Genio de la Reforma y la Educación: El Imán Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Géneros
ويشتمل تاريخ الأستاذ الإمام في الثورة العرابية على أمثلة شتى من أمثلة العظمة بالرأي الأصيل والنظر البعيد والغيرة الصادقة والخلق النبيل، ولكنه لم يشتمل على موقف من المواقف التي يضرب بها المثل في سير العظماء على تقديسهم للواجب أنبل من موقفه الأخير منها، وهي تواجه خطر الاحتلال الأجنبي وتتسابق إلى المأزق الوبيل الذي يفض عنها الأنصار ويبعد عنها ذوي المآرب والمخاوف، وإنه لأحصف عقلا وأبعد نظرا من أن تخفى عليه العاقبة، ولو على سبيل الترجيح، إذا حال الأمل الطيب دون العلم بها في ذلك المأزق علم اليقين.
وأي عاقبة؟ عاقبة الوقوع في قبضة الاحتلال الأجنبي نفسه، وأخطر منه وقوع أعداء الاحتلال في قبضة الخديو المنتصر المنتقم، ومعه رؤساء جميع الوزارات الذين عاداهم العرابيون، وفي طليعتهم أحمد رياض أقربهم إلى الأستاذ الإمام وأستاذه جمال الدين.
وأنبل من ذلك أنه ثبت على رأيه في محاربة الاحتلال الأجنبي وخيانة توفيق لوطنه، في مذكرته التي كتبها أثناء محاكمته وقال فيها: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنيا صرفا بعد أن آزره رجال جميع الأجناس والأديان، فكان يتألب المسلمون والأقباط والإسرائيليون لنجدته بحماس غريب، وبكل ما أوتوه من حول وقوة؛ لاعتقادهم أنها حرب بين المصريين والإنكليز».
ثم قال عن مؤامرة الخديو لحرق القاهرة إنه «شاع في القاهرة أن الخديو سيسعى بواسطة بعض أتباعه ليحدث شغبا في نفس القاهرة، إلى حد أن الوزارة احتاطت لمنع الفتنة، وبالغت في ذلك طول مدة قيامها بالأمر، واستدعى الخديو إبراهيم بك توفيق مدير البحيرة وطلب إليه أن يجمع مشايخ قبائل البدو ويحضرهم إليه، ففعل وبالغ الخديو في حسن استقبالهم وأكثر لهم من المواعيد، ثم أوعز إلى المدير أن يأمرهم بحشد ثلاثة آلاف بدوي وإحضارهم إلى القاهرة بطريق الجيزة ليحدثوا فتنة في البلد لعدم وجود النظام بينهم، ولكنه تعذر على المشايخ حشد العدد المطلوب من البدو، فحذف هؤلاء من العسكر، ولما فشل مسعاه هذا أرسل تلغرافا رمزيا إلى محافظ الإسكندرية هذا نصه: قد ضمن عرابي أمر الأمين العام، ونشر ذلك في الصحف وجعل نفسه مسئولا لدى القناصل، وإذا نجح في ضمانه هذا وثقت به الدول وصغر شأننا، أما الآن وأساطيل الدول في ميناء الإسكندرية وعقول الناس متهيجة ، فوقوع الخلاف بين الأوروبيين وغيرهم أمر محتمل، فاختر لنفسك إما خدمة عرابي في ضمانه أو خدمتنا».
إلى أن قال: «وفي يوم هذا الحادث توجهت إلى السراي، فرأيت موظفيها في جذل عظيم مما حدث، وكانوا يبالغون في رواية الأخبار ويضحكون من عهد عرابي بالمحافظة على الأمن العام، ومن المعلوم أن موظفي السراي لا يقولون إلا ما يسر الخديو، فإذا كانت الأخبار سارة تكلموا وضحكوا وإلا تظاهروا بالحزن والكآبة جهدهم.»
