إنما المسألة هي: ما الحكم بعد الآن في قتال الأشهر الحرم؟ ... وماذا يبلغ من حق المشركين في الاحتماء بحرمة هذه الأشهر إذا كانوا لا يرعون للمسلمين حرمة ولا يزالون يقاتلونهم ويردونهم عن دينهم ما استطاعوا؟ وما الجواب على تشهير قريش واحتجاجها بالحرمات التي لا ترعاها؟ ...
هذا هو الحكم الذي وجب أن يعلنه الإسلام، وقد أعلنه على الوجه الذي دانت به الشرائع الحديثة في علاقاتها الحربية، ولا تزال تدين به حتى اليوم. فهناك حرمات دولية إذا خالفتها إحدى الدول بطل احتماؤها بها، وأحل لغيرها أن يخالفها كما خالفتها أو يتخذ من القصاص ما يردع الشر ويعوض الخسارة، وإلا كانت الحرمات درعا للمعتدين ولم تكن مانعا لهم وسدا في وجوههم كما أريد بها أن تكون. •••
واليوم تنقطع العلاقة بين دولتين في حالة حرب أو جفاء، فيجوز لكلتيهما أن تحجز ما عندها من أموال الدولة الأخرى وأن تأسر الذين في بلادها من رعاياها، ويجوز لها أن تجعل تلك الأموال ضمانا لسداد المغارم التي تنزل بها وبأبنائها، وأن تتخذ من المعتقلين رهائن تعاملهم بمثل ما يعامل به المعتقلون من أبنائها في سجون الدولة الأخرى.
فالذي حدث بعد سرية عبد الله بن جحش هو هذا بعينه، وهو حكم القانون الدولي المتفق عليه؛ أسيران بأسيرين، وأموال العير بالأموال التي حجزتها قريش للمسلمين، ولا محل لضجة الناقدين من المبشرين والمتعصبين في تعقيبهم على هذا الحادث المألوف أو على حكم النبي والإسلام فيه، فإن أصحاب هذه الضجة يعمون عما حولهم وينسون أن المعاملات الدولية في زمانهم لم تفصل في أمثال هذه الحوادث بحكم أنفع ولا أعدل من الحكم الذي ارتضاه النبي ونزل به القرآن، وهو حكم مساواة يدين به المسلمون كما يدانون، ويحار المتعسف لو شاء أن يستبدل به ما هو خير منه وأدنى إلى النفاذ والاتباع.
غرضان
وكان هذا القائد الملهم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع خبيرا كذلك بتجنيد كل قوة في يديه متى وجب القتال، إن قوة رأي وإن قوة لسان وإن قوة نفوذ، فما نعرف أن أحدا وجه قوة الدعوة توجيها أسد ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه السلام.
والدعوة في الحرب لها - كما لا يخفى - غرضان أصيلان بين أغراضها العديدة ... أحدهما: إقناع خصمك والناس بحقك، وهذا قد تكفل به القرآن والحديث ودعاة الإسلام جميعا، فالدين كله دعوة من هذا القبيل.
وثانيهما: إضعافه عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع الشتات بين صفوفه وربما بلغ النبي برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة، وبالمكاتب والدواوين، وبدر الأموال.
قال ابن إسحق ما ننقله ببعض تصرف: «إن نعيم بن مسعود الغطفاني أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ... فمرني بما شئت ...
Página desconocida