واستمر الرجلان كذلك يسيران إلى أن ولى النهار وبان، وهجر أكوانا إلى أكوان، وعندئذ انقلبت الثعابين على الأعقاب، آيبة إلى مساكنها من الغاب، فكف الشيخ عن إلقاء المسحوق ووقف متبسما يقول لفتاه: الآن لا خوف علينا، ولا نحن نضجر يا «هاموس»، فأشعل شريطك وسر بنا في ظلام الغابة الثالثة؛ غابة الفيل الكسلان. قال: وما ذلك الكسلان أيضا يا مولاي؟ قال: إنها يا بني أفيال عراض طوال في أجرام الجبال، ولكن الكسل منها بمكان، فتراها تقضي الأشهر والأيام في مراكزها، ثابتة لا تتحرك؛ بل قد تتخذ الطير في آذانها وظهورها أوكارا، فلا تحرك خرطومها لتذودها، أو لتمنع الحشرات أن تدمي جلودها. قال: إذن فتلك غابة سهلة المجاز، مأمونة المذاهب على السالكين. قال: نعم، كذلك هي، إلا أنها طويلة مظلمة ثقيلة. قال: ذلك لنا فيه يا مولاي ألف حيلة. أما في جبال الثعابين فالحيلة قليلة، فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: صدقت يا «هاموس»، إن الأمان ألزم حوائج الإنسان، وأطيب المكان حيث كان، فإن بان لا أهل ولا أوطان، ولا حياة ولا وجدان، وهو في الحضر منة، وفي السفر منة وإحسان.
وما هي إلا برهة زمان حتى بدت لهما أشباح الفيلة من بعد، تموج بها قباب الظلماء، فهزت رؤية ذلك من الشيخ فقال: ألا تبصره يا «هاموس»؟ قال: بلى يا مولاي، وإنه لعلى جرم كما تقول عظيم. قال: إذن فعجل بنا فورأس «آشيم» لا بتنا ليلتنا هذه إلا على ظهر هذا الكسلان. قال: وما لنا وله يا مولاي، وهذا وجه الأرض يغنينا عن متون السباع. قال: إنه يا بني جبان، والجبان مضيع الجانب، ومطية كل راكب، فلا تنظر إليه عن صفة السباع، وعد هذه الكتلة الهائلة من سقط المتاع، فلما قابلا بعضها وكان في معزل تأملاه في ضوء الشريط فإذا شيء كالجبل، في الضخامة والثقل، تزدحم الحشرات عليه وتحوم صغار الوحش حواليه، مما لم يريا له أثرا في الغابة الأولى ولا الثانية. فنظر إليه الشيخ نظرة المستزري الحاقر، وهو يقول: يا ضيعة الغابة التي أنت حاميها، يا جبل الشحم! ثم إنه أخرج ذلك المسحوق، فنثر منه في الأرض، فطارت كتائب الحشرات عن جلد الفيل، وانفضت جموع الوحش من حوله فرارا من كريهات الروائح، وعمد الشيخ بعد ذلك للخرطوم فتعلق، ثم ما زال يتسلق، حتى بلغ ذروة الرأس، فانحدر منها إلى العريض الطويل، من ظهر الفيل، وهناك نادى صاحبه، فلبى يصعد على عجل ويفعل مثلما فعل، حتى إذا اطمأن بهما المرتقى، جلسا فشعرا بذلك الجبل يميد، فسأل «هاموس» شيخه: ألا تحس بحركة يا مولاي؟ قال: بلى يا بني، ولكنها حركة الجسم بعد الموت، فإني لا أحسب هذا الكسلان إلا أغضبه سوء صنيعنا به فخطا خطوة.
