Genio de la Reforma y la Educación: El Imán Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Géneros
وهو مع المتصوفة، أو على الأصح مع الحكماء المتصوفين ولا سيما الأخلاقيين؛ لأن التصوف عنده رياضة عقلية، ولكنه يرى لهذه الرياضة جانبا غير الجانب الحسي من الحياة الدنيوية يسميه «ذوقا»، ويحمد من صاحبه أن يروض عليه ضميره ووجدانه ولا يدين به أحدا من المقيدين بالحياة الطبيعية أو الحياة الحسية؛ لأن الأمر في هذه الحياة لما يستقيم عليه صلاح الجماعة، ولا محل فيه للذوق الخاص الذي لا تراض عليه طبيعة العموم.
وجماع القول في مذهب الأستاذ الإمام أنه كان مذهب «المصلح الإسلامي المفكر» الذي أعطى التفكير النظري كل حقه، ولكنه أخذ منه حق العمل على الإصلاح الرشيد المستنير، واستخلص منه العقيدة الإسلامية خالصة من عقبات الجمود والخرافة، التي تصدها عن التقدم وتقعد بها عن مسايرة الزمن والتأهب للحياة بأهبة العقل البصير والضمير الحر، والكفاية الخلقية والمادية لمناهضة القوة المستطيلة عليها بسلاح العلم والمال؛ تلك القوة التي أنزلت المسلمين في العصر الحديث منزلة المغلوبين المستعبدين، ومن حقهم لو عرفوا دينهم حق معرفته أن يترفعوا بأنفسهم عن مهانة الخنوع والاستعباد.
وقد كان له في مذهبه هذا تلاميذ مؤمنون بالفكر والعقيدة في أرجاء العالم الإسلامي من أقصاه في المشرق إلى أقصاه في المغرب، وكان أكثر هؤلاء التلاميذ من قادة الفكر المتدينين يقومون بواجبهم المضاعف في كل بلد إسلامي كما قام به الأستاذ الإمام في وطنه، فيكافحون الجمود من جهة ويكافحون التفرنج الذميم من الجهة الأخرى، ويتعرضون في وقت واحد لعداوة المتألبين عليهم من أنصار الاستعمار والاستبداد وأنصار الجهل المظلم والتعليم الفاسد، وفئات النفعيين الذين يندسون بين جميع الصفوف، حيث المنفعة على كل حساب، ولو كان حساب الوطن والدين.
على أن تلاميذ «الفيلسوف» محمد عبده كانوا فئة معدودة تحسب بالآحاد في كل أمة من أمم العالم الإسلامي، وكان عليهم أن يعيدوا دعوته بألسنتهم وأقلامهم مرة أخرى حتى تبلغ إلى الأسماع والعقول، وإنما انتشرت دعوته إلى الإصلاح أوسع انتشارها بين قراء تفسيره للقرآن، وفتاواه لطلاب الفتيا الكثيرين، ومقالاته وفصوله التي كانت تنشر بتوقيعه أو بغير توقيعه ولا تخفى نسبتها إليه لنشرها في مجلة «المنار». وقد أنشأ مسلمو إندونيسية مجلة على مثالها سموها «المنير» تبلغ هذه الدعوة لمن لا يقرءون العربية من أبناء الأمة الملاوية، وتتبع مسلمو الهند دروسه كما توجهوا إليه بالاستفتاء في كل مشكلة من مشكلاتهم الاجتماعية التي تصطدم عندهم بالعقيدة الدينية ... ولما تسامع المسلمون في الهند بانقطاع الأستاذ الإمام عن إدارة الأزهر وشاع بينهم أنه سيهجر التدريس، وقع منهم النبأ موقع الهول الذي لا يحتمل، وكتب النواب محسن عميد كلية عليكرة ينعي رسالة الإصلاح في العالم الإسلامي، وينحي على الخديو وشيعته من الجامدين أشد الإنحاء، ويقول إنهم «لو كانوا يتوقعون من المستر دنلوب بعد قنوطهم وإياسهم من الجامع الأزهر أن يؤسس لهم كليات وجوامع في أرض مصر يكون فيها نشر التعاليم العالية ... لكان في ذلك بعض التعزية عما قد فاتهم من ذلك في الجامع الأزهر، ولكن الذي ظهر لنا أنهم لا يتوقعون ذلك من هذه الجهة أيضا ... وعسى أن ينكشف لديهم أن أعضاء الدولة الذين بأيديهم زمام دولة مصر وملاك أمرها وسلطانها لا يرضون بأن يتاح لهم من التعاليم ما تستنير به قلوبهم، وتستضيء به أدمغتهم، ويطلعون به على حقوقهم الملية والسياسية».
وقالت صحيفة الرياض بعد نشر الخبر ومعه خطاب الخديو: «عجبنا وعجب كل مسلم في الهند من حكم سموه الذي قضى به في جمع حافل من العلماء، وشدد النكير على حزب المصلحين وجماعة المخلصين ... فالآن يصدق على من يخرج من الأزهر: ليس له في الدنيا نصيب، وما له في العلوم الإسلامية من خلاق.»
