غربت الشمس ولم يأت أحد، وبعد الغروب رأى ياسر ساهرا برفقة رجل في ملابس الخصيان دخلا من باب القصر ولم يعترضهما أحد من الحراس كأنهم كانوا على موعد، فعلم ياسر أن أحدهما عبد الله، فتنحى ريثما مرا، وراقب جهة مسيرهما فرآهما سائرين نحو قصر المؤنس إلى الحديقة التي اجتمعا فيها في المرة الماضية، فسار من جهة أخرى بحيث يتحقق أن الزهراء نزلت لمقابلة عبد الله، فلما تحقق من ذلك، أصبح همه أن يأتي الناصر قبل أن يفترقا ليرى الاجتماع بنفسه، فيكون ذلك أدعى إلى غضبه وسرعة انتقامه.
فرجع إلى الباب الخارجي الذي يدخل منه الناصر إذا عاد من قرطبة وأخذ يتشوف عن بعد، وقد دنا العشاء وأظلمت الدنيا، لكن قصور الزهراء كانت تنار ليلا بالمصابيح من كل أطرافها. ورآهم ينيرون الطريق بينها وبين قرطبة استقبالا للخليفة، ولم تمض هنيهة حتى رأى الخصيان والفرسان وعليهم الجواشن مسرعين يليهم سائر الموكب وفي وسطه الخليفة، وإلى جانبه تمام رئيس الخصيان زميل ياسر، ولم يكن بينهما تحاب، شأن المتنافسين في المناصب في كل زمان، ولكن الناصر كان يقدم تماما في أكثر الأحيان ويقلل من نفوذ ياسر، وهذا يعتقد أن الزهراء هي التي أوحت إلى الناصر بأن يقلل من شأنه؛ ولذلك زاد رغبة في الانتقام منها، ورأى أن هذه الفرصة أثمن الفرص ليظهر إخلاصه للناصر وتفانيه في خدمته، ليغير ما في نفسه ويرتفع في نظره على تمام.
فلما رأى الناصر في موكبه وتماما إلى جانبه، لم يعد يصبر عن التصدي لمخاطبته قبل الوصول إلى القصر، مخافة أن يذهب إلى قصر آخر غير المؤنس، ثم يشق عليه استقدامه في تلك الساعة.
فلما وقع نظر الناصر على ياسر توسم في وجهه خبرا، فانفرد عن الموكب نحوه، فمشى ياسر في ركابه حتى دنا من قصر المؤنس، وترجل الخليفة وأشار إلى الناس بالانصراف، وظل ماشيا مع ياسر فقال له: «ما وراءك يا ياسر؟»
قال ياسر: «ما ورائي إلا الخير، وكنت أود أن لا يعلم مولاي إلا بما يسره لو لم أعلم أنه راغب في معرفة سر ذلك الاجتماع.»
ففطن الناصر إلى أنه يعني اجتماع الزهراء بعبد الله، فقال: «هل جاء ولدنا عبد الله إلى هنا؟»
قال ياسر: «نعم يا سيدي، ولو أنه جاء كما يجيء سائر إخوته وأهله لم يكن بأس من مجيئه، ولكنه أتى متنكرا.»
قال الناصر: «وكيف يأذن الحراس بدخوله؟»
قال ياسر: «يأذنون له بأمر الزهراء، فإنها توصيهم بذلك عن طريق أحد خدمها.»
فغضب الناصر وقال: «وأين هو الآن؟»
Página desconocida