وعلى هذا، انقضى واجب خالد بن الوليد في حروب الردة كأحسن ما ينقضي هذا الواجب، وقام وحده بأوفر سهم في هذه الحروب؛ لأنه قمع أخطر الفتن في الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فقمع فتنة بني أسد وحلفائهم، وخطرها أنها كانت أقرب الفتن إلى المدينة ومكة، وقمع فتنة بني حنيفة، وخطرها أنها كانت فتنة القبيلة القوى والعديد الأكثر بين العرب قاطبة ... وحقق كل ما ندبه له الخليفة، وكل ما اتفقا عليه، سواء من الخطط التي نظرا معا في تفصيلاتها، أو من الخطط التي عرف خالد غاياتها، وابتدع لها ما ارتآه من أساليبها في أماكنها وأوقاتها، ولم يخالف رغبة الخليفة إلا في موضعين لهما، كما أسلفنا، علاقة بمسألة زواج.
أما الأولى - وهي زواج ليلى امرأة مالك - فقد تقدم تلخيصها وجملة الرأي فيه - كما أسلفنا - أنه عمل يحوج خالدا إلى الاعتذار والتفسير، وأنه صفحة كان خيرا له لو طويت من تاريخه، فما فيها مزيد افتخار، وفيها على أهون القولين مقام اعتذار.
وأما الأخرى فلا يسع أحدا أن يسهو فيها عن عجلة خالد إلى الزواج على غير عادة القوم في ميادين القتال.
ولكن لا يسع أحدا كذلك أن يتعدى هذا إلى مظنة تمس نية الرجل أو تجعل صلحه لبني حنيفة متصلا برغبته في الزواج ببنت مجاعة زعيم الحنفيين في صلح اليمامة ... ذلك بعيد، جد بعيد ...
لأن بنت مجاعة كانت بين يديه، وكان في وسعه أن يقتل أباها؛ نقمة من خداعه إياه، ومرضاة للخليفة الذي أمره باستئصال من يحمل السلاح في القبيلة، فهو يقتله ولا معتبة عليه.
ولم يصالح خالد بني حنيفة وهم مجمعون على قبول صلحه، بل كان منهم زعيم له أنصار وأتباع - هو مسيلمة بن عمير - أبى أن يذعن لشروط مجاعة ومضى يهتف في قومه: «يا بني حنيفة، قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء فإن الحصن حصين والطعام كثير، وقد حضر الشتاء.»
فلما عارضه مجاعة وذهب برأي الأكثرين من قومه تمادى مسيلمة بن عمير في لجاج الخصومة، وانسل إلى فسطاط خالد يريد أن يفتك به ويشيع بموته الفتنة التي لا تؤمن عقابيلها في معسكره ومعسكر بني حنيفة، فتنبه خالد إليه وسأل: من هذا المقبل؟ ... فعرفوه به فقال: أخرجوه عني، فلما أخرجوه وجدوه يخفي السيف في ثيابه، فلعنوه وأوثقوه في الحصن وأخذوا عليه عهدا لا يقربن بعدها من فسطاط خالد حتى تنتهي بيعة قومه على الإسلام، ولكنه غدر بعهده وأفلت بالليل إلى عسكر خالد مصرا على قتله، فلما أدركوه دون بغيته أجال السيف على حلقه فقطع أوداجه وآثر الموت على التسليم.
ومع هذا، بقيت بلدة «القرية» ووادي العرض في اليمامة لم يشملهما الصلح الذي شمل العسكر في عقرباء. فلم تكن مطاولة القوم خيرا من المصالحة في حالة كتلك الحال، ولم يكن في طاقة المسلمين أن ينهضوا للمطاولة بعد أن قتل منهم من قتل وجرح من جرح ومضى على أكثرهم عدة شهور بين مشقة السفر ومشقة الهول والبلاء، ولم يكن إرجاء التسليم مأمون المغبة إذا استثيرت نخوة الحنفيين وفيهم من يعاند في الخصومة ذلك العناد، ولقد يكون المستسلمون منهم أسرع إلى النكسة يوم يشهدون بأعينهم سبي النساء «غير حظيات» وقتل القادرين على الحرب من فتية وكهول.
فدواعي خالد إلى الصلح أظهر وأرجح من أن يعتسف معها داع آخر غير معقول ولا مستساغ، وإن الداعي الذي لا يعقل ولا يستساغ هنا لهو التعليل بزواجه من فتاة اليمامة، وأيسر شيء لديه أن يسبيها بعد قتل ذويها، ثم يكون ذلك أدنى إلى رضا الخليفة وتحقيق ما أمر به، قبل أن يطلع على الموقف في اليمامة من جملة نواحيه.
وبعد، فليحسب زواج خالد كله في أي سجل يشاء أن يحسبه الحاسبون، ففي سجل المفاخر الإسلامية شيء يحسب له بعد حرب اليمامة لن يطول فيه خلاف ... فتلك أول حرب ظهر فيها للمسلمين مصداق قول النبي - عليه السلام - إنه سيف من سيوف الله، كان الخطر على الدين الجديد من العرب أنفسهم ومن أمم «الأعاجم» التي تحيط بالبلاد العربية .
Página desconocida