ولما كان النهار، نزل الرجلان من حيث صعدا، فانطلقا يجدان في المسير والفيلة تبدو لهما من كل جانب، كتائب دونها كتائب، إلى أن وافى الظلام، فقابلاه بمثل ما فعلا في الليلة الماضية، واستمرا على هذا الحال ثلاثة أيام بليال، حتى خرجا من غابة الأفيال، ودخلا الغابة الرابعة؛ غابة النمال، فالتفت الشيخ عندئذ إلى «هاموس»، وقال: الآن نحن يا بني في غابة النمل، فلا تنظر إليه عن صغر، فما كل صغير يحتقر، وانظر إليه كيف يأخذ القوت، ويحمي البيوت، ويثبت أمام العدو، حتى يتم له الظفر أو يموت. قال: وهل هو يا مولاي من النوع المعتاد المألوف في سائر البلاد؟ قال: لا بل هو الأبيض ذو المنشار الذي لو سلطت كتائبه على جبل لأصبح هباء منثورا، وهو في حجم الخنفساء، ويذكر يوقو الصيني أن فيلا عظيما مما خلفنا وراءنا طوح به أجله إلى هذه الغابة، وكان يوقو على شجرة ينظر. قال: فلم أشعر إلا بالملايين من هذا النمل قد خرجت إلى لقاء العدو، ثم لم أدر إلا بالفيل قد قضم قضما لحما وعظما، وانصرف النمل من حيث أتى، فنزلت لأنظر فلم أجد للحيوان أثرا على المكان. قال الفتى: وما عندنا يا مولاي من السلاح لهذا الأبيض ذي المنشار؟ قال: النار ذات الدخان، وإن يوقو الصيني لم يلق في غابة من الغابات، عشر معشار ما لقي في هذه الغابة من الصعوبات، فلقد عمل تجارب شتى أخفق في جميعها.
ولو لم تساعفه الصدفة بإخطار ذكر النار على باله، لأقام بهذه الأرض عمرا متنقلا من شجرة إلى شجرة، أو منحبسا في صندوقه الحديدي من خشية الأبيض ذي المنشار. قال: إذن ففيم التأخير الآن؟ وهذا الحطب بين أيدينا حاضر وواف بالحاجة. قال: إننا لم ندن بعد من معسكرات النمل، ولا نبلغها إلا قبيل المساء، أما الحطب ففوق حاجة الطلب، وسنجده أين التمسناه.
وفي الحقيقة لم تكن أواخر النهار حتى أبصر الشيخ عشرات من النمل تعدو فارة أمامه، فصاح بالفتى قائلا: أوقد يا «هاموس»، أوقد؛ فهذا المخبر قد سبقنا لينذر، فشرع الفتى في الإيقاد، وما هو إلا أن أشعل الحطب أو كاد، حتى أحدق بهما ذلك البلاء الأبيض من كل جانب كتائب تنهال، غير مكترث بالنار ذات الاشتعال، ولا مبال بضوء لهيبها المتعال. فأدرك الشيخ من فوره أن النمل لا يرهب النار، ولكن يكره الدخان، فأخرج المسحوق بسرعة، وألقى بشيء منه في النار، فذهب دخانا كثيفا يتدجى، فلما شمت النمل منه ولت الأدبار، واختفت في مثل لمح البصر عن الأنظار.
فخلا الطريق للشيخ وتبعه الفتى يحمل في كلتا يديه النار، واستمرا كذلك يسريان إلى أن بدا لهما النهار، فأتبعا السرى سيرا غير ذي قرار، حتى تقضى ذلك اليوم أيضا، وكان آخر العهد بالأبيض ذي المنشار، فألقيا عندئذ العصا وعمدا لمكان فجلسا يستريحان من عناء ما كان، وهنالك خاطب الشيخ الفتى، فقال: اعلم يا «هاموس» أنني ناوأت الحكومات والممالك، وقطعت على الجحافل الطرق والمسالك، ودبرت للملوك كما دبروا لي المهالك، ودخلت على الأسود غابها، ولقيت سباع الأرض وكلابها، وحملت الأمراض لم أحسب حسابها، وجبت وحيدا كل قفر، ورفعت شراع كل بحر، فلا أذكر أنني عرفت لشيء مهابة، قبل عرفاني هذه الغابة، وذلك لا لأن النمل سلطان الحيوانات، أو أقوى كل هاتيك المخلوقات، ولكن لكونه أمة التعاون، والاتحاد، والثبات، وكل واحدة من هاته الثلاث كافية لتهز الأرض، وتقيم قيامة السموات.
