ففي بلاد الفرس، خفت صوت الدين ومضى على ظهور «زرادشت» مصلحهم الديني الكبير زهاء أربعة عشر قرنا، فرث الصالح من مذهبه وازداد الطالح سوءا على سوء.
وخلف في بيت الملك أمراء ضعفاء بعد آبائهم الأقوياء فشغلوا بالنزاع بينهم وأسقطوا هيبتهم في بلادهم وغير بلادهم ونهكوا قوة الدولة في فتن وبيلة وخيمة وترف أوبل وأوخم، وما برحوا في طغيانهم وتهافتهم حتى ولي الملك أردشير فرأب صدعه وأوشك أن يعيده إلى سابق مجده وتركه في القرن الثالث للميلاد وهو موحد بعض التوحيد بالقياس إلى ما كان عليه قبل ذلك من التفرق بين العشائر والرؤساء.
ثم نكس النكسة الأخيرة وشاع فيه الفساد علوا وسفلا قبيل ظهور الدعوة الإسلامية، وكان الملك المعاصر للنبي - عليه السلام - كسرى أبرويز، فثار به ابنه شيرويه فقتله ونكل بذوي قرباه، وأعقب طفلا صغيرا فلم يلبث أن قتل وتولى بعده قائد الجيش شهر يزار، فنفس عليه القواد والعظماء منزلته المغصوبة فقتلوه وولوا عليهم بوران بنت كسرى أبرويز، فلم تتم في الملك سنة وبضعة أشهر حتى ماتت وخلفها فتى من بني عمومتها الأبعدين، ثم قتل وخلفته بنت أخرى لكسرى أبرويز فقتلت، وقتل من بعدها، إلى أن تولى الأمر يزدجرد بن شهريار والدولة تترنح من فرط الإعياء.
ومنيت في أيامها الأخيرة بضربة قوية في حروبها الخارجية: وهي غلبة الروم عليها وانتزاع مصر والشام منها، ورد حدودها إلى دجلة والفرات بعد أن طغت على حدود آسيا الصغرى، وقبل هذا منيت بضربة دون هذه الضربة في القوة والضخامة، ولكنها أشد منها أثرا فيما نحن بصدده من أحوال الدعوة الإسلامية. وتلك هي ضربة الهزيمة ب «ذي قار» التي تقدم وصفها في أول هذا الكتاب ... فإن هذه الهزيمة أطمعت فيها العرب بعد مخافة وهيبة، ولا سيما العرب المقيمين بجوار ذي قار وأرباض السواد، ومنهم جند خالد وزملاؤه الذين تقدموا لمنازلة الفرس في العراق.
وساءت من جراء ذلك كله شئون الأمة في الديار الفارسية، فتهالك العلية على المظاهر وانغمسوا في الترف واستكثروا من النفائس والأموال، وشغلوا عن سواد الأمة؛ فشاع بينهم الفقر والضنك والتذمر وبغض الحكام، ولم يعلموا فيم هم مسوقون وعلى أي شيء يقاتلون ويتفانون، وهي حال تؤذن بالتصدع والانهيار لأول صدمة تهز الأركان والجدران.
ومن أعجب العجب أن يفطن رجل كالمغيرة بن شعبة لدلالة هذه الحال، وهي معدودة في عصرنا من دروس علوم الاجتماع والتاريخ التي لا يصل إليها الباحث إلا بعد مقارنة واطلاع واسع مستفيض، ولكنه العجب الذي يفسر لنا ما هو أعجب منه، وهو وفرة نصيب العرب يومئذ من أقطاب الرجال ذوي الحنكة والنظر البعيد، وأنهم قد ظفروا؛ لأنهم كانوا على أهبة في هذا الباب حرمتها كلتا الدولتين، على كثرة من بهما من الزعماء أصحاب المظاهر والشارات.
دخل المغيرة بن شعبة على رستم بطل الفرس المشهور في التواريخ والأساطير فجلس معه على سريره، فاستكبر أعوانه هذه الجرأة من ذلك البدوي «المغرور» واجتذبوه من مكانه على السرير في عنف شديد، فما اهتز المغيرة ولا استكان ولا زاد على أن قال: لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى أسفه منكم، إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى - أي نتساوى - فكان أحسن من الذي صنعتموه معي أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، إن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد. وإني لم آتكم ولكن دعوتموني ... اليوم علمت أنكم مغلوبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول ...
كلمات من ذهب ...
لو كان فيمن سمعها من الفرس من يضارع المغيرة لقال في جوابه: «واليوم علمنا أنكم غالبون، وأن أحق الملك أن تقوم له قائمة لهو الملك الذي قوامه من هذه السيرة وهذه العقول» ...
على أن الأمم لا تقفر من الأحلام كل الإقفار في أظلم ظلمات الجهالة والإدبار، فقد وزن «يزدجرد» شأن العرب والفرس بالميزان الصحيح؛ حين قال لرستم: «إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفى على جبل يأوي إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها، فلما أصبحت تجلت الطير فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شيء اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته، وأشد شيء يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا، وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم.»
Página desconocida