Genio de la Reforma y la Educación: El Imán Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Géneros
وينبغي أن نذكر أن الحاكم الظالم لم يكن في وسعه أن يستأصل جذور الحياة في القرية لو أراد، وأنه لم يكن له مأرب في استئصالها، ولم تكن له خبرة بوسائل استئصالها لو كان له من بعد النظر ما يخيفه من عواقبها في الزمن البعيد، فأما مأربه منها في حاضر وقته فكل همه منه محصول الزرع الذي يحمل إليه وهو قابع في قصور المدينة، ومن حمله إليه من أعوانه فهو في تسخيره للحارثين والكادحين لا يستغني عن مسألة فريق منهم ومداراة آخرين، بل عن بذل الرشوة لمن يعرفون في القرية من العاملين والمتمردين.
وكان ملتزم الزرع والضريبة لأصحاب السلطان في دولة المماليك أحوج ما يكون إلى تلك المداراة، سواء في القرى التي يملكها أبناؤها أو في القرى التي تزرع على «الروك» كما كانوا يسمون الزرع المشاع بعد أيام الأيوبيين.
فالمالكون لأرضهم على قلتهم كانوا في بلادهم أرسخ قدما وأعصى مقادا على الملتزم، من أن يسوقهم بعصا الإكراه والتسخير، وقد يرضي فريقا منهم بالتزامات صغيرة إلى جانب التزامه الكبير.
والزارعون في أرض «الروك» غرباء عن الملتزم في كل قرية غير قريته التي ولد فيها إن كان من أهل القرى، أو هم غرباء عن مدينته إن كان من أهل العواصم البعيدين عن الريف، فسبيله إليهم أن يرضي من يعرفهم وأن يحسب لهؤلاء حسابهم؛ لأنهم إن كانوا أضعف بأسا من أن يقدروا عليه، فهو أقصر يدا وأعجز وسيلة من أن يقدر عليهم أجمعين، وأن يستفيد من قدرته عليهم كارهين مضربين.
وقد كانت لموارد القطر كله حصيلة يحسبونها بالقراريط أربعة وعشرين قيراطا، موزعة بين الأمراء والجند ومرافق الدواوين وأعمال القناطر والجسور والأحواض، وكانت من هذه القراريط حصة محجوزة لأولئك الرؤساء المقدمين بين أبناء الريف، يسمونهم في سجلات الدولة بالعلماء أو مشايخ العربان، ويسمون «بأبناء العرب» كل من لم يكن من أبناء الترك والجراكسة وأعاجم الجند من كل قبيل، فلم يكن «مشايخ العربان» كلهم بدوا يعيشون في مضارب الخيام، بل كان أكثرهم من الفلاحين والقرويين. •••
إن منفذ الحرية، أو منفذ المقاومة، أو منفذ الشكاية الذي بقي لأبناء القرى في أواخر عهد المماليك، قد يتمثل لنا في حادث من حوادث كثيرة رواها المؤرخون لتلك الفترة، ولكن هذا الحادث قد جمع من مراجع السلطة وأساليب المقاومة، واشترك فيه الأمراء والعلماء وجمهرة الشعب على مثال يستحق أن نفرده بالذكر في هذا المقام.
روى الجبرتي في الجزء الثاني أن الفلاحين في قرية من قرى مركز بلبيس شكوا في شهر ذي الحجة سنة 1209 هجرية/1795 ميلادية، إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي كبير علماء الأزهر، ظلما لحق بهم من أتباع محمد بك الألفي أمير المماليك المشهور، فأبلغ الشيخ شكواهم إلى كل من مراد بك وإبراهيم بك، ليخاطبا الألفي بك في هذه الشكوى ويطلبا إليه أن يكف أتباعه عما يوجبها، وانقضى زمن على هذا البلاغ بغير جدوى، فجمع الشيخ الشرقاوي علماء الأزهر وتشاوروا في الأمر مليا، فانتهوا إلى إنذار الأمراء جهرة بالمقاومة، واتفقوا على إغلاق أبواب الجامع ودعوة التجار وأصحاب الأعمال إلى إغلاق الدكاكين وحوانيت التجارة، وإعلان ما نسميه اليوم بالإضراب العام، ثم ركب الشيخ الشرقاوي والعلماء في اليوم التالي وتبعتهم جماهير الشعب إلى منزل الشيخ السادات، لإشراكه وإشراك أتباعه معهم في مقاومة الأمراء حتى يستجيبوا إلى مطالبهم، وكان لإبراهيم بك قصر بجوار بيت السادات، فرأى هذه الجموع التي لا يكف عنها المدد مما حوله، وهالته كثرتها، فأرسل من يسأل عن سبب اجتماعها، ثم علم بالسبب، فلم يجسر على الذهاب بنفسه إلى مكان الاجتماع، وأناب عنه الدفتردار أيوب بك لاستماع أقوال العلماء والسعي في تحقيق ما طلبوه، فعلم منهم أنهم يريدون كف المظالم وصيانة الأموال والأرواح ورفع المكوس والضرائب إلا ما يرتضيه الرعية، فخاطبهم أيوب بك في تخفيف بعض هذه المطالب، والاكتفاء بتعجيل بعضها مما يستطاع إنجازه لوقته، وقال: إن رفع المكوس والضرائب دفعة واحدة متعذر، وإنه قد يرفع شيئا فشيئا، وإلا «ضاقت علينا المعايش والأرزاق». فصارحه العلماء قائلين: إن الأمراء ينفقون الأموال فيما لا حاجة به ولا خير فيه، وما الحاجة إلى إنفاق المال في البذخ والترف والاستكثار من الجواري والمماليك؟ إن الأمير يعطي ولا يأخذ ما في أيدي الناس، وإن الإنفاق على اللذات وضروب الزينة الخاوية إسراف وفضول.