ثم إنهما رقدا على ذلك المكان، فلم ينتبها إلا وقد ظهر الصبح وبان، فتناولا بعض الزاد ثم خفا يسيران، والشيخ يقول للفتى: اليوم نفد يا «هاموس» على الغاب الأسعد، غاب الببغاء الأسود، فاستعد لذلك، فكل العجائب هنالك. قال: وهل بلغناه بعد يا مولاي؟ قال: بل ندخله والضحى. قال: وما عليه من الحيوان؟ قال: بل قل: من الإنسان؟ فالتفت الفتى كالمستغرب الدهش، فعاد الشيخ فقال: نعم يا بني، من الإنسان، فإن غابة الببغاء الأسود تأويها من عهد مجهول للعلم، عائلة بشرية متوحشة أورثها أبواها الأولان عبادة الببغاء، ويذكر يوقو الصيني أنها كانت من ستمائة سنة؛ أي على عهد نحو ألف، ولكنها كانت مبتلاة في زمن وجوده في الغابة، بنوع من الأوبئة خاص بالقردة، وكان يفتك فيها مسرفا وهذا أغرب ما سمعت للآن، حتى لقد حرت فما أدري هل الإنسان من القرد أم القرد من الإنسان؟ قال: لعلها يا مولاي خطرة من وساوس ذلك العالم؟ قال: إن العلماء لا ينطقون عن الهوى، ولا ينبغي لهم، ولا لك أن تتهجم على مقاماتهم يا «هاموس».
وما هي إلا ساعتان من الزمان، حتى غشي الرجلان المكان، فإذا هما بقبة واحدة عظيمة من الشجر المتشعب الأغصان، المتكاثف الأفنان، عائبة الجوانب في الأفلاك، لاحقة الذرى بالسماك، فلما صارا تحتها واطمأن بهما فضاؤها، سأل الفتى شيخه قائلا: أين يا مولاي ذلك الإنسان؟ إني لا أجد ريحه على المكان. قال: لعله يا بني لم يحفظ من خلائقه الأولى سوى الجبن، فلما تنشق نسيما غريبا أخذ لنفسه الحذر، فتوارى خلف هذا الشجر. قال: والآن كيف السبيل إلى الببغاء الأسود، ونحن بين خلق من الطير لا يحصى، ومساكن في هذه الذرى الشم لا ترام؟ قال: لقد سألت يا بني عن الأمر العظيم، فاعلم أن أول من وصل إلى هذه القبة واقتنص الببغاء، هو أبو السياح العالم الشهير تيحو المصري المنفيسي المتوفى من نحو عشرين قرنا، وقد فصل رحلته الفاخرة، وبين علمه العظيم في كراسة من ورق البردي، فوقع النصف الأول منها في قبضة يوقو الصيني، وكان كذلك عالما مولعا بالأسفار، فسافر خلف دليل من ذلك السفر الجليل، حتى بلغ هذه الغابة التي كان من شقاء يوقو أن الكلام ينتهي إليها فيما بيده من الكراسة، فاضطر إلى الرجوع خائبا بعد أن كاد يأتي بالمستحيل، لاستنزال الببغاء من أيكه المنيع فلم ينجح فيما حاول.
أما النصف الأخير من الكراسة، فقد عثرت أنا عليه في مكتبة معبد طيبة الأكبر أيام قيامي بتوكيل هذا المعبد، فأخذته لنفسي وشرعت من ذلك العهد في البحث عن النصف الأول، ولكن بحث اليائس العارف أنه يروم المستحيل، إلى أن كان ما هو معلوم مشهور، من شرائي لتركة يوقو الصيني التي نقدت فيها ملك الصين الجاهل ثلاثين ألف حلقة من الذهب، دفعتها من مالي الخاص. فكان من تمام سعدي أنني وجدت بين أشيائها النصف الأول من الكراسة، ومعه كراسة أخرى كاملة من قلم يوقو يشرح فيها رحلته ويذكر خيبته، ويودع الحياة ويزعم أنه لما وصل الصين آيبا من سفره ذاك، شعر على الأثر بانحطاط القوى، ودبيب الفناء، ويختم بالدعاء لمن يقصد بعده غابة الببغاء الأسود أن ينقلب أسعد منه حالا، وأحسن منه مآلا.
فلما صار ذلك كله في يدي، ودون بعضه يا بني ملك الدنيا، رحت أحلم ليلي والنهار، بالرحلة إلى هذه الأقطار، واقتفاء آثار أولئك الرجال الكبار، إلا أن الفرص لم تكن تسنح، ولا الصدف كانت تسمح، إلى أن كان ما كان من اعتزالي الكهانة، وانفصالي عن خدمة الديانة، ودفعت بي الحماسة في ولاء الأمير «آشيم»، ولي عهد بلادنا المحبوبة إلى أن آتي هذه الديار لأسرق عشيقته الأميرة عذراء الهند، ثم أحملها إليه هدية من عبده «طوس»، مصحوبة بالثناء عليه. فرأيت أن نغتنم فرصة استظلالنا بسموات الهند، لنقتنص ذلك الأسود الذي يلقبه تيحو الصيني بالمغني عن سؤال الأفلاك.
Página desconocida