La genialidad del Imán Alí
عبقرية الإمام علي
Géneros
تقديم
صفاته
مفتاح شخصيته
إسلامه
عصر الإمام
البيعة
سياسته
حكومته
النبي والإمام والصحابة
ثقافته
Página desconocida
في بيته
صورة مجملة
تقديم
صفاته
مفتاح شخصيته
إسلامه
عصر الإمام
البيعة
سياسته
حكومته
Página desconocida
النبي والإمام والصحابة
ثقافته
في بيته
صورة مجملة
عبقرية الإمام علي
عبقرية الإمام علي
تأليف
عباس محمود العقاد
تقديم
في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه ...
Página desconocida
لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه الخطاب البليغ من سير الأبطال والعظماء، وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل.
في سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالعاطفة المشبوبة، والإحساس المتطلع إلى الرحمة والإكبار ... لأنه الشهيد أبو الشهداء، يجري تاريخه وتاريخ أبنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والهزيمة، ويتراءون للمتتبع من بعيد واحدا بعد واحد شيوخا جللهم وقار الشيب، ثم جللهم السيف الذي لا يرحم، أو فتيانا عوجلوا وهم في نضرة العمر يحال بينهم وبين متاع الحياة، بل يحال بينهم أحيانا وبين الزاد والماء، وهم على حياض المنية جياع ظماء ... وأوشك الألم لمصرعهم أن يصبغ ظواهر الكون بصبغتهم وصبغة دمائهم، حتى قال شاعر فيلسوف كأبي العلاء لا يظن به التشيع، بل ظنت بإسلامه الظنون:
وعلى الأفق من دماء الشهيد
ين علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
ن، وفي أولياته شفقان
وهذه غاية من امتزاج العاطفة بتلك السيرة قلما تبلغها في سير الشهداء غاية، وكثيرا ما تتعطش إليها سرائر الأمم في قصص الفداء التي عمرت بها تواريخ الأديان ...
وفي سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالخيال، حيث تحلق الشاعرية الإنسانية في الأجواء أو تغوص في الأغوار، فهو الشجاع الذي نزعت به الشاعرية الإنسانية منزع الحقيقة ومنزع التخيل، واشترك في تعظيمه شهود العيان وعشاق الأعاجيب ... ألم يحارب المردة في فلواتها؟ ... ألم يخلق له الرواة أندادا من المناجزين والمبارزين لم يخلقهم الله؟ ... ألم يستصغر عليه المحبون الغالبون في الحب أن يصرع من عرفنا من خصومه، فأنشئوا له من الخصوم المغلوبين من لم يعرفهم ولم يعرفوه؟ ... ألم يوشك من وصفوه ووصفوا وقعاته وفتكاته أن يلحقوه بأبطال الأساطير، وهو هو أصدق الأبطال في أصدق مجال.
وتلتقي سيرته - عليه رضوان الله - بالفكر كما تلتقي بالخيال والعاطفة؛ لأنه صاحب آراء في التصوف والشريعة والأخلاق سبقت جميع الآراء في الثقافة الإسلامية؛ ولأنه أحجى الخلفاء الراشدين أن يعد من أصحاب المذاهب الحكيمة بين حكماء العصور؛ ولأنه أوتي من الذكاء ما هو أشبه بذكاء الباحثين المنقبين منه بذكاء الساسة المتغلبين، فهو الذكاء الذي تحسه في الفكرة والخاطرة قبل أن تحسه في نتيجة العمل ومجرى الأمور ...
وللذوق الأدبي - أو الذوق الفني - ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة؛ لأنه - رضوان الله عليه - كان أديبا بليغا له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون، وإن تطاولت بينه وبينهم السنون، فهو الحكيم الأديب، والخطيب المبين، والمنشئ الذي يتصل إنشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناثرين والناظمين ...
Página desconocida
وللنفس الإنسانية نواحيها الكثيرة غير نواحي العطف والتخيل والتفكير، وتذوق الحسن الجميل من التعبير.
فمن نواحيها الكثيرة ناحية لم تنقطع قط في زمن من الأزمان، وهي ناحية الخلاف بين الطبائع والأذهان، أو ناحية الخصومة الناشبة أبدا على رأي من الآراء، أو حق من الحقوق، أو وطن من الأوطان.
فقد يفتر العقل والذوق بعض حين، وقد يفتر الخيال والعاطفة بعض حين، ولكن الذي لم يفتر قط ولا نخاله يفتر في حين من الأحايين خصام العقول، وجدل الألسنة واختلاف المختلفين، وتشيع المتشيعين.
وإن ها هنا للمجال الرغيب والملتقى القريب في سيرة هذا الإمام الأوحد، التي لا تشبهها سيرة في هذه الخاصة بين شتى الخواص، وهو - رضوان الله عليه - قد قال في ذلك أوجز مقال حين قال: «ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي، ويبغضني أقوام حتى يدخلوا النار في بغضي» ... أو حين قال: «يهلك في رجلان: محب مفرط بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني.»
وصدق الإمام الكريم في غلو الطرفين من محبيه ومن مبغضيه، فقد بلغ من حب بعضهم إياه أن رفعوه إلى مرتبة الآلهة المعبودين، وبلغ من كراهة بعضهم إياه أن حكموا عليه بالمروق من الدين: هنا الروافض الغلاة يعبدونه وينهاهم عن عبادته فلا يطيعونه ... ويستتيبهم فيصرون على الكفر أي إصرار، ويأمر بإحراقهم فيقولون وهم يساقون إلى الحفيرة الموقدة: إنه الله وإنه هو الذي يعذب بالنار! ...
وهناك الخوارج الغلاة يعلنون كفره ويطلبون منه التوبة إلى الله عن عصيانه ... ويسبونه على المنابر كما سبه خصومه الأمويون، الذين خالفوهم في العقيدة ووافقوهم على السباب ...
ميدان من ميادين الملاحاة لم يتسع قط ميدان متسعه في تواريخ الأبطال المعرضين للحب والبغضاء: يقول أناس: إله، ويقول أناس: كافر مطرود من رحمة الله! ...
وناحية أخرى من نواحي النفس الكثيرة تلاقيها سيرة الإمام في أكثر من طريق: وتلك هي ناحية الشكوى والتمرد، أو ناحية الشوق إلى التجديد والإصلاح ...
فقد أصبح اسم علي علما يلتف به كل مغصوب، وصيحة ينادي بها كل طالب إنصاف، وقامت باسمه الدول بعد موته؛ لأنه لم تقم له دولة في حياته، وجعل الغاضبون على كل مجتمع باغ وكل حكومة جائرة، يلوذون بالدعوة العلوية كأنها الدعوة المرادفة لكلمة الإصلاح، أو كأنها المنفس الذي يستروح إليه كل مكظوم ... فمن نازع في رأي ففي اسم علي شفاء لنوازع نفسه، ومن ثار على ضيم ففي اسم علي حافز لثورته ومرضاة لغضبه، ومن واجه التاريخ العربي بالعقل أو بالذوق أو بالخيال أو بالعاطفة، فهناك ملتقى بينه وبين علي في وجه من وجوهه، وعلى حالة من حالاته، وتلك هي المزية التي انفرد بها تاريخ الإمام بين تواريخ الأئمة الخلفاء، فأصبحت بينه وبين قلوب الناس وشائج تخلقها الطبيعة الآدمية إن قصر في خلقها التاريخ والمؤرخون.
وكل ملتقى من هذه الملتقيات يدع الكاتب في حذر ما بعده حذر؛ لأن اشتباك العوامل النفسية يزيد صعوبة الباحث عن نفس من النفوس، ولا ينقصها أو يئول بها إلى البساطة والوضوح، وكلما قلت هذه العوامل، وانحصرت في ناحية من النواحي سهل الخلوص إلى مقطع الحق فيها. فالبطل الذي يلتقي بالفكر وحده أسهل من البطل الذي يلتقي بالفكر والعاطفة، وإن هذا لأسهل من الذي يلتقي بالفكر والعاطفة والخيال، وكل أولئك أسهل ممن يلتقي في ألف سنة متوالية بدخائل النفوس جميعا من طموح إلى المثل الأعلى، أو حرص على الملاحاة، أو شغف بالبلاغة أو رياضة على التقوى، مزيدا على الخيال والشعور والتفكير.
