أما ما كان من أمرهم بعد ذلك، فإن الأمير ما مكث أن استكتب «بنتؤر» كتابا إلى الملك بالمعنى المتفق عليه بينهما أولا، وبتفصيل الحادثة المفاجئة ثانيا، ثم استصدارا لأوامره بشأن عذراء الهند، وبعد ذلك جمع إليه رجاله فشاورهم في كيفية المسير إلى قصر النزهة بالضواحي الذي كان دار إقامة لعظماء الضيوف، فأجمعت الآراء أن الأمير يخرج في العصر إلى المعبد الأكبر فيقرب للآلهة القربانات الجديرة بهم شكرانا لنعمتهم على أخيه بقدوم حبيبته للديار المصرية، ثم يبرح المعبد قبيل الغروب فيخرج من باب الظلام (أحد أبواب المدينة كذلك، وكان خالصا بالكهنة بأيديهم مفاتيحه وعندهم أسراره وطلاسمه) ويأخذ جانب السور الغربي فيستمر سائرا حتى يبلغ باب طيبة، وهنالك يتنحى من يكون معه من الحاشية والحرس فيقفلون راجعين، وتكون الإشارة قد سبقت إلى ضباط النقط بإخلاء الطريق من باب طيبة، فقرية البشنين، فعزبة البقرة، فقصر النزهة بالضواحي، وهذا الطريق الطويل يقطعه الأمير وحيدا ليس معه إلا رجاء الآلهة ووفاؤه لأخيه النازح الدار.
فلما كان الأصيل هيئت الركائب واستعدت، فأقبل الأمير في حلته العسكرية، وعلى رأسه شعار الإمارة الرمسيسية، وهو يزهو بالحسام المجوهر ومنطقة الذهب والطيلسان.
وقد اتخذ لصدره زينة من أبيض الخز المحلى بالذهب المطرز بالياقوت والمرجان، وكان الفتى طويلا معتدل القامة، أشم ظاهر الشهامة، واسع الجبين أسود الشعر خفيفه، أسمر اللون باخضرار، أسود العينين وسيعهما، ممتلئ النظرات من الحياة، حلو اقتبال السنين، يراه الرائي فيستكثر له العشرين، وكان له جواد مارد من المراد، أدهم غائب في السواد، وكان سرجه من جلد النمر، فركب وسار و«بنتؤر» إلى اليمين و«رادريس» إلى اليسار، يدور بهم فيلق من الحرس جرار، وكان للأمير عبد أسود يقال إنه أحد أبناء ملوك النوبة، وأنه وقع ل «رمسيس» أسيرا، فبعث به إلى ابنه مقترحا عليه أن يسيره أمام فرسه، أينما سار فكان الأمير ينظر إلى الأسير إذ يسير. ويقول ل «بنتؤر»: أنت الذي علمت أبي الكبر بأشعارك يا مؤدبنا العزيز، حتى أصبح لا يحسب الملوك وأبناء الملوك خلقوا إلا ليركبهم أو يركبهم أولاده، كأن في أيماننا صكا من الدهر دوام الحال، وهيهات! دوامها من المحال، فما الواحد منا فوق عرش جلاله وعظمته إلا مثلي، فوق متن جوادي هذا، لا آمنه لحظة أن يكبو فأكبو معه، فيصيبني ما يصيب. قال: صدقت يا مولاي، ولكن هل تراني علمت والدك البخل، وهو الذي له خزائن الأرض في الطول والعرض، تمدها المستعمرات بالمال، فتنمو فإذا هي شم الجبال، فلا تلمني إذن ولا تظلم الشعر، وإنما هي طباع في أبيك يسرني أني لا أجدها في الأمير أخيك ولا فيك. قال: وهبها كانت أو لا تزال موجودة، أليس في صحبة مثلك ما يمزقها وأمثالها، من قبيح الطباع؟ قال: عشت يا مولاي، ولا زلت من يذكر الفضل فيشكره، فما نسي الفضل إلا غبي، ولا جحد الفضل إلا لئيم (مجزوء الكامل):
إن كنت ذا فضل فكن
ه على ذكي أو كريم
فالفضل ينساه الغبي
وليس يحفظه اللئيم
فعاد الأمير فقال: حقيقة إن أبي عجيب في بعض أحواله، وهذا منها، وإني لا أعلم له عطية عندي غير خمسين لؤلؤة من أعز اللؤلؤ، هي الآن في جيبي وسأقربها ل «آمون»، وإني لأرجو أن سينفعني القربان؛ لأنها أعظم ما جاد به بخيل إلى الآن، ثم إنه حول الحديث إلى «رادريس» فقال: لا أذكرك يا «رادريس» أن غدا فجرا تبتدئ حراسة قصر النزهة بالضواحي. قال: هذا ما كنت مشتغلا بتدبيره الساعة، وأنتما في الحديث يا مولاي، ولكن من أي الفرق تأمر أن نستعير الجند اللازم لذلك؟ فإن الحرس أصبح مشغولا كله؛ بحيث لم يعد الأخذ منه ممكنا. قال: فليكن من فرقة فتاح. قال: وكذلك مخفر القصر يا مولاي، فلقد مررت به من أيام فوجدت غالب أخشاب مربعه متكسرة، والأوتار بالية متغيرة، والمعالف متهدمة خربة، فإن أمرت كتبنا إلى ديوان الجيوش ندعوه لترميم ذلك كله بمعرفته وعلى نفقته. قال: ذلك من عمل وظيفتك، فتصرف كيف شئت، وليتكفل الديوان أيضا بمئونة الجند أربعين يوما ريثما تستريح الأميرة، ثم نشرع في ترحيلها إلى بلاد طيبة، ومنها إلى بلاد أبيها، لتخطب بالصورة اللائقة.
وكان «بنتؤر» منصتا يسمع. فقال: ما هذا الكلام يا مولاي؟ وكيف تسمح ببراح الأميرة منفيس؟ قال: إن كريمات الملوك يا «بنتؤر» لا يؤخذن من أيدي اللصوص الأشقياء، ولكن من قصور عزهن وعن أيدي آبائهن الفخام. ولذا صار لا بد من ترحيل الفتاة إلى طيبة مبجلة معظمة معززة مكرمة، واستئناف الخطبة بعد ذلك على الوجه اللائق بنا وبها، وبمقتضى ما تقف عنده المخابرات بين حكومة جلالة الملك وبين حكومة الملك أبيها. قال: هذا ما كدت أسبقك إلى القول به، لولا أنني أخاف بغتات الأمور، وأخشى تقلبات الحوادث والأحوال. قال : ليحدث ما عساه حادث، ولتنصب المصائب جملة. فأما عن الشرف فلا يحول بنو «رمسيس». قال: ولكن لا تنس لأخيك إنه محب عاشق صب يا مولاي. قال: ليس الحب إلا قطعة من الشرف، ومن يضيع الكل ليحفظ الجزء فذلك عين السرف. قال: بنفسي أنتم يا أولاد «رمسيس» (مجزوء الكامل):
سير الكبار كبيرة
Página desconocida