وكان للنبأ في البلاد العربية صدى كصداه هذا في البلاد الإسلامية غير العربية، وصححت ثورة الخواطر تقدير المصلحين أنفسهم لمدى انتشار الدعوة بين جمهرة المسلمين، ومدى النكسة التي أصيبت بها حركة التجديد من جراء تلك الحملة المطبقة عليها من بين صفوف الجامدين وسماسرة الكذب والتشهير، فوضح لهم بعد الغاشية الأولى أن دعوة الحرية الفكرية أقوى من أن تصدها عن طريقها مكيدة مفتعلة تقوم على التدبير المشترك بين الجمود والباطل؛ لأن الجمود إدبار إلى الماضي لا محل له في المستقبل، والباطل غشاء دخيل لا بد أن ينكشف عن معدنه الأصيل.
وفي مصر كانت مبادئ المصلح الحكيم تسري سريانها العميق إلى العقول الفتية وعقول الكبار من ذوي النيات السليمة، وكانت تستقر على أسسها في الوقت الذي خيل فيه إلى المستمعين لضجيج السعاية أن الأمة قد أعرضت عنه بأسماعها وقلوبها، وأن حملات التشهير قد نالت من سمعته منالا يصرف الناس عن الاكتراث له والمبالاة بعلمه وعمله، وأملى للمتوهمين في وهمهم هذا أن الدعوات الفكرية لا تبرزها الحشود الجامعة كما تبرزها دعوات الحوادث السياسية، فإذا سرت إلى العقول متفرقة لم تظهر في الأمة مجتمعة إلا بما يكون لها من النتائج العامة في الزمن الطويل، ولكن المصيبة بفقد المفتي بعد اعتزاله إدارة الأزهر هيأت في هذه الدعوة الفكرية حشودها الجامعة، التي لن تتهيأ قبل ذلك لدعوة من الدعوات السياسية في الأمور التي تشغل أذهان الجماهير، ولم يكن للمفتي الفقيد حزب ذو أداة منتظمة تسخر أعوانه لجمع الجموع وتسيير المواكب، بل كان صاحب السلطة الرسمية يعاديه ويغضب على مشيعيه، وكانت صفة الفقيد الدينية لا تدع مكانا للسلطة الفعلية في تشييعه والاحتفال بجنازته، وكان الوقت صيفا قائظا والغائبون عن المدن من معتادي الاصطياف خارج القطر وفي قرى الريف أكثر من الحاضرين، فغلبت الصبغة القومية على كل صبغة رسمية أو تقليدية في تشييع رفات المفتي إلى مقره الأخير من الإسكندرية إلى القاهرة، بل غلبت هذه الصبغة على الصبغة التقليدية التي تعودناها بمصر في تشييع الجنازات؛ إذ كان المفتي في حياته ينكر هذه المظاهر التقليدية ويعلن النهي عنها، فكانت موجة الحزن التي غشيت ألوف المشيعين على طول الطريق دفعة من أعماق القلوب والضمائر عرفت بها الأمة مبلغ شعورها بعظمة الفقيد الراحل وعظم الخسارة بفقده، وجاوز الزحام كل ما قدرته الشرطة واتخذت له حيطتها في المدينتين منذ الصباح الباكر قبل خروج النعش من داره، فتعطلت حركة الأسواق وأغلقت الدكاكين أبوابها للمشاركة في موكب الجنازة، واكتظت الأرصفة بالواقفين والسائرين، ولم يبق أحد في العاصمتين من ذوي الفكر والمنزلة لم يشترك في ذلك الموكب الحافل الذي عمت التعزية فيه وجلت أن تخص عشيرة الفقيد أو ذويه، ولم يدهش أحد من هذه البادرة القومية بطبيعة الحال، كما دهش لها النزلاء الأوربيون الذين كانوا يتسمعون أخبار المعارك حول الإصلاح الديني من بعيد، ويحكمون عليها بمقدار ما ينتهي إليهم من لغط الصحافة وأقاويل المرجفين، فقالت صحيفة الفاردي ألكسندري: «إن توارد الجماهير لتشييع الجنازة يخمد أنفاس القائلين بأن المفتي لم يكن محبوبا في الأمة المصرية.» وقالت صحيفة ليجيبت: «إنه مشهد مهيب من أجل المشاهد وأشدها تأثيرا في النفوس، كان يشتد زحامه بجماهير الناس المصطفين على جوانب الطريق التي مر بها، حتى لقد توقفت حركة التجارة فيها، وكان الناس في سكون وإجلال خلال مرور الجنازة، يخيل إلى الرائي أن جميع سكان القاهرة الوطنيين قد حضروا ليؤدوا آخر فريضة من الإجلال والإعظام لذلك الشيخ الجليل، وبينهم عدد عظيم من الأوروبيين.»