Página desconocida
لهذا نعلم غير مترددين في علمنا أن واجبنا في «عبقرية الإمام» مرسوم الغاية والطريق، وهو واجب التبسيط والقصد إلى الخطة الوسطى، وفي علمنا بهذا بعض التيسير، وإن لم يكن فيه كل التيسير ... نرجع «بعبقرية الإمام» إلى الحقيقة الوسطى.
نرجع من عشرين طريقا إلى بداية واحدة؛ لأن الطريق الواحدة لا تؤدي إليها أقرب أداء، وحسبنا أننا عرفنا ضرورة الرجوع من كل هذه الطرق إلى تلك البداية المقصودة فعلى بركة الله ...
عباس محمود العقاد
صفاته
المشهور عن علي - كرم الله وجهه - أنه كان أول هاشمي من أبوين هاشميين ... فاجتمعت له خلاصة الصفات التي اشتهرت بها هذه الأسرة الكريمة، وتقاربت سماتها وملامحها في كثير من أعلامها المقدمين، وهي في جملتها: النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء، عدا المأثور في سماتها الجسدية التي تلاقت أو تقاربت في عدة من أولئك الأعلام.
فهو ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
وقيل: إن اسمه الذي اختارته له أمه: حيدرة باسم أبيها أسد، والحيدرة هو الأسد ... ثم غيره أبوه فسماه عليا وبه عرف واشتهر بعد ذلك ...
وكان علي أصغر أبناء أبويه، وأكبر منه جعفر وعقيل وطالب، وبين كل منهم وأخيه عشر سنين.
قيل: إن عقيلا كان أحب هؤلاء الإخوة إلى أبيه، فلما أصاب القحط قريشا وأهاب رسول الله - عليه السلام - بعميه حمزة والعباس أن يحملوا ثقل أبي طالب في تلك الأزمة جاءوه، وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم، فأخذ العباس طالبا، وأخذ حمزة جعفر، وأخذ النبي - عليه السلام - عليا كما هو مشهور، فعوضه إيثار النبي بالحب عن إيثار أبيه، ولكنه عرف هذا الإيثار في طفولته الأولى، فكان سابقة باقية الأثر في نفسه على ما يبدو من أطوار حياته التالية، وجاءت لهذه السابقة لواحقها الكثيرة على توقع واستعداد، فتعود أن يفوته الحق والتفضيل وهو يدرج في صباه.
وربما صح من أوصاف علي في طفولته أنه كان طفلا مبكر النماء سابقا لأنداده في الفهم والقدرة؛ لأنه أدرك في السادسة أو السابعة من عمره شيئا من الدعوة النبوية التي يدق فهمها، والتنبه لها على من كان في مثل هذه السن المبكرة، فكانت له مزايا التبكير في النماء كما كانت له أعباؤه ومتاعبه التي تلازم أكثر المبكرين، ولا سيما المولودين منهم في شيخوخة الآباء ...
Página desconocida
ونشأ - رضي الله عنه - رجلا مكين البنيان في الشباب والكهولة، حافظا لتكوينه المكين حتى ناهز الستين ...
قال واصفوه وهو في تمام الرجولة: إنه كان - رضي الله عنه - ربعة أميل إلى القصر، آدم - أي: أسمر - شديد الأدمة، أصلع مبيض الرأس واللحية طويلها، ثقيل العينين في دعج وسعة، حسن الوجه، واضح البشاشة، أغيد كأنما عنقه إبريق فضة، عريض المنكبين لهما مشاش كمشاش
1
السبع الضاري لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا، وكان أبجر - أي: كبير البطن - يميل إلى السمنة في غير إفراط، ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها، ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها، شثن الكفين، يتكفأ في مشيته على نحو يقارب مشية النبي، ويقدم في الحرب فيقدم مهرولا لا يلوي على شيء.
وتدل أخباره - كما تدل صفاته - على قوة جسدية بالغة في المكانة والصلابة على العوارض والآفات، فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد ولا حافل، ويمسك بذراع الرجل فكأنه أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفس، واشتهر عنه أنه لم يصارع أحدا إلا صرعه، ولم يبارز أحدا إلا قتله، وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه إلا رجال، ويحمل الباب الكبير يعيي بقلبه الأشداء، ويصيح الصيحة فتنخلع لها قلوب الشجعان.
ومن مكانة تركيبه - رضي الله عنه - أنه كان لا يبالي الحر والبرد، ولا يحفل الطوارئ الجوية في صيف ولا شتاء، فكان يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف، وسئل في ذلك فقال: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر، فقلت: يا رسول الله، إني أرمد العين، فقال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد، فما وجدت حرا ولا بردا منذ يومئذ ...» •••
ولا يفهم من هذا أنه - رضوان الله عليه - كان معدوم الحس بالحر والبرد بالغا ما بلغت بهما القساوة والإيذاء، فقد كان يرعد للبرد إذا اشتد ولم يتخذ له عدة من دثار يقيه، قال هارون بن عنترة عن أبيه: دخلت على علي بالخورنق - وهو فصل شتاء - وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ ... فقال: والله ما أرزؤكم شيئا، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.
فليس هو انعدام حس بالصيف والشتاء، إنما هي مناعة قوية خصت بها بنيته، لم يخص بها معظم الناس.
Página desconocida
وكان إلى قوته البالغة، شجاعا لا ينهض له أحد في ميدان مناجزة، فكان لجرأته على الموت لا يهاب قرنا من الأقران بالغا ما بلغ من الصولة ورهبة الصيت، واجترأ وهو فتى ناشئ على عمرو بن ود فارس الجزيرة العربية، الذي كان يقوم بألف رجل عند أصحابه وعند أعدائه، وكانت وقعة الخندق فخرج عمرو مقنعا في الحديد ينادي جيش المسلمين: من يبارز ... فصاح علي: أنا له يا نبي الله ... قال النبي وبه إشفاق عليه: إنه عمرو، اجلس، ثم عاد عمرو ينادي: ألا رجل يبرز؟ ... وجعل يؤنبهم قائلا: أين جنتكم التي زعمتم أنكم داخلوها إن قتلتم؟ ... أفلا تبرزون إلي رجلا؟ ... فقام علي مرة بعد مرة وهو يقول: أنا له يا رسول الله، ورسول الله يقول له مرة بعد مرة: اجلس، إنه عمرو، وهو يجيبه: وإن كان عمرا ... حتى أذن له فمشى إليه فرحا بهذا الإذن الممنوع كأنه الإذن بالخلاص ... ثم نظر إليه عمرو فاستصغره وأنف أن يناجزه وأقبل يسأله: من أنت؟ ... قال ولم يزد: أنا علي، قال : ابن عبد مناف؟ ... قال: ابن أبي طالب، فأقبل عمرو عليه يقول: يا ابن أخي ... من أعمامك من هو أسن، وإني أكره أن أهريق دمك، فقال له علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب عمرو وأهوى إليه بسيف كان كما قال واصفوه كأنه شعلة نار، واستقبل علي الضربة بدرقته فقدها السيف وأصاب رأسه، ثم ضربه علي على حبل عائقه فسقط ونهض، وسقط ونهض، وثار الغبار، فما انجلى إلا عن عمرو صريعا وعلي يجأر بالتكبير.
وكأنما كانت شجاعته هذه القضاء الحتم الذي لا يؤسى على مصابه؛ لأنه أحجى المصائب، وأقلها معابة ألا يدفع، فكانت أخت عمرو بن ود تقول على سبيل التأسي بعد موته:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
بكيته أبدا ما دمت في الأبد
لكن قاتله من لا نظير له
وكان يدعى أبوه بيضة البلد
فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يشرف بها من يصيب بها ومن يصاب ...