وهكذا جمع الشيخ السجين في تقرير واحد بين اتهام السلطتين، ولم يخطر له أن يداري إحداهما ليأمن شرها ويحتمي بها من الأخرى، كما فعل كثير من الذين قدموا إلى المحكمة العسكرية، وهم يعلمون أنها خاضعة للسلطة الإنجليزية، وأن أحكامها تعرض على القصر الخديوي ومجلس النظار لإقرارها.
وقد تلقى هذا التقرير محامي العرابيين برودلي صاحب التاريخ المستفيض عن محاكمات الثورة، وكان الشيخ محمد عبده يعرض عنه؛ لأنه لم يقبل في بادئ الأمر أن يدافع عنه محام إنجليزي، مع علمه بنظام المحاكم الخاصة وصعوبة الدفاع وفاقا لهذا على غير المختصين من الإنجليز، ثم علم أن شاعر الأحرار (بلنت) صديق القضية الإيرلندية والقضية المصرية هو صاحب الرأي في اختياره، فقبل أن يفاتحه بأوجه دفاعه، وقال المحامي في ذلك إن الشيخ محمد عبده «لم يتخلص من تأثير الصدمة الناشئة عن توقيفه إلا في أواخر أيامه في السجن، وحينئذ أخذ يعاملنا بتلك الثقة التي سعينا لاستحقاقها».
وإن هذه الصدمة - كما سماها برودلي - لهي خير مثال لذلك التفاهم العسير بين عقول الشرقيين والغربيين في الدوافع النفسية التي تخامرهم إبان الفتن الاجتماعية، ولعلها سبب من أسباب ارتياب الشيخ محمد عبده في نية محاميه أو قدرته؛ فإن الشيخ قد سئل كما سئل غيره - وكان عمله في الثورة غير عملهم، وداعيه إلى المشاركة فيها غير دواعيهم - فنفى بطبيعة الحال أكاذيب الشهود الملفقين وتهم الأذناب المسخرين من قبل القصر والحاشية، ولم يعترف من التهم بغير الواقع الذي وقع منه رأيا وعملا، وكله - كما رأينا - أخطر من أن يعد الاعتراف به نكوصا عن التبعة وتنصلا من الجريرة، فخيل إلى برودلي أن موقف الشيخ السجين - بين ما نفاه عن نفسه وأنكره من شهادة غيره - إنما كان ضعفا تبتلى به النفوس الشرقية في أمثال هذه الشدائد، وليس أسهل عند هؤلاء الغربيين من مداراة سوء الفهم عندهم بالخلاف المزعوم بين طبائع الشرقيين وطبائع الغربيين.
على أن هذا المحامي نفسه لم يستطع أن يحجب عن عقله عظمة الرجل في غير ما توهمه من أثر «الصدمة» ... وأشاد بمواهبه الخارقة في غير موضع من كتابه، فقال: «إنه ربما كان أعظم الناس موهبة بين الرجال الوطنيين المصريين ... ولا شك أنه ساعد من قبل كثيرا على جعل الرأي العام عاملا حقيقيا في الترقي المصري، ولم يكن متهوسا في الدين، بل هو من المسلمين القائلين بالتوسيع الشديد، وكانت أفكاره السياسية تنطبق على الرأي الجمهوري الحر ... ووطنيته التي لا شائبة للأنانية فيها هي التي حالت دون استياء رفقائه المتحمسين من خطته الدينية علانية، حتى إن عرابي باشا صديقه قال عنه مرة: إن رأي الشيخ عبده أصلح للقبعة منه للعمامة.»
ثم كتب بعد توديعه: «في مساء اليوم الأول من شهر يونيو سنة 1881 ودعت في الظلام محمد عبده الذي ذهب أخيرا منفيا عن القطر المصري مدة ثلاث سنوات ... وإذا جاز لمصر أن تسير منفردة أو يكون لها بداءة خير يوما من الأيام، فإنها لا يسهل عليها الاستغناء عن مثل الشيخ محمد عبده العالم المحرر ...»
Página desconocida