فالذي يجوز لنا أن نقبله من هذه القصة هو الجانب الذي يستقيم مع خلائق عمر ولا يناقضها، وهو العدل الصحيح في محاسبة ولده على ذنبه ولا زيادة، ولا سيما الزيادة التي لا تستقيم مع عدله ورحمته على السواء، وكلا العدل والرحمة من صفاته الأصيلة فيه.
نعم، كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة، فما عهد فيه أنه أحب العدل لغضه من الأقوياء المعتدين، كما كان يحبه لنجدته الضعيف المعتدى عليه.
ولا يمنعن ذلك أنه كان خشن الملمس، صعب الشكيمة، جافيا في القول إذا استغضب واستثير، فليست الخشونة نقيضا للرحمة، وليست النعومة نقيضا للقسوة، وليس الذين لا يستثارون ولا يستغضبون بأرحم الناس؛ فقد يكون الرجل ناعما وهو منطو على العنف والبغضاء، ويكون الرجل خشنا وهو أعطف خلق الله على الضعفاء، بل كثيرا ما تكون الخشونة الظاهرة نقابا يستتر به الرجل القوي فرارا من مظنة الضعف الذي يساوره من قبل الرحمة، فلا تكون مداراة الرقة إلا علامة على وجودها، وحذرا من ظهورها.
ومن المألوف في الطبائع أن الرجل الذي يقسو وهو معتصم بالواجب قلما ينطبع على القسوة، ولا سيما إذا كان الواجب عنده شيئا عظيما يزيل كل عقبة، ويبطل كل حجة، ويقطع كل ذريعة، فهو إنما يعتصم بالواجب في هذه الحالة، كما يعتصم الإنسان بالحصن المنيع كلما خشي أن تقتحم عليه طريقه، ولولا خوف الرحمة أن تغلبه لما كانت به حاجة إلى ذلك الحصن المنيع، ولا سيما حين يكون حصنا بالغا في المنعة، كما كان الواجب عند عمر بن الخطاب.
أرأيت هذا الرجل الصارم الحازم قاسيا قط إلا باسم واجب أو في سبيل واجب؟ كلا، وما نذكر أننا سمعنا رواية واحدة من روايات شدته إلا لمحنا الواجب قائما إلى جانبها يزكيها ويسوغها. ومن كانت القسوة طبعا فيه، فما هو بحاجة إلى واجب يغريه بالقسوة، بل هو في حاجة إلى واجبات عدة تنهاه عنها وتغريه باجتنابها.
وليس قصاراه في هذا الخلق أنه غير قاس، أو أن الرحمة كانت تنفذ إلى قلبه كلما طرقته، واتخذت سبيلها إليه، فإذا نصيبه من الرحمة قد كان أوفى جدا من ذاك، وكانت هذه الفضيلة من فضائله الأصيلة فيه لا تكاد تفارقه في عامة حياته، حتى ليصح أن تضرب الأمثال برحمته كما كانت تضرب الأمثال بعدله، وأن يقرن معه لقب العادل بلقب الرحيم.
وفي صدد الكلام عن الخليفة الإسلامي الكبير، قد يهمنا خلق الرحمة فيه خاصة؛ لأن شأنها في التقريب بينه وبين الإسلام غير قليل.
فمن المحقق أن رقته للمسلمين وللدين الذي يدينون به، كانت مقرونة في أول الأمر برحمته لامرأتين ضعيفتين رآهما في حالة من الشكوى تلين القلب، وتكف الغرب،
12
وتمسح جفوة العناد والبغضاء.
Página desconocida