ويزيدها تشريفا أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء ... فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهدة رأي، وهي التورع عن البغي، والمروءة مع الخصم قويا أو ضعيفا على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال.
فمن تورعه عن البغي، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة، أنه لم يبدأ أحدا قط بقتال وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: «لا تدعون إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع» ...
وعلم أن جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه، وقيل له: إنهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: «لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون ...!»
Página desconocida
وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صفين، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت ووضح فيها عداء العدو أو غمض: يدعوهم إلى السلم وينهى رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بالسيف قط إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.
كان يعظ قوما فبهرت عظته بعض الخوارج الذين يكفرونه، فصاح معجبا إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا إعجابه: قاتله الله كافرا ما أفقهه ... فوثب أتباعه ليقتلوه، فنهاهم عنه، وهو يقول: إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب.
وقد رأينا أنه كان يقول لعمرو بن ود: إني لا أكره أن أهريق دمك ... ولكنه على هذا لم يرغب في إهراق دمه إلا بعد يأس من إسلامه ومن تركه حرب المسلمين ... فعرض عليه أن يكف عن القتال فأنف، وقال: إذن تتحدث العرب بفراري، وناشده: يا عمرو، إنك كنت تعاهد قومك ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما، قال: أجل، قال: فإني أدعوك إلى الإسلام أو إلى النزال، قال: ولم يا ابن أخي؟ ... فوالله ما أحب أن أقتلك ... فلم يكن له بد بعد ذلك من إحدى اثنتين: أن يقتله أو يقتل على يديه.
وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد في العداء لم يكن ينازلهم، ولا يأخذ من ثاراته وثارات أصحابه عندهم إلا بمقدار ما استحقوه في موقف الساعة: فاتفق في يوم صفين أن خرج من أصحاب معاوية رجل يسمى كريز بن الصباح الحميري، فصاح بين الصفين: من يبارز؟ ... فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله ووقف عليه ونادى: من يبارز؟ فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الأول، ثم نادى: من يبارز؟ ... فخرج إليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبه، ثم نادى رابعة: من يبارز؟ ... فأحجم الناس ورجع من كان في الصف الأول إلى الصف الذي يليه، وخاف علي أن يشيع الرعب بين صفوفه، فخرج إلى ذلك الرجل المدل بشجاعته وبأسه فصرعه، ثم نادى نداءه حتى أتم ثلاثة صنع بهم صنيعه بأصحابه، ثم قال مسمعا الصفوف: يا أيها الناس، إن الله - عز وجل - يقول:
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ، ولو لم تبدءونا ما بدأناكم ... ثم رجع إلى مكانه.
أما مروءته في هذا الباب فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان، فأبى على جنده وهم ناقمون أن يقتلوا مدبرا أو يجهزوا على جريح أو يكشفوا سترا أو يأخذوا مالا، وصلى في وقعة الجمل على القتلى من أصحابه ومن أعدائه على السواء، وظفر بعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وهم ألد أعدائه المؤلبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيش ذي عدة، فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاء لضربته ... وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفين، وهم يقولون له: ولا قطرة حتى تموت عطشا ... فلما حمل عليهم وأجلاهم عنه سوغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل، فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها شيئا، ثم خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يرد عليها، قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين، أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ ... فانتهره وهو يقول: ويحك؟ ... إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهم مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟ ... وإنه لفي طريقه إذ أخبره بعض أتباعه عن رجلين ينالان من عائشة، فأمر بجلدهما مائة جلدة، ثم ودع السيدة عائشة أكرم وداع وسار في ركابها أميالا، وأرسل معها من يخدمها ويحف بها، قيل: إنه أرسل معها عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم، وقلدهن السيوف ... فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي ... فلما وصلت إلى المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.
وكانت هذه المروءة سنته مع خصومه، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها، ومن كان في حرمة عائشة - رضي الله عنها - ومن لم تكن له قط حرمة، وهي أندر مروءة عرفت من مقاتل في وغر القتال ...
وتعدلها في النبل والندرة سلامة صدره من الضغن على أعدى الناس له، وأضرهم به وأشهرهم بالضغن عليه، فنهى أهله وصحبه أن يمثلوا بقاتله وأن يقتلوا أحدا غيره، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه رثاء محزون يفيض كلامه بالألم والمودة، وأوصى أتباعه ألا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا صفوفه، وأفسدوا عليه أمره وكانوا شرا عليه من معاوية وجنده؛ لأنه رآهم مخلصين وإن كانوا مخطئين وعلى خطئهم مصرين ... •••
وتقترن بالشجاعة - ولا سيما شجاعة الفرسان المقاتلين بأيديهم - صفة لازمة لها متممة لعملها قلما تنفصل عنها، وكأنها والشجاعة أشبه شيء بالنضح للماء، أو بالإشعاع للنور، فلا تكون شجاعة الفروسية إلا كانت معها تلك الصفة التي نشير إليها، وهي صفة «الثقة» أو «الاعتزاز» أو الادراع بالهيبة والتهويل على الخصوم، ولا سيما في مواقف النزال.
وقد يسميها بعض الناس زهوا وليست هي به ولا هي من معدنه وسمته، وإن شابهته في بعض الملامح والألوان.
Página desconocida
فالزهو المذموم فضول لا لزوم له ولا خير فيه، وهو لون خادع قد يوجد مع الضعف كما يوجد مع القوة، وقد يبدو على الجبان كما يبدو على الشجاع ...
أما هذا الاعتزاز الذي نشير إليه، أو هذه الثقة التي تظهر لنا في صورة الاعتزاز، فهي جزء من شجاعة الفارس المقاتل لا يستغني عنه ولا يزال متصلا بعمله في مواجهة خصومه، وهو عرض للقوة يساعد الفارس في إرهاب عدوه وإضعاف عزيمة من يتصدى لحربه ... مثله هنا كمثل العروض التي تعمد إليها الجيوش لإعلان بأسها، وتخويف الأعداء من الاستخفاف بها والهجوم عليها، فهو كالشجاعة أداة ضرورية من أدوات القتال لا تنفصل عنها، وليس كل ما فيها ضربا من الخيلاء يرضي به الشجاع غروره، ويتيه به في عير حاجة إلى التيه.
ولهذا تحمس الناس للفخر العسكري من قديم الزمن وعهدوه وتحدثوا به وتناقلوه، فسمحوا للفارس - بل لعلهم أوجبوا عليه - أن يروغ من خصمه بالفخر المرعب إذ يتقدم لنزاله، وأن يلاقيه وهو ينشد الأشعار في ذكر وقعاته والتهويل بضرباته والإشادة بغزواته، وعلموا أنهم - وقد احتاجوا إلى شجاعته - محتاجون كذلك إلى فخره وحماسته، وإيقاع الرعب في جنان قرنه، فشاعت قصائد الفخر والحماسة كما شاعت قصائد الحب والمناجاة، وهي أحب القصائد إلى القلوب. •••
ومن تأصل هذه العادة في الطبائع أنها تشاهد في جميع الأحياء فطرة وارتجالا بغير اصطناع ولا تعمد، فلا نرى حيا من الأحياء الناطقة أو العجماء ينازل قرنا له إلا حاول ما استطاع أن يهوله بتكبير حجمه، واستطالة قدره واتمار نظره وتنفيش ريشه أو شعره، ويقف الإنسان مثل هذا الموقف فيطيل قامته، ويبرز صدره ويدق بيده عليه ويقول بلسان حاله ما يقال باللسان، فإذا هو الفخر والحماسة وإذا هو عنوان الثقة والإقدام ...
هذه الصفة لازمة لفرسان الميدان، ولا سيما فرسان العصور الأولى الذين يقفون للقتال وجها لوجه، وينظر أحدهم إلى قرنه وهو يهجم عليه.