ولم يستمع العلماء جوابا شافيا في ذلك المجلس، فباتوا ليلتهم في حرم المسجد على أن يخرجوا في الصباح إلى الميادين والساحات العامة، معلنين الأمراء بخلع الطاعة والاستجابة إلى أحكام الشريعة، فبادر إبراهيم بك إلى طلب المعذرة منهم، وأحال التبعة في رفض مطالبهم إلى إصرار المخالفين له من أمراء المماليك، وعلى رأسهم صاحبه مراد بك، وأبلغهم أنه يؤيدهم ويحارب في صفوفهم إذا أصر المخالفون على الرفض والمراوغة، وكاشف مراد بك في الأمر مستحثا له على عمل شيء عاجل لتهدئة المدينة قبل انفجار الشعب كله بالعصيان.
وكان الوالي الأكبر يرقب الحالة لينظر ما يصنعه أمراء المماليك لتدارك الخطر قبل استفحاله، فلما كان اليوم الثالث ولم يصنعوا شيئا، قصد إلى قصر إبراهيم بك وجمع هناك كبار الجند وأصحاب الكلمة النافذة في عساكر المماليك، وأرسلوا إلى العلماء والرؤساء يدعونهم للمشاورة ويعدونهم بإبرام الأمر على ما يحبون، فحضر من رؤسائهم كل من الشيخ الشرقاوي، والشيخ الأمير، والشيخ السادات، والسيد عمر مكرم، والشيخ البكري، وهم نواب الأمة المختارون لهذه الملمات، وانفض الاجتماع بعد طول الأخذ والرد بقبول ما طلبه العلماء، وكتابة موثق بذلك على الأمراء أن يتبعوه ولا يخالفوه، ووقعوا جميعا على الحجة الشرعية التي تسجل هذا الموثق وخلاصتها: أن يدين الأمراء بقضاء المحاكم في قضايا الحقوق، وأن تفرض الضرائب بموافقة الرعية على حسب الأحكام الشرعية، وأن يمتنع عدوان الحاكم بغير جريرة من المحكومين. وسميت هذه الوثيقة بالحجة الشرعية على عادة قضاة الشريعة في تسمية هذه العقود، ولو أنها كتبت في بعض البلاد الأوروبية لجاءنا خبرها مع كتب القوم في علوم السياسة الحديثة، بعنوان من تلك العناوين الكثيرة عن حقوق الشعب، أو الدستور الأكبر، أو «الماجنا كارتا»، وما إليها من مصطلحاتهم التاريخية، ولكن العلماء الذين دعوا أمراء العصر إلى توقيع ذلك العهد، لم يحسبوا أنهم جاءوا إلى الناس بعهد جديد غير التذكير بعهد كتاب الله وسنة رسول الله التي نسبها أولئك الأمراء، وكتب الموثق «حجة» عليهم بشهادة الرعية وشهادة «الأمة» التي تأمر بالمعروف من عباده العلماء. •••
وقد بقيت للقرية هذه البقية الصالحة من القدرة على المطالبة والشكوى من الظالم إلى ما بعد عهد المماليك بزمن طويل، ولم تكن في كثير من الأوقات كافية لرفع المظالم وكف يد الظالم، ولكنها كانت في أحلك الأوقات كافية لتحريك القوة الكامنة في قلب إنسان مؤمن بالعدل والخير، متحفز للجهر بما يؤمن به حيث يجدي الجهر بالإيمان، أو يجد له مستمعا من القلوب والآذان.
Página desconocida