Genio de la Reforma y la Educación: El Imán Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Géneros
إلا أن الحكمة البصيرة إذا حاف عليها الجمود، واصطلحت عليها الأثرة مع الجمود، ذهبت أسبابها وبقيت قيودها، وتحولت من الرقابة البصيرة إلى الحجر الأعمى والعداء اللجوج، وكان فعل الأثرة هنا أشد من فعل الجمود في كراهة المزايا العلمية التي يمتاز بها العارفون، ويحرمها أصحاب الظهور بالمعرفة وهم يكرهونها مخلصين لجهلهم بحقيقتها، إن لم يكرهوها مغرضين لخوفهم من مزاحمتها، وقد أوشك الحذر من تلك العلوم أن ينقلب في أوائل القرن السابع عشر من الحكمة البصيرة إلى الجمود المعيب والغرض المريب، وضعف الغيورون عليها من حمايتها واحتمال تبعاتها ومصاعبها، ولكنهم استفادوا من قوارع الهزيمة بعد الحملة الفرنسية شيئا واحدا على الأقل، وهو الشعور بالأسف عليها، والجرأة على بث هذا الأسف في كتبهم المتداولة، ومنها كتبهم التي ألفوها في صميم علوم الدين والشريعة، فلم ينس الشيخ حسن العطار - وهو يبسط القول في أصول الفقه في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - أن يصرح بأسفه لإهمال علوم الحكمة واللغة، فيقول في كلامه على القياس من الجزء الثاني: «من تأمل ما سطرناه وما ذكر من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام، علم أنهم كانوا من رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها، حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع، يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شبههم، وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير أهل الإسلام؛ فإني وقفت على مؤلف للقرافي رد فيه على اليهود شبها أوردوها على الملة الإسلامية لم يأت في الرد عليهم إلا بنصوص من التوراة وبقية الكتب السماوية، حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها على ظهر قلب، ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات.
ومن نظر ما دار بين المصنف - رحمه الله - وبين عصريه الأديب الصلاح الصفدي من المراسلات البليغة والأشعار الرقيقة، علم أنه - رحمه الله - ممن تخضع له رقاب البلغاء وتجري في مضماره سوابق الأدباء. وكذا ما دار بين سلطان المحدثين الحافظ ابن حجر العسقلاني ومن عاصره من فحول الأدباء من لطائف الأشعار والنكات الأدبية، وكذا العلامة الدماميني، بل بين الحافظ السيوطي والسخاوي من المناقضات وما ألفه من المقامات، وفيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه؛ علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة ، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون المستمدون من كلامهم، نكررها طول العمر ولا تطمع نفوسنا إلى النظر في غيرها، حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب، فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخصلنا منه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في جمع الجوامع فلا أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة، وهكذا؛ فصار العذر أقبح من الذنب. وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس، فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم، فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها، وإن تفطنا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساويا، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى، ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة الأدب. وأما إذا وقعت مسألة غامضة من أي علم كان، عند ذلك تقوم القيامة، وتكثر القالة، ويتكدر المجلس، وتمتلئ القلوب بالشحناء، وتغمض العيون على القذى، فالمرموق بنظر العامة الموسوم بما يسمى العلم إما أن يتستر بالسكوت حتى يقال إن الشيخ مستغرق، أو يهذر بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع.
وقالوا سكرنا بحب الإله
وما أسكر القوم إلا القصع
فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظ ببغداد:
ما في الديار أخو وجد تطارحه
حديث نجد ولا خل تجاريه
وهذه نفثة مصدور، فنسأل الله السلامة واللطف.»
ثم عاد الشيخ إلى بث هذا الأسف بعد ذكر العلوم العصرية والإلمام بمؤلفاتها المترجمة عن اللغات الأوروبية، فقال في عرض الكلام على الخلاء والملاء وضغط الهواء: «إنا لو وضعنا خشبة مستوية أو أنبوبة مسدودة الرأس في قارورة، بحيث يكون بعض الأنبوبة داخل القارورة وبعضها خارج عنها، وسددنا رأس القارورة بحيث لا يدخلها هواء ولا يخرج، وذلك بأن نسد الخلل بين عنق القارورة والأنبوبة سدا محكما لا يمكن نفوذ الهواء فيها، فإذا أدخلنا الأنبوبة فيها أكثر مما كانت بحيث لا يخرج شيء من الهواء عنها انكسرت القارورة إلى خارج، وإذا أخرجناها عنها بحيث لا يدخل فيها شيء من الهواء انكسرت إلى داخل، ولولا أنها مملوءة بالهواء وما فيها من الأنبوبة بحيث لا تحتمل شيئا آخر لم يكن كذلك، فدل ذلك على امتناع الخلاء. وقد قال شارح حكمة العين: إن هذه إقناعيات لا برهانيات. وأقول: إن مسألة الخلاء ومسألة إثبات الميل في الأجسام من مسائل العلم الطبيعي، وبتحقيقها ينكشف للفطن أسرار غريبة، وعليها ينبني كثير من مسائل علم جر الأثقال وعلم الحيل واستحداث الآلات العجيبة. ووقع في زماننا أن جلبت كتب من بلاد الإفرنج وترجمت باللغة التركية والعربية، وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة اطلعنا على بعضها، وقد تتحول تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل، وتكلموا في الصناعات الحربية والآلات النارية ومهدوا فيها قواعد وأصولا، حتى صار ذلك علما مستقلا مدونا في الكتب، وفرعوه إلى فروع كثيرة، ومن سمت به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته - إن كانت سليمة - في رياض الفهوم.
فكن رجلا رجله في الثرى
Página desconocida