وكانت هذه الصفة من صفات علي - رضي الله عنه - يفهمها من يريد أن يفهم ولا يضيق صدرا بفضله، وينكرها من ينفس عليه فيسميها الزهو أو يسميها الجفوة والخيلاء، قال له قيس بن سعد بعد عزله من ولاية مصر: إنك والله ما علمت لتنظر الخيلاء ... ومر الزبير بن العوام مع رسول الله في بني غنيم، فرأى رسول الله عليا على مقربة منه فضحك له وضحك علي يحييه، فقال الزبير: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، قال رسول الله: إنه ليس به زهو، ولتقاتلنه وأنت له ظالم ...
فليس هو بالزهو المكروه، ولكنها الشجاعة التي يمتلئ بها الشجاع والثقة التي تتراءى مكشوفة في صراحتها واستقامتها؛ لأن صاحبها لم يتكلف مداراتها ولم يحس أنه يحتاج إلى مداراتها؛ ولأنه لا يقصدها ولا يتعمد إبداءها ... •••
وقد كان مدار هذا الخلق في ابن أبي طالب على ثقة أصيلة فيه لم تفارقه منذ حبا ودرج، وقبل أن يبلغ مبلغ الرجال، فما منعته الطفولة الباكرة يوما أن يعلم أنه شيء في هذه الدنيا، وأنه قوة لها جوار يركن إليه المستجير، ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبي - عليه السلام - ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينه في وجوههم، ويسأل عن النصير ولا نصير ... لو كان بعلي أن يرتاع في مقام نجدة أو مقام عزيمة لارتاع يومئذ بين أولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة، ورفعتهم آداب القبيلة البدوية إلى مقام الخشية والخشوع، ولكنه كان عليا في تلك السن الباكرة كما كان عليا وهو في الخمسين أو الستين ... فما تردد وهم صامتون مستهزئون أن يصيح صيحة الواثق الغضوب: أنا نصيرك ... فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار، وعلم القدر وحده في تلك اللحظة أن تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القروم ...
علي هذا هو الذي نام في فراش النبي ليلة الهجرة، وقد علم ما تأتمر به مكة كلها من قتل الراقد على ذلك الفراش.
وعلي هذا هو الذي تصدى لعمرو بن ود مرة بعد مرة، والنبي يجلسه ويحذره العاقبة التي حذرها فرسان العرب من غير تحذير، يقول النبي: اجلس، إنه عمرو، فيقول: وإن كان عمرا ... كأنه لا يعرف من يخاف ولا يعرف كيف يخاف، ولا يعرف إلا الشجاعة التي هو ممتلئ بها واثق فيها في غير كلفة ولا اكتراث.
Página desconocida
وتمكنت هذه الثقة فيه لطول مراس الفروسية، التي هي كما أسلفنا جزء منها وأداة من أدواتها.
وزادها تمكينا حسد الحاسدين ولجاجة المنكرين، وكلاهما خليق أن يعتصم المرء منه بثقة لا تنخذل، وأنفة لا تلين، فمن شواهد هذه الثقة بنفسه أنه حملها من ميدان الشجاعة إلى ميدان العلم والرأي حين كان يقول: «اسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها.»
ومن شواهدها أنه كان يقول والخارجون عليه يرجمونه بالمروق: «ما أعرف أحدا من هذه الأمة عبد الله بعد نبينا غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين.»
وزاده اتهام من حوله معتصما بالثقة بنفسه، فلما عتب عليه خصماه طلحة والزبير أنه ترك مشورتهما قال: «نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي
صلى الله عليه وسلم
فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما ...»
وأبدى هذه الخليقة منه أنه كان - رضي الله عنه - لا يتكلف ولا يحتال على أن يتألف، بل كان يقول: «شر الإخوان من تكلف له.» ويقول: «إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه.» فكان الذين ينتظرون منه الاصطناع والإرضاء يخطئون ما انتظروه، ولا سيما إذا هم انتظروه من أرزاق رعاياه وحقوقهم التي اؤتمن إليها، فيحسبون أنها الجفوة البينة وأنه الزهو المقصود وما هو بهذا ولا بتلك ... إنما هي شجاعة الفارس بلوازمها التي لا تنفصل منها، وإنما هو امتعاض المغموط المسيء ظنا بمن حوله يتراءى على سجيته في غير مداراة ولا رياء، فما كان يتكلف إظهار تلك الخلائق زهوا كما يسمونه أو جفوة كما يحسبونها، بل كان قصاراه ألا يتكلف الإخفاء، فإذا التفت قاصدا إلى ما في نفسه فهو لا يقصد العجب ولا يرضاه، بل ينهى عنه ويشتد في اجتنابه، ويوصي من أحب: «إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها» ... «واعلم أن الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب.»
نعم كان ملاك الأمر في أخلاق علي - عليه السلام - أنه كان لا يتكلف إظهار شيء، ولا يتكلف إخفاء شيء، ولا يقبل التكلف حتى من مادحيه، فربما أفرط الرجل في الثناء عليه وهو متهم عنده فلا يدعه حتى يعلن له طويته، ويقول له: «أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك.» •••
وكانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقته الكبرى من الشجاعة والبأس والامتلاء بالثقة والمنعة، وكانت تسلك معه مسلك الحقيقة والمجاز على السواء، كأنه يعني ما يصنع وهو لا يعنيه، وإنما يجيء منه على البديهة كما تجيء الأشياء من معادنها: كان مثلا يخرج إلى مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنعون بالحديد، أفعجيب منه أن يخرج إليهم حاسر النفس وهم مقنعون بالحيلة والرياء؟ ... وكان يغفل الخضاب أحيانا ويرسل الشيب ناصعا، وهو لا يحرم خضابه في غير ذلك من الأحيان، أفعجيب منه - مع هذا - أن يقل اكتراثه لكل خضاب ساترا ما ستر، أو كاشفا ما كشف، من رأي وخليقة؟
بل كانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقة أخرى كالشجاعة في قوتها ورسوخها ... أو هي قريبة للشجاعة في نفس الفارس النبيل وقلما تفارقها، ونعني بها خليقة الصدق الصراح الذي يجترئ به الرجل على الضر والبلاء، كما يجترئ به على المنفعة والنعماء، فما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، ولعله كان أحوج إلى المصانعة بين النصراء مما كان بين الأعداء؛ لأنهم أرهقوه باللجاجة وأعنتوه بالخلاف، فما عدا معهم قول الصدق في شدة ولا رخاء، حتى قال فيه أقرب الناس إليه: إنه رجل يعرف من الحرب شجاعتها، ولكنه لا يعرف خدعتها، وكان أبدا عند قوله: «علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك» ... •••
Página desconocida
وصدق في تقواه وإيمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه، فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة دنيا أو سيب دولة، وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير، فيقول: «لا أحب أن يدخل بطني ما لا أعلم» ... قال عمر بن عبد العزيز وهو من أسرة أمية التي تبغض عليا، وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات: «أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.» وقال سفيان: «إن عليا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة.» وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثارا للخصاص التي يسكنها الفقراء، وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام، وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: «دخلت على علي - عليه السلام - فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا - وأشار إلى ثيابه - فإن لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به» ...
وعلى هذا الزهد الشديد كان علي - رضي الله عنه - أبعد الناس من كزازة طبع وضيق حظيرة وجفاء عشيرة، بل كانت فيه سماحة يتبسط فيها حتى يقال دعابة، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال له: «لله أبوك لولا دعابة فيك.» وأنه قال لمن سألوه في الاستخلاف: «ما أظن إلا أن يلي أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على الطريق.» •••
وأغرق ابن العاص في وصف الدعابة فسماها «دعابة شديدة»، وطفق يرددها بين أهل الشام ليقدح بها في صلاح الإمام للخلافة، وإنما نقول: إن ابن العاص أغرق في هذا الوصف، وإن الدعابة المعيبة لم تكن قط من صفاته؛ لأن تاريخ علي وأقواله ونوادره مع صحبه وأعدائه محفوظة لدينا، لا نرى فيها دليلا على خلق الدعابة فضلا عن الدليل على الإفراط فيه ... فإن كان لهذا الوصف أثر أجاز لعمر بن الخطاب أن يذكره، فربما كان مرجع ذلك أن عليا خلا من الشغل الشاغل سنين عدة، فأعفاه الشغل الشاغل من صرامته، وأسلمه حينا إلى سماحته وأحاديث صحبه ومريديه، فحسبت هذه الدعة من الدعابة البريئة ثم بالغ فيها المبالغون، ولم يثبتوها بقصة واحدة أو شاردة واحدة تجيز لهم ما تقولوه.
وقد كانت للإمام صفات ومزايا فكرية تناصي المشهور المتفق عليه من صفاته النفسية ومزاياه الخلقية، فاتفق خصومه وأنصاره على بلاغته، واتفقوا على علمه وفطنته، وتفرقوا فيما عدا ذلك من رأيه في علاج الأمور ودهائه في سياسة الرجال.
والحق الذي لا مراء فيه أنه كان على نصيب من الفطنة النافذة لا ينكره منصف، وأنه أشار على عمر وعثمان أحسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء، وأنه أشبه الخلفاء بالباحثين والمنقبين أصحاب الحكمة ومذاهب التفكير، وعنه أخذ الحكماء الذين شرعوا علم الكلام قبل أن يتطرق إليه علم فارس أو علم يونان ... وكان يفهم أخلاق الناس فهم العالم المراقب لخفايا الصدور، ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الأديب اللبيب ...
إلى هنا متفق عليه لا يكثر فيه الخلاف، ثم يفترق الناس في رأيه رأيين وإن لم يكونوا من الشانئين المتحزبين، فيقول أناس: إنه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة، ولا ينتفع بما يراه. ويقول أناس: بل هو الاضطرار والتحرج يقيدانه ولا يقيدان أعداءه وإنهم لدونه في الفطنة والسداد. وهو - رضي الله عنه - قد اعتذر لنفسه بمشابه من هذا العذر حين قال: «والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس» ... •••
أما مقطع الرأي بين الرأيين فنرجو أن نفصله في مواضعه من الفصول التالية مشفوعا بمناسباته، ولكننا نستطيع أن نجزم هنا بحقيقتين تجملان ما نبسطه في مواضعه من الكتاب، ولا نحسبهما تتسعان لجدل طويل، وهما أن أحدا لم يثبت قط أن العمل بالآراء الأخرى كان أجدى وأنجع في فض المشكلات من العمل برأي الإمام، وأن أحدا لم يثبت قط أن خصوم الإمام كانوا يصرفون الأمور خيرا من تصريفه، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه، وكلتا الحقيقتين حرية أن تضبط لسان الميزان قبل أن يميل، فيغلو به الميل هنا أو هناك.
هذه صفات تنتظم في نسق موصول: رجل شجاع لأنه قوي، وصادق لأنه شجاع؛ وزاهد مستقيم لأنه صادق، ومثار للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أن الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المثلى، فلم يختلفوا على شيء منها إلا الذي اصطدم بالمطامع، وتفرقت حوله الشبهات، وما من رجل تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه إلى صميم.
مفتاح شخصيته
«آداب الفروسية» هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة، الذي يفض منها كل مغلق ويفسر منها كل ما احتاج إلى تفسير.
Página desconocida
وآداب الفروسية هي تلك الآداب التي نلخصها في كلمة واحدة وهي: النخوة ...
وقد كانت النخوة طبعا في علي فطر عليه، وأدبا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات «الفروسية» العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الأقران، وإن لم يطبع عليها، وينشأ في حجرها؛ لأن للغلبة في الشجاع أنفة تأبى عليه أن يسف إلى ما يخجله ويشينه، ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلما، وتمنعه أن يعمل في السر ما يزري به في العلانية.
وهكذا كان علي - رضي الله عنه - في جميع أحواله وأعماله: بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء، فلم ينس الشرف قط ليغتنم الفرصة، ولم يساوره الريب قط في الشرف، والحق أنهما قائمان دائمان كأنهما مودعان في طبائع الأشياء، فإذا صنع ما وجب عليه فلينس من شاءوا ما وجب عليهم، وإن أفادوا كثيرا وباء هو بالخسار.
أصاب المقتل من عدوه مرات فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يديه؛ لأنه أراد أن يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف، ولم يرد أن يغلبه أو يقتص منه كيفما كان سبيل الغلب والقصاص ...
قال بعض من شهدوا معركة صفين: «لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين، وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا، وأخذوا الشريعة - أي: مورد الماء - فهي في أيديهم ... وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين فخبرناه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان، فقال له: ائت معاوية، وقل له إنا سرنا مسيرنا هذا إليكم ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدمت إلينا خيلك ورجلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها إذ حلتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء، ويكفوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له ...»
ثم قال راوي الخبر ما معناه: إن معاوية سأل أصحابه، فأشاروا عليه أن يحول بين علي وبين المورد غير حافل بدعوته إلى السلم، ولا بدعوته إلى المفاوضة في أمر الخلاف، فأنفذ معاوية مددا إلى حراس المورد يحمونه ويصدون من يقترب منه، ثم كان بين العسكرين تراشق بالنبل، فطعن بالرماح، فضرب بالسيوف حتى اقتحم أصحاب علي طريق الماء وملكوه.
وهنا الفرصة الكبرى لو شاء علي أن يهتبلها، وأن يغلب أعداءه بالظمأ كما أرادوا أن يغلبوه به قبيل ساعة ... وقد جاء أصحابه يقولون: والله لا نسقيهموه، فكأنما كان هو سفير معاوية وجنده إليهم يتشفع لهم، ويستلين قلوبهم من أجلهم، وصاح بهم: «خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم، فإن الله - عز وجل - قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم.»
ولاحت له فرصة قبل هذه الفرصة في حرب أهل البصرة، فأبى أن يهتبلها وأغضب أعوانه إنصافا لأعدائه؛ لأنه نهاهم أن يسلبوا المال ويستبيحوا السبي وهو في رأيهم حلال. قالوا: أتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ ... فقال: «إنما القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر.» وسن لهم سنة الفروسية أو سنة النخوة حين أوصاهم ألا يقتلوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يكشفوا سترا، ولا يمدوا يدا إلى مال.
ومن الفرص التي أبت عليه النخوة أن يهتبلها فرصة عمرو بن العاص، وهو ملقى على الأرض مكشوف السوأة لا يبالي أن يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء، فصدف بوجهه عنه آنفا أن يصرع رجلا يخاف الموت هذه المخافة التي لا يرضاها من منازله في مجال صراع، ولو غير علي أتيح له أن يقضي على عمرو لعلم أنه قاض على جرثومة عداء ودهاء، فلم يبال أن يصيبه حيث ظفر به، ولا جناح عليه. •••
لقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضا الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها.
Página desconocida
فكان يعرف العدو عدوا حيثما رفع السيف لقتاله ... ولكنه لا يعادي امرأة ولا رجلا موليا، ولا جريحا عاجزا عن نضال، ولا ميتا ذهبت حياته ولو ذهبت في سبيل حربه ... بل لعله يذكر له ماضيه يومئذ، فيقف على قبره ليبكيه ويرثيه ويصلي عليه.
وهذه الفروسية هي التي بغضت إليه أن ينال أعداءه بالسباب، وليس من دأب الفارس أن ينال أعداءه بغير الحسام.
فلما سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حروبهم بصفين، قال لهم: «إني أكره أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به.»
وربما شذ عن سنته هذه في بعض الأحايين، فإذا به لا يشذ عنها إلا كما يشذ الفرسان حين تغلبهم بوادر اللسان ... فندر بين رجال السيف من يسمع الكلمة المغضبة، فلا ينطق لسانه بكلمة عوراء يجاري بها غضبه الذي طبع على إبدائه ولم يطبع على كتمانه.
ومن قبيل هذا كلمات قالها علي في ابن العاص وفي معاوية، وفي الأشعث بن قيس وغير هؤلاء، ولكنه لم يجعلها ديدنا له كما سبوه على المنابر، وأشاعوا مذمته بين أهل الأمصار.