وقد تمخضت هذه البادرة القومية عن معناها العملي الدائم، ولا يمكن أن يكون لها غير معنى واحد هو الذي شوهد في واقع الحياة القومية بعد ذلك، وبرزت حقيقته في كل مهمة تتطلب الرجال العاملين من المفكرين المؤمنين بفريضة الإصلاح ورسالة التقدم، فقد شوهد تلاميذ المصلح الكبير على رأس كل حركة جادة من حركات النهضة الوطنية أو الفكرية، وتلفتت الأمة بعد وفاته تبحث عن القادة العاملين، فلم تجد بين المتقدمين للقيادة من هو أقدر على قيادتها وتسديد خطاها وتقرير مطالبها من زمرة الفقيد وخيرة أشياعه وتلاميذه ومريديه، لا فرق في ذلك بين شئون الدنيا وشئون الدين، وحسب القارئ ما يمكن حصره في الشئون الدينية التي تتصل بالجامع الأزهر ومعاهد التعليم على منهجه، فلم يكن أظهر بين مشايخه وأقطابه من الشيخ محمد شاكر، والشيخ مصطفى المراغي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ إبراهيم حمروش، والشيخ محمود شلتوت، وكلهم من مريديه المؤمنين برسالته، وغيرهم كثيرون مثلهم وإن لم يحضروا كلهم على يديه. أما في شئون النهضة الوطنية على اختلافها، فلا حاجة إلى التخصيص باسم واحد من أسمائها أو فرع واحد من فروعها، فكلها بلا استثناء تقترن باسم - أو أكثر من اسم - بين شيعة الأستاذ الإمام، وقد كانت ثورة مصر الكبرى على الحملة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى - بزعامة سعد زغلول - مثالا للأمانة الخلقية والنفسية التي أودعها الأستاذ الإمام في نفوس شيعته وخاصة صحبه، وأهلتهم في نطاقها الواسع لتلك المهمة الجامعة، كما أهلتهم لما دونها من المهام المتفرقة في كل نطاق محدود. •••
وأكبر ما استفاده العقل السليم المستنير من فكرة الأستاذ الإمام في الإصلاح والحرية الإنسانية أنه أعاد إليه الثقة بعقيدته في هذا العصر الحديث، ورفع من طريقه إلى العمل عقبات الجمود والخرافة والتقليد؛ لأنه زوده على قواعد دينه بفلسفة الحياة التي يقابل بها فلسفات الغرب المتسلطة عليه من جهة السطوة أو من جهة الإيمان بالعقائد والآراء، ولهذا كانت ردوده على فلاسفة الغرب ومفكريه أهم وأجدى على المسلم العصري من ردود المدافعين عن الإسلام على جماعات المبشرين المحترفين؛ إذ كانت شبهات المبشرين المحترفين لا تعدو أن تدور حول الشقائق اللفظية التي تمس الأديان الأخرى أشد من مساسها بالإسلام في العصر الحاضر أو العصور الماضية، ولكن شبهات المفكرين على غرار الفيلسوف أرنست رينان والوزير جبرايل هانوتو كانت بحاجة إلى الفكر العصري المؤمن بالدين لمواجهة الأفكار العصرية التي لعلها لا تؤمن بالإسلام ولا بغير الإسلام، ولكنها تخامر فكرة المسلم كما تخامر ضميره بالأسئلة المعلقة في انتظار الجواب من ذي ثقة باعتقاده، وذي ثقة بتفكيره، وذي طوية لا ترتقي إليها الظنون، وكان الأستاذ الإمام مليئا بكل ما يتطلبه العقل المسلم المستنير في عصره من آيات الثقة وحجج الإقناع.
كانت ردوده على رينان وهانوتو ردود من يعلم ما قد علموه عن تواريخ الحضارات وخصائص الشعوب وطبائع الأجناس والسلالات، ويزيد عليهم بالإيمان الثابت والأريحية الإنسانية والهمة التي ترفعه إلى مقام الرسالة الروحية؛ إذ لا رسالة لأمثال رينان وهانوتو في عالم العقيدة ولا في عالم الإصلاح. وقد كان - قدس الله روحه - أعلى طبقة من مناظريه في مضمار المناظرة بين المعسكرين المقاتلين، فكان رينان وهانوتو يقابلان بين الإسلام والمسيحية ليقابلا بين المسلمين والمسيحيين الأوروبيين خاصة، ويقابلا بعد ذلك بين دعوى الغالب ودعوى المغلوب، ولم ينزل الأستاذ الإمام إلى مضمارهم إلا ليدفع عن عقيدة الإسلام دون أن يقدح في عقيدة المسيحية، بل كان دفاعه عن الإسلام في وجه الأوروبيين المصطبغين بالصبغة المسيحية وهم أبعد ما يكونون عن المسيحية السمحة كما يعرفها الأستاذ الإمام ... ولم يخرج من ردوده بتنزيه الإسلام وتشويه المسيحية ... بل خرج منها جميعا بتنزيه الديانتين وإثبات الحقيقة التي يدين بها من يدين بكتاب الإسلام، وهي أن المسيحية ديانة محبوبة لا عداوة بين من يدين بها على أصولها ومن يدين بالإسلام على أصوله، ولا يحرم على المسلم يوما أن يصاحب أهل الكتاب على سنة أهل الكتاب.
Página desconocida