La genialidad de un amigo
عبقرية الصديق
Géneros
ولكن الصديق لم يكن قد رأى هذا الذي رأيناه، ولا تصفح هذا الذي تصفحناه، فهل معنى ذلك أنه أقدم بغير علم، وأنه نسي ما طبع عليه من الحيطة والحزم، وأنه سها عن واجب الروية وقد تهيأ له واجب اليقين؟!
لا، فإن الذي كان يعلمه الصديق قد كان يكفيه ويغنيه عن هذا الذي علمناه.
كان يعلم أن الفرس قد خسروا قبل الإسلام وقعة ذي قار وهم أقوى صولة، والعرب أضعف شأنا من شأنهم بعد الإسلام.
وكان يعلم أن الروم قد صبروا على بعثتين عربيتين بلغتا من بلادهم إلى التخوم، وأوغلتا في بعض الأطراف، ثم فترت همتهم عن مقابلة ذلك بالقمع والقصاص السريع.
وكان يعلم أن العرب إن طلبوا الدين حاربوا صادقين في القتال، وإن طلبوا الدنيا حاربوا صادقين في القتال، وأنهم موعودون بالنصر ومؤمنون بصدق الوعد ومقبلون بنفوس تحب الموت كما يحب أعداؤها الحياة، وأنهم خفاف لا تثقلهم العدد محميون من وراء ظهورهم بالصحراء إن وجبت الرجعة، مقدمون على أرض خبرتها طلائعهم وهونت عليه خطبهم، وأبلغته من أخبار فتنها ومفاسدها ما يملي له في الإيمان بالقدرة عليها.
فإذا علم هذا فهو حسبه من الروية مقرونا بذلك اليقين الذي لو سها عن كل روية لكان له بعض العذر، وكان به جل الغناء. •••
وفي أقل من ثلاث سنوات قصار أنجز ما أنجز من تلك المآثر الطوال ... وفي أقل من ثلاث سنوات أنفذ بعثة أسامة وفي سبيلها ما فيه من صعاب، وقمع الردة وحولها ما حولها من خطر، ووطئ حدود فارس والروم ولها ما لها من هيبة ومنعة؛ ثلاثة أركان للدولة الإسلامية لم يكن ليقوم لها ركن قبل أن تقوم، ولو أنها حسبت لثلاثين سنة - ولم تحسب لثلاث سنوات قصار - لجللتها جميعا بالثناء والفخار.
ولم يتسع الزمن لإقامة نظام للدولة الإسلامية في عهد أبي بكر على مثال النظم السياسية والإدارية التي تقام للدول الكبار في حداثة نشأتها. أو لعل المسألة هنا ليست مسألة اتساع الوقت وضيقه في عهد الخلافة الأولى، ولكنها مسألة الحاجة إلى تلك النظم وقلة الحاجة إليها، ففي عهد الخليفة الأول بعد النبي عليه السلام لم يطرأ على إدارة الدولة الإسلامية ما يدعو إلى نظام جديد غير النظام الذي كانت تجري عليه عهده عليه السلام؛ لأن الجزيرة العربية عادت بعد حروب الردة إلى مثل ما كانت عليه في أيام النبوة، ولأن الأرجاء الأجنبية التي زحفت عليها بعوث المسلمين لم تزل إلى آخر خلافة الصديق في دور الغزو والفتح، ولم تبلغ بعد إلى دور التوطيد والتنظيم، فكل ما جرى عليه النظام في أيام النبوة، فقد كان صالحا للاتباع في أيام الخلافة الأولى، وههنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في إسناد الخلافة الأولى إلى أصلح الناس لمتابعة العهد النبوي على حاله الذي كان عليه. حتى إذا حان وقت التوسع والتصرف وجد الوقت من هو أصلح وأقدر عليه، وكأنه كان معروفا من قبل موكولا إلى حينه الذي يترقبه ويستدعيه، ولن يكون إلا عمر بن الخطاب كما سماه عليه السلام حيث قال: «أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن.» •••
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الأداة الحكومية - أو الإدارية - لم تكن في عهد الصديق محتاجة إلى نظام غير النظام الذي اتخذه النبي عليه السلام، واكتفى به في إدارة الشئون العامة بمكة والمدينة والجزيرة العربية، مع التعديل الذي اقتضاه توزيع العمل وتفرقة العبء الكبير بعد وفاة النبي، وغياب المرجع الأعلى الذي ترتفع إليه جميع الأمور.
فتولى بيت المال رجل سماه النبي عليه السلام «أمين الأمة» وهو أبو عبيدة بن الجراح، وتولى القضاء رجل لم يشتهر أحد بالعدل اشتهاره وهو عمر بن الخطاب، وتولى الكتابة كاتب النبي عليه السلام زيد بن ثابت، وكانت ولاياتهم أقرب إلى الارتجال والتداول منها إلى التكليف الدائم والعمل المرسوم.
Página desconocida