شغب عليه الأشعث بن قيس ومرد عليه الجند، وأفشى بين أنصاره الفتنة وقاطعه مرة وهو يخطب على منبر الكوفة، فأغضبه وهاج غيظه فبدره بقوله: «عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين: حائك ابن حائك، منافق ابن كافر، والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك، وإن امرأ ولى على قومه السيف، وساق إليهم الحتف لحري أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد.» •••
وطفق ابن العاص ينعته بين أهل الشام بالهزل والدعابة، ويأمر بسبه على المنابر حتى وجب رده وإدحاض زعمه، فقال - رضي الله عنه - في بعض خطبه: عجبا لابن النابغة! ... يزعم لأهل الشام أن في دعابة وأني امرؤ تلعابة: أعانس وأمارس
1 ... لقد قال باطلا ونطق آثما، أما - وشر القول الكذب - إنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد ويقطع الإل،
2
فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك أكبر مكيدته أن يمنح القوم سبته، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، إنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه آتية، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة.
Página desconocida
3
وكذلك كان يجبه معاوية وغيره بنظائر هذه الكلمات حين يجترئون عليه بما يغض من حقه، ويقدح في دعوته، فلا يشذ عن ديدن الفرسان في روية فكره ولا في بوادر لسانه، ولكن الفلتات التي من هذا القبيل شيء، واتخاذ السباب صناعة دائمة وسلاحا مشهورا وسبيلا إلى القول الباطل شيء آخر ...
ولقد كانت للإمام - رضي الله عنه - شواغل أخرى غير الفروسية تجري في مجراها حينا، وتبدو غريبة عنها حينا آخر في عرف بعض الناقدين، ومنها التفقه والنزوع إلى «التصوف» واستنباط حقائق الأشياء. •••
فهذه في عرف بعض الناقدين ليست من مزاج الفروسية على ظاهر ما قدروه ... ولكن ما التصوف أو التجرد للحقيقة؟ ... أليس هو في معدنه جهادا في الحق أو جهادا في الله؟ ... أليست طبيعة الجهاد وطبيعة الفروسية من معدن واحد؟ ... ألم نعهد في كل ملة وكل زمان فئات من الناس يجاهدون؛ لأنهم متدينون متنطسون، أو يتدينون ويتنطسون؛ لأنهم مجاهدون؟ ...
فالإمام علي - رضي الله عنه - فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين، بل هو أحرى أن يسلكه فيها، ولا يخرجه من الفروسية بعض المقال في خصومه، بل هي بوادر الفرسان بعينها، ولا تزال آداب الفروسية بشتى عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هذه النفس، فإذا هو منكشف للناظر عما يليه.
إسلامه
ولد علي في داخل الكعبة، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنما كان ميلاده ثمة إيذانا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها.
وكاد علي أن يولد مسلما ...
بل لقد ولد مسلما على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح؛ لأنه فتح عينيه على الإسلام ولم يعرف قط عبادة الأصنام.
فهو تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الإسلامية، وعرف العبادة من صلاة النبي وزوجه الطاهرة قبل أن يعرفها من صلاة أبيه وأمه، وجمعت بينه وبين صاحب الدعوة قرابة مضاعفة ومحبة أوثق من محبة القرابة، فكان ابن عم محمد - عليه السلام - وربيبه الذي نشأ في بيته ونعم بعطفه وبره، وقد رأينا الغرباء يحبون محمدا ويؤثرونه على آبائهم وذويهم ، فلا جرم يحبه هذا الحب من يجمعه به جد، ويجمعه به بيت، ويجمعه به جميل معروف: جميل أبي طالب يؤديه محمد وجميل محمد يحسه ابن أبي طالب ويأوي إليه.
Página desconocida
واختلفوا في سنه حين إسلامه من السابعة إلى السادسة عشرة، ولعله أسلم في نحو العاشرة؛ لأنه كان يناهزها عند إعلان الدعوة المحمدية، وكان النبي - عليه السلام - يتعبد في بيته عبادة الإسلام قبل الدعوة بفترة غير قصيرة، وليس ما يمنع عليا أن يألف تلك العبادة في طفولته الباكرة، فإذا هو نفر منها، وأعرض عنها لغير سبب في تلك الطفولة الباكرة، فالعجيب أنه يعود إلى ألفتها والرضا بها بعد أن بلغ السن التي يعرف فيها معنى الغضب لعبادة الآباء والأجداد.
ولولا ألفة علي لابن عمه وكافله لما قربته القرابة وحدها من الدين الذي دعى إليه، فقد أصر كثير من أقرباء النبي على الشرك زمنا طويلا، منهم عقيل أخوه وأحب إخوته إلى أبيه، فحارب المسلمين في بدر ولم يسلم وقد وقع في أسر النبي وصحبه ... بل افتداه عمه العباس وخرج من الأسر وهو على دينه، ثم أسلم بعد صلح الحديبية مع طائفة من الغرباء والأقربين ... •••
على أن الألفة بين ابني العم الكريمين قد أوشكت أن تكون عائقا لإسلام علي في طفولته الباكرة ... لأن النبي - عليه السلام - أبى أن ينتزع الطفل من دين أبيه وأبوه لا يعلم، وأشفق أن يكون بره بعمه وبابن عمه سبيلا إلى التفرقة بين الأب وابنه وهو لا يدرك ما يفعل، ولم يشأ أن يعود الطفل الصغير أن يخفي سرا عن أبيه، كأنه يخدعه بإخفائه ولو في سبيل الهداية والخير، فظل هذا الحرج الكريم عائقا عسيرا أعسر ما فيه أنه عائق اختيار يهون معه الاضطرار، أو عائق حيرة تقل فيها حيلة الكريم ... حتى شاع أمر الدعوة المحمدية وعلم بها أبو طالب ونصر ابن أخيه، وأمر عليا بمتابعة ابن عمه ونصره، فأقبل الغلام البر بأبيه وبكافله إقبالا لا تلجلج فيه على الدين الجديد.
وملأ الدين الجديد قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة، ولم يخالطه شوب يكدر صفاءه، ويرجع به إلى عقابيله ... فبحق ما يقال: إن عليا كان المسلم الخالص على سجيته المثلى، وإن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاما منه ولا أعمق نفاذا فيه.
كان المسلم حق المسلم في عبادته، وفي علمه وعمله، وفي قلبه وعقله؛ حتى ليصح أن يقال: إنه طبع على الإسلام فلم تزده المعرفة إلا ما يزيده التعليم على الطباع ...
كان عابدا يشتهي العبادة كأنها رياضة تريحه، وليست أمرا مكتوبا عليه ... وكان يرى في كهولته وكأنما جبهته ثفنة بعير من إدمان السجود، وكان علي محجة في الإسلام لا يحيد عنها لبغية ولا لخشية، فكلما زينوا له الهوادة أبى «أن يداهن في دينه ويعطي الدنية في أمره»، وآثر الخير كما يراه على الخير كما يراه الناس ...
وكان دينه له ولعدوه، بل له ولعدو دينه، فما كان الحق عنده لمن يرضاه دون من يقلاه، ولكنه كان الحق لكل من استحقه وإن بهته وآذاه ... •••
وجد درعه عند رجل نصراني فأقبل به إلى شريح - قاضيه - يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه، وقال: إنها درعي ولم أبع ولم أهب، فسأل شريح النصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ ... قال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! ... فالتفح شريح إلى علي يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ ... فضحك علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة! ... فقضى بالدرع للنصراني فأخذها ومشى و«أمير المؤمنين» ينظر إليه ... إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء ... أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه يقضي عليه! ... أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين ... اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق. فقال: أما إذ أسلمت فهي لك، وشهد الناس بعد ذلك هذا الرجل وهو من أصدق الجند بلاء في قتال الخوارج يوم النهروان.
وأحسن الإسلام علما وفقها كما أحسنه عبادة وعملا، فكانت فتاواه مرجعا للخلفاء والصحابة في عهود أبي بكر وعمر وعثمان، وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له رأي فيها يؤخذ به، أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء ...
