قال: «نعم. هل أدخل من هنا؟»
فقال بصوت ضعيف: «تمهل قليلا ريثما أعود إليك!» وتركه وعاد بمصباحه وجعفر واقف في الزورق ينتظر رجوعه، ويفكر في سبب هذا التستر. وبعد قليل ظهر النور وسمع صوت القيم يقول: «تفضل على مهل.»
فاستغرب جعفر هذا التخوف وصعد من الزورق ومشى حتى دنا من الباب السري، فقابله الرجل بالمصباح وقال: «تفضل يا مولاي أدخل.»
فدخل والرجل يمشي بين يديه بالمصباح، فمرا بالمصطبة فرأى آثار الشراب والطعام لا تزال فيها كأن الجلوس غادروها من عهد غير بعيد، فتحير في أمره وحدثته نفسه أن يستفهم عن سبب ذلك التغيير، ولكنه عدل عن ذلك. وظل الرجل يسير أمامه حتى بلغ القاعة الوسطى في دار النساء، فرأى المنائر في زواياها وجدرانها قد أضيئت شموعها، وليس هناك أحد، فلم يتمالك أن سأل الرجل: «أين هو مولانا ولي العهد؟»
قال: «إننا ذاهبان إليه يا سيدي، تعال معي ولا تضجر.»
الفصل الثالث والثلاثون
خبر جديد
فمشى جعفر في أثر القيم وهو يدخل من قاعة إلى قاعة، وكلها مضيئة بالشموع على المنائر، وفيها الرياش الفاخر يختلف في كل قاعة لونا وشكلا عما هو في القاعات الأخر، حتى وصل إلى باب مقفل وقف عنده القيم ونقر عليه نقرا خفيفا، فسمع جعفر حركة ثم فتح الباب وأطل منه الفضل بن الربيع وهو لا يزال بثوب المنادمة كما فارقه، وأمسك بيده وأدخله وهو صامت، فدخل جعفر إلى غرفة لم يجد فيها إلا الأمين جالسا على طنفسة، وهو أيضا بملابس المنادمة، وبجانبه امرأة قد تزملت بعباءة ووجهها مكشوف، فعرف أنها جارية، ورأى على وجهها آثار الاهتمام، فحياهم ووقف، فأمره الأمين بالجلوس قائلا: «اجلس واسمع هذا الحديث الغريب.»
فجلس وجلس الفضل إلى جانبه، فقال الأمين: «قد جاءتنا هذه الجارية بخبر يهمك ويهمنا. إنها من جوارينا وقد كلفناها بالتجسس لنا على ذلك الوزير، فاسمع ما جاءتنا به عن خيانته.»
فاستبشر جعفر بما سمعه، وتطاول بعنقه نحو الجارية، ولبث صامتا، فإذا هي توجه كلامها للأمين وتقول: «أنت تعلم يا مولاي أن يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي كان قد خرج على الدولة في الديلم، واجتمع حوله جماعة الشيعة، وكلهم ناقم على بني العباس، يريدون إخراج الخلافة من أيديهم على ما يزعمون. وبعث أمير المؤمنين الرشيد لحربهم غير واحد، وهم يزدادون تمردا حتى أنفذ إليهم الفضل بن يحيى؛ أخا الوزير جعفر، فلما وصل بجنده إلى الطالقان وعلم أن الرجل متحصن في جبال الديلم، احتال في إنزاله واستقدامه ووعده خيرا، فوثق يحيى بمواعيده؛ لأنه من الشيعة مثله، فجاءه فتلطف في معاملته وطلب إليه أن يصحبه إلى بغداد ويسلم نفسه لأمير المؤمنين فأبى، فاستحثه على الذهاب على أن يشترط ما أراده، ويكتب له الرشيد ذلك بخطه. فتم الوفاق بينهما على عهد أمان كتبه الفضