وإذا كان الملك مطلعا على سرائر الفتى في الحب من أول يوم، واقفا تمام الوقوف على حركات هذا الغرام وسكناته في كل تلك المدة، فقد رأى أن يغتنم فرصة قرب عود الأميرة، ليظهر له ما طالما عقد عليه النية من تشريفه بالمصاهرة، فطلبه من أبيه ثم سلمه أزمة الأسطول، ووعده أنه إن عاد بعذراء الهند سالمة، زوجه بها قادمة، بحيث تكون الليلة الأربعون، من عودها الميمون، ليلة الزفاف والمهرجان، التي يتم له فيها بالحبيبة القران، فقبل ثرثر الأرض وبالغ للملك في الخطاب حامدا شاكرا، ومحدثا بالنعمة وذاكرا، واستأذن بعد ذلك في السفر، فأذن له فخرج فقبض من فوره على أزمة الأسطول، وكان مؤلفا من سبع سفن كبار، ومن ثامنة فيها المهمات والذخائر، وعليها الأدلاء العارفون بمداخل هاتيك الجزائر، ثم صدرت الإشارة للأسطول بالإقلاع، فتحرك فاندفع يشق العباب والتيار، وهو يقف بالليل وينساب بالنهار، إلى أن شارف في اليوم العاشر أرخبيل الجزر الأبكار، وكان الظلام قد هجم يحول دون الاستمرار، فلم تجد السفن بدا من الإرساء والانتظار، فلوت على أول جزيرة منه فألقت عصا التسيار.
الفصل الرابع
عود للصاحبين في الغابة
لما فرغ الشيخ من خطاب الببغاء، التفت إلى الفتى فقال: لم يبق إلا أن ننظر في الخروج يا «هاموس». قال: فليكن ذا يا مولاي. قال: ولكني لا أحب أن نكون لتيحو وبوقو كلبي صيد نصبر على فضلاتهما، ولا نخرج عن مدى خطواتهما، بل أحب أن نبني مثل بنائهما، فإن المجد في الدنيا اجتهاد، وإن الكريم إذا ورث شيئا أضاف عليه من عنده وزاد. قال: وما وراء هذه المقدمات يا مولاي؟ فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: أريد يا بني أننا نحذو حذو ذينك البطلين، فكما أن الأول أنشأ طريقا؛ تلك التي جئنا منها، وكما أن الثاني اكتشف لرجوعه طريق الغابات الثلاث نحو الشمال، فخرج منه آيبا إلى وطنه الصين، كذلك أصبح دينا علينا نحن المقتفين لآثارهما أن نبحث لنا عن طريق نخرج منه لا يكون هذا ولا ذاك، ليبقى أثرا طيبا بعدنا، وبرهانا ساطعا على إقدام المصريين. قال: وإني لا أكره يا مولاي أن أكون من العاملين النافعين. قال: إذن فاتبعني. ثم إنه نظر إلى اتجاه منقار الببغاء، وكان موليه شطر المشرق، فتعين عنده الشمال الشرقي، فسار والفتى يتبعه حتى خرجا من غابة الببغاء الأسود، فإذا هما على أرض ذات شجر ونبات، لا تخرج عن صفات ما مر عليهما من الغابات، إلا أنها عطل من الحيوانات نقية من الحشرات، فمشيا فيها بقية نهارهما حتى جاء الليل، فأبرز الفتى الشريط ليوقده كالعادة، فمنعه الشيخ قائلا: إن النور كما يهديك يهدي إليك، وإن الخمول خير ما ارتدى الجاهل المجهول، فلا تظهر يا بني الساكن الغاب قبل أن يظهر لك، واحتجب فإن تسعة أعشار الهيبة في الحجاب.
وفي الحقيقة ما أتم الشيخ كلامه حتى أخذت سماء الغاب تتنكر لناظرها، وتتدجى قليلا قليلا، فإذا هي كتلة هائلة سوداء قائمة في الهواء ، ثم إذا بهذه الكتلة تهبط بمقدار حتى انكفأت على الأرض فتركتها بغير قرار، فقال الشيخ عندئذ للفتى همسا: لا يلبث هذا الصخر الهابط أن ينام النومة التي ما بعدها قيام. قال: لعلك تريد قتله يا مولاي؟ قال: ولم لا وليس هو - إن صدق زعمي - إلا غواص المحيط الأكبر فبطنه المحيط الأصغر، الحامل لمدهشات الجوهر، وإن لنا لجولة فيه نعلم بها ما يخفيه. وكان الطائر في أثناء ذلك قد نام وعلا له شخير شديد كادت له الغابة أن تميد.
فبادر الشيخ إليه بآنية صغيرة فيها شيء من السوائل، فلم يزل يصب منها في منقاره المنفغر، حتى مال رأسه وانطبق فمه وارتخى جناحاه، ثم انقض يخب على الأرض، فالتفت الشيخ إلى «هاموس» وكان خلفه قائما ينظر. فقال له: الآن نشرع في العمل، فخذ لك سكينا وساعدني على فتح هذا البطن الجسام، فجرد الفتى سكينه وانكبا على العمل، فما زالا يعالجان ذاك البطن حتى انفتح، فإذا هو كالشكول أو كبطن النعام يحتوي على المعدن وغير المعدن، ويحمل ما يهضم من الأشياء وما لا يهضم، فأنزلا كل ذلك إلى الأرض ثم ابتدراه بالأيدي يقلبان ويفتشان، فعثرا بين تلك المواد على شيء كثير من الحجارة المختلفة المقامات، المتفاوتة الدرجات.
وكان الفتى يغسل والشيخ ينقد فإما إلى الخزانة وإما إلى الأرض حتى حصلا على كنز من أنفس الكنوز، ولم يكن بقي سوى الفضلات، فنهضا للرواح، ولكنهما ما هما حتى عادت السماء فتنكرت ثانية، وشوهدت تلك الظواهر بعينها، فصاح الشيخ حينئذ بالفتى قائلا: هذا الذكر يتنزل يا «هاموس» فاستل أكبر خناجرك وأمضاها، وقف بجانبي، فإذا رأيته وقد مست مخالبه الأرض وجناحاه مبسوطان من قوة الهبوط يخفقان، فاطعنه تحت أحدهما، وخل الآخر، فإني ممكن منه خنجري قبل أن يتمكن من النظر إلى رفيقه، ورؤية ما حل به، فيهيج فنقع معه في حرب وكرب.
وما فاه الشيخ بهذه الكلمات حتى بلغ الطائر الأرض، فما كاد يطمئن بحيزه العظيم منها حتى سأل الشيخ الفتى: كيف طعنتك يا «هاموس»؟ قال: من المذيبات الحديد يا مولاي. قال: إذن فتقدم؛ فقد هلك هذا الآخر أيضا وآل إلينا كنز جديد، ثم إنهما انبريا يفعلان به كفعلهما بالأول، فبينما الفتى يلتقط وينقي ثم يناول الشيخ وهذا يأخذ، أو ينبذ، دفع إليه «هاموس» بلؤلؤة صفراء بلمعان الذهب، ولها شكل البيضة الصغيرة وحجمها، فحين وقع نظره عليها لم يتمالك من فرحه أن صرخ قائلا: أتدري قدر ما ناولتني يا «هاموس»؟ قال: وما عساي ناولتك مما فات التفاتي قدره يا مولاي. قال: يتيمة الصين المحتجبة منذ آلاف السنين. قال: وأين كانت قبل طول احتجابها؟ قال: في صدور الملوك والسلاطين، يحملونها فتكسو وجوههم أزين اللون وأجمله. كما أنها تكسب الثياب لمعانا لطيفا، فإذا رأيتها حسبتها مزرة على النجم الساطع، وكذلك هي تداوي من عشق الحسان، فإذا حملها إنسان، وكان مصابا بهذا الداء القتال، انصرف عنه مع الزمن وزال، فكأنما يتسلى بجمال، عن جمال، ويتعوض باشتغال، عن اشتغال، ويزعمون أيضا أنها كانت حجاب هيبة وجلال، وسعادة وإقبال، لبيت من البيوت المالكة في الصين قديم خال، فلما فقدت أخذ ملك الصين في الاضمحلال، ووقعت البلاد من ذلك الحين في شر حال. فأنا لو حملتها اليوم إلى ملك الصين لأعطاني بها الجبال الشم من المال. فإن استزدت شاطرني ملكه الواسع مرتاحا غير قال. فمرحبا بك يا يتيمة الصين، وأهلا وسهلا بهذا الحباء السماوي الثمين، ثم إنه لف الدرة بصيانة، ووضعها في جانب خاص من الخزانة، ونهض بعد ذلك فسار، ومشى الفتى يحمد مع شيخه الأسفار، وقد ثبت عنده أنها خير الحبائل لصيد محاسن الصدف، واقتناص عجائب الأقدار، إلى أن راح الليل وجاء النهار، وإذا الغابة خالية الجو لهما صفر من الوحوش والأطيار. فاستمرا في سيرهما آمنين ناشطي الأقدام، فقضيا نهارهما ذاك في طعام ومدام، ومشي وكلام، حتى وافى الظلام، فقابلاه على ذلك الغاب الأمين بطيب المنام.
فلما أصبح الصبح انتبها من رقادهما، وكانت الغابة قد أخذت تتبدى لهما في مظاهر غير تلك المظاهر، وتتبدل أمامهما مناظر من مناظر؛ فأدرك الشيخ حينئذ أنهما يفدان على غابة جديدة، فنبه الفتى لذلك ثم قال: لم يبق ما لم نصادف غير النمر، مع كونه حيوان الناحية، وطامة الهند والداهية. قال: لعل هذه غابته يا مولاي؟ قال: لعلها يا «هاموس». وإني أكاد أحس سره في المكان. قال: وهب أنها غابته، وأنه خرج إلينا، فبماذا نحن ملاقوه يا مولاي؟ قال: بالخناجر الماضية يا «هاموس».
وبينما هما كذلك في ذكر النمر يتوقعان ظهوره، تقضى الشيخ نظره الحديد، فرأى حيوانين صغيري الحجم أسودين يقبلان من جوف الغابة؛ فأشار للفتى أن يستعد قائلا: هذا هو النمر الرهيب يا «هاموس»، لقب بذلك لأن النمورة على اختلاف أنواعها وأجرامها ترهبه على قلة حجمه، وتجفل عن لقائه، ولا تملك لمفاصلها شدا أمام نظراته الجاذبة المؤثرة، ولا أحسب هذين إلا ذكرا وأنثى فتكفل أنت بأصغرهما. وهي الأنثى، وخل لي الآخر، والآن دعني أطعنهما بالرعب قبل طعن الخناجر.
Página desconocida