إلا أن المزية التي امتاز بها علي بين فقهاء الإسلام في عصره أنه جعل الدين موضوعا من موضوعات التفكير والتأمل، ولم يقصره على العبادة وإجراء الأحكام، فإذا عرف في عصره أناس فقهوا في الدين؛ ليصححوا عباداته، ويستنبطوا منه أقضيته وأحكامه، فقد امتاز علي بالفقه الذي يراد به الفكر المحض والدراسة الخالصة، وأمعن فيه ليغوص في أعماقه على الحقيقة العلمية، أو الحقيقة الفلسفية كما نسميها في هذه الأيام. •••
Página desconocida
ويصح أن يقال: إن عليا - رضي الله عنه - أبو علم الكلام في الإسلام؛ لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه كما قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، فواصل ابن عطاء كبيرهم تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي - رضي الله عنه، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي الجبائي أحد مشايخ المعتزلة الذين علمهم واصل بن عطاء ... أما الفقه فإمامه الأكبر أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد قرأ على أبيه، وهكذا ينتهي الأمر إلى علي - رضي الله عنه. وقد قرأ مالك بن أنس على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي - رضي الله عنه. وقيل لابن عباس: أين علمك من علم ابن عمك؟ ... فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط ... •••
قال ابن أبي الحديد: «ومن العلوم، علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه - عليه السلام ...»
وقد جمع «نهج البلاغة» نماذج شتى من الكلمات التي تنسب إليه، ويصح أن تحسب أصلا «للعلم الإلهي»، أو لأسرار التصوف في صدر الإسلام قبل اشتغال المسلمين بفلسفة اليونان وحكمة الأمم الأجنبية. وربما وقع الشك في نسبة بعض الكلمات إلى علي - رضي الله عنه - لأنها تجمعت بعد عصره بزمن طويل، وامتزج بها ما لا بد أن يمازجها من علوم القرن الثالث وما بعده ... ولكن شيئا على هذا النهج لا بد أن يكون قد صدر منه حقا، حتى جاز أن يتصل النسب بينه وبين أئمة التوحيد وعلم الكلام على النحو الذي تواترت به الأقوال، وأجمله ابن أبي الحديد فيما تقدم ... •••
ولنا أن نقول: إنه كان - رضي الله عنه - يتتلمذ للقرآن الكريم، ويستوحيه نصا في عرفان إسلامه وتقرير إيمانه، فكانت نظرته إلى الخلق والخالق نظرة قرآنية يبتكر ما شاء ابتكار التلميذ في الحكاية عن الأستاذ، فكلامه عن الطاووس والخفاش والزرع والسحاب إنما هو الدرس القرآني الذي وعاه من أمر الكتاب بالنظر في المخلوقات، ووصف الكتاب لطوائف منها كالنمل والنحل والطير والأجنة في الأرحام. فهو تلميذ ربه - جل وعلا - في قوله عن الخفاش: «من لطائف صنعته وعجائب حكمته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش، التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف غشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها ... فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا، والنهار لها سكنا وقرارا، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب ... تطير وولدها لاصق بها لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان البارئ لكل شيء على غير مثال خلاف غيره.»
ومثله قوله عن الطاووس: «ومن أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه وذنب أطال سحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مظلا على رأسه ... وقد ينحسر من ريشه ويعرى من لباسه فيسقط تترى وينبت تباعا، فينحت من قصبة نحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاصق ثانيا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه» ...
ونحن لا نستغرب ابتداء هذا النمط من النظر الفلسفي على نحو من الأنحاء في عصر الإمام علي - رضي الله عنه - لأنه كان عهدا نبتت فيه أصول الفرق الإسلامية جميعا من الخوارج والشيعة، والقائلين بالرجعة وتناسخ الأرواح، والمجتهدين في قراءة القرآن وتفسيره على شتى المذاهب ... فأقرب شيء إلى المعقول أن يكون إمام العصر كله قدوة في الاجتهاد والنظر، وعنوانا للنوازع التي تفرقت بين أهل زمانه، وتعبيرا صادقا لتفكيره ووعيه، وصاحب أقوال من قبيل هذه الأقوال التي قدمناها، وإن لم تكن هي إياها بالنص والتفصيل ...
ويستقيم مع هذا التقدير أن يكون الإمام على سجيته مؤثرا للاجتهاد ما استطاعه، معرضا عن التقليد ما استغنى عنه، فوافق الخلفاء من قبله في أمور وخالفهم في أمور، وأبى أن يأتم بعملهم فيما يراه وما لا يراه، وأوصى ابنه الحسن وقد بلغ الستين فقال: «... اعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا إلى أنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر ... فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات، وابتدئ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هما واحدا، فانظر فيما فسرت لك ...»
وربما كانت هذه الوصية وحدها كافية للتعريف بإسلام علي كما ارتضاه لنفسه، وارتضاه للقادرين عليه من أتباعه ... فإنما هو إسلام المسلم «المطبوع » الذي يبتكر دينه؛ لأنه يعتمد فيه على وحي بصيرته وارتجال مزاجه، وإنما هو إسلام الحكيم المجتهد الذي يرجع في الحكمة والاجتهاد إلى رياضة النفس على سنة النساك، وتمحيص الفكر على سنة العلماء، وإنما هو إسلام الرجل الذي أتيح له أن يتتلمذ لربه، ويتربى في حجر نبيه، ويصبح إماما للمقتدين من بعده ...
عصر الإمام
كانت الظاهرة الكبرى في عصر «علي» ظاهرة اجتماعية خاصة به دون عصور الخلفاء من قبله، ولم تكن في حقيقتها ظاهرة سياسية أو حربية عسكرية، على شدة القتال فيها وغزارة الدماء التي أريقت في حروبها ...
Página desconocida
فعصر أبي بكر كان هو العصر الذي نشأت فيه الدولة الإسلامية، وعصر عمر كان هو العصر الذي تم فيه إنشاؤها ...
وعصر عثمان كان هو العصر الذي تكون فيه المجتمع الإسلامي بعد نشأة الدولة الجديدة، فبرز فيه نظام جديد على أساس الثروة المجلوبة من الأقطار المفتوحة، وعلى أساس الولايات التي تولاها بعض الطبقات المرشحة للرئاسة من العلية وأشباهها ...
أما عصر علي فكان عصرا عجيبا بين ما تقدمه وجاء في أعقابه، أو هو لم يكن عجيبا؛ لأنه جرى على النحو الذي ينبغي أن يجري عليه، فلم يثبت كل الثبوت ولم يضطرب كل الاضطراب؛ لأنه كان بناء جديدا في سبيل التمام، ولم يكن بناء متداعيا فكله هدم واندثار، ولا بناء قائما مفروغا منه فكله رسوخ واستقرار.
إلا أن العجيب فيه حقا أنه انقسم بين ثبوته واضطرابه قسمين اثنين متقابلين: في أحدهما كل عوامل الرضا عن النظام الاجتماعي، والرغبة في بقائه وتدعيمه، وفي الآخر كل عوامل التذمر من النظام الاجتماعي، والتحفز لتقويضه وتحويله.
أحدهما، وهو قسم الرضا عن النظام الاجتماعي، كان قسم معاوية بن أبي سفيان في الشام وما جاورها.
والآخر، وهو قسم التذمر من النظام الاجتماعي، كان قسم علي بن أبي طالب في الجزيرة العربية بجملة أنحائها.
كانت الشام بمعنى من المعاني أرضا أموية في عهد الجاهلية، فلجأ إليها أمية جد الأمويين حين غلبه هاشم على الزعامة، وقصد إليها أبناؤه متجرين أو مهاجرين إلى ما بعد قيام الدعوة الإسلامية.
