلم مصير أسماء!»
فلما سمع سعيد قولها نزل بالسيف على عنقها وهو لا يريد قتلها لأنه لا يزال يرجو رضاءها، فاضطرب السيف في يده فوقع على جذع الشجرة فوق كتفها فأصاب وثاق أسماء فانحل، فلما رأت وثاقها محلولا ظنت نفسها في حلم وأدركت أنه أخطأ الضرب، فانطلقت مسرعة نحوه وهي تتميز غيظا.
ورأى هجومها عليه فصاح برجاله فتكاثفوا حولها بحرابهم وسيوفهم، فصاحت فيهم: «أما فيكم من يرعى الذمام ويخاف الله؟!» قالت ذلك ولاحت منها التفاتة فرأت الركب قد أصبحوا منها قاب قوسين أو أدنى، وسمعت صوتا كالرعد القاصف وقع في أذنها وقوع الماء على قلب الظمآن، ألا وهو صوت محمد بن أبي بكر يقول: «لبيك يا أسماء! لقد جاءك الفرج، اخسئوا يا أنذال!»
أما هؤلاء فما كادوا يسمعون صوت محمد ويرون معه رجاله حتى حملوا ما استطاعوا حمله من متاعهم وولوا الأدبار، وما لبثوا أن تواروا عن الأبصار تاركين بعض جمالهم والهودج.
Página desconocida