ثم قامت الدعوة الإسلامية، فكان من نصيب يزيد بن أبي سفيان أن يتولى الإمارة والقيادة على الشام من قبل الخليفة أبي بكر الصديق، وخلفه أخوه معاوية من قبل الخليفة عمر، فلم يزل مقيما على إمارتها بضع عشرة سنة إلى مبايعة علي بالخلافة بعد مقتل عثمان، فاتسع له من فسحة الوقت وفسحة الرخاء مجال ممهد لتأسيس السلطان الأموي الذي لا ينازعه منازع من حوله، ولم يزل منذ تولاها عاملا على البقاء فيها واصطناع الأعوان المؤيدين له في حكمها، فلم يتوان في استرضاء رجل ينفعه رضاه، ولم يقصر رعايته على الشرفاء دون السواد من الأتباع والأجناد، بل كان يرضي كل من وسعه إرضاؤه، وقد وسعت ثروة الشام كل صاحب حاجة مقيم عنده أو ساع إليه ...
واشتهرت عنه هذه الخصلة حتى قصده أقرب الناس إلى خصومه، وأولاهم باجتنابه والنقمة عليه ... ومنهم عقيل أخو علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن زمعة، وعمرو بن العاص، وأناس من هذه الطبقة بين الشرفاء وذوي الأخطار.
أراد عقيل من أخيه مالا يجريه عليه من بيت المال فأباه عليه؛ لأنه ليس له بحق، فتركه وأقبل على معاوية وهو يقول: «إن أخي خير لي في ديني، ومعاوية خير لي في دنياي.» وقس على ذلك ما يصنعه الغرباء عن علي والمقربون من معاوية بالنسب والرجاء.
Página desconocida
قد همه إرضاء السواد والعامة، كما همه إرضاء الشرفاء وذوي الأخطار ... وبلغ من إحكامه للسياسة، وإتقانه لها، واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته ... فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه، وقال له: «أبلغ عليا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل!»
ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وحملوه بها.
1
فإن كان في هذه القصص بعض المبالغة، فهي مبالغة الفكاهة الموكلة بتكبير الملامح ليراها من غفل عنها، وليست مبالغة الخلق والافتراء.
وما هي إلا سنوات على هذه الوتيرة، حتى اجتمع له كل منتفع بالنظام الاجتماعي الجديد، راغب في تدعيمه ووقايته من نذر الخطر والزوال.
وعلى قدر هذا الدأب الشديد في اجتلاب أسباب التمكين والتدعيم كان له دأب مثله في اتقاء أسباب التمرد، والإخلال بالنظام، كما نسميه في هذه الأيام ...
فما سمعت قط صيحة فتنة إلا بادر إليها بما يسكنها، ويردها إلى طلب الاستقرار والدوام، فمن أجدى معه المال أسكته بإغداق المال عليه، ومن كان من أهل الجد والإخلاص في العبادة والزهادة، فهو محتال على إقصائه أو نفيه من الشام بحيلة يوافقه عليها شركاؤه في المصلحة ولا تعييه.
حنق بعض الزهاد على هذا الترف الذي استفاض بين العلية والشرفاء، فارتفعت عليهم صيحة أبي ذر الغفاري بالنكير، وطفق يطالب الأغنياء بالإنفاق في سبيل الله، حتى ولع الفقراء بصيحته وشكا الأغنياء ما يلقونه من نذيره أو بشيره: «وبشر الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.»
فأشفق معاوية من مغبة هذه الصيحة، وأرسل إلى أبي ذر ألف دينار يسكته بها إن كان ممن يسكتهم الغنى عن الأغنياء، فما طلع النهار حتى كانت الدنانير في أيدي المعوزين، الذين يلوذون بالداعية الأمين ويشكون إليه، ثم صلى معاوية الصبح وأرسل إلى الداعية رسوله الذي حمل إليه الدنانير يقول له: «أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإنه أرسلني إلى غيرك فأخطأت بك، فقال له: يا بني، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ... ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها» ... فعلم معاوية أن الرشوة هنا لا تغني عن القسوة، وكتب إلى الخليفة أن أبا ذر أعضل به فلا طاقة له بالصبر عليه، فأتاه الإذن بنفي أبي ذر من الشام إلى المدينة، ثم ضاقت به المدينة أيضا، فنفي منها إلى قرية من أرباضها حيث لا يسمع له دعاء. •••
وصنع بعبد الله بن سبأ - صاحب القول برجعة النبي إلى الدنيا ووصاية علي على الخلافة - مثل هذا الصنيع بعد أن داراه فأعياه، فلما يئس منه ومن ترغيبه أو ترهيبه ضيق عليه ثم أقصاه ...
Página desconocida
والتفت إلى من سماهم أهل الفتنة من طلاب الإصلاح والتبديل، فكتب في أمورهم إلى الخليفة يقول: «إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم، وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم ...»
ثم أخرجهم من دمشق إلى غيرها مستريحا منهم بالنفي والإقصاء، كأنما دمشق وحدها من بلاد المسلمين هي التي ينبغي لها أن تستريح.
وهكذا تعاقبت السنون وكل سنة تزيد معاوية وفرة من أسباب الرضا والاستقرار، وقلة من أسباب القلق والطموح إلى التغيير، حتى تحيزت له الشام عند مبايعة علي وفيها أعظم ما يتأتى في مثل ذلك العهد من دواعي السكينة واستدامة الحال، وأقل ما يتأتى فيه من شواجر الفتنة والعصيان ...
أما علي فقد شاءت المصادفات أن تنعكس الآية في حصته من الدولة الإسلامية أيما انعكاس، فأوشكت أن تنعدم فيها دواعي الرضا والاستدامة، وأوشكت أن تتم فيها شواجر الفتنة، وما نسميه اليوم بالإخلال بالنظام ...
فكان التنافس عنده على أشده بين العاصمتين الحجازيتين وبين الكوفة، لا يرضى أهل المدينة بما يرضى أهل مكة، ولا يرضى أهل الكوفة بما يرضى به هؤلاء وهؤلاء، حتى ضاق به المقام في الحجاز، وأوى إلى الكوفة مأوى «المستجير من الرمضاء بالنار». •••
وكانت قبائل البادية تنفس على قريش غنائم الولاية ومناصب الدولة، وينظرون إليهم نظرتهم إلى القوي المستأثر بجاه الدين والدنيا وحق الخلافة والسطوة، وهي حالة كان أحجى بالولاة أن يخفوها ويتلطفوا في إصلاحها أو تبديلها ما استطاعوا لها من إصلاح وتبديل، ولكنهم على نقيض ذلك كانوا يباهون بها، ويجهرون بحديثها حتى قال سعيد بن العاص والي الكوفة: «إنما السواد بستان لقريش ...!»
وظهر هذا السخط من أثرة قريش في خطب المتكلمين بلسان أهل البادية، حين نشب النزاع بين طلحة والزبير وأنصارهما وبين علي وأنصاره، فقام في الجمع رجل من عبد القيس يقول: «يا معشر المهاجرين! ... أنتم أول من أجاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكان لكم بذلك فضل ...» إلى أن قال يشير إلى خلافة أبي بكر: «ولم تستأمرونا في شيء من ذلك، فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات واستخلف عليكم رجلا فلم تشاورونا في ذلك، فرضينا وسلمنا، فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان، وبايعتموه عن غير مشورة منا، ثم بايعتم عليا من غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ ...»
وهذا كلام رجل يدين بفضل المهاجرين ويقدمه في صدر مقاله، فكيف بكلام الرجال ممن ينسون هذا الفضل، أو تغلبهم المنافسة على الشهادة به في معرض الخصومة؟ ... ولعل النافثين بهذا الغيظ كانوا يثوبون إلى بعض الصبر، والتجاوز لو أنهم وجدوا من يشكون إليه، فيحسن الإصغاء والاعتراف لهم بالحق في دعواهم، ولكنهم كانوا يشكون فيثور بهم المخالفون ويلجئونهم إلى الصمت راغمين، فلما قال ذلك الرجل مقالته هموا بقتله لساعته لولا أن حمته عشيرته وصحبه، ثم وثبوا عليه في الغد فقتلوه وقتلوا معه قرابة سبعين. •••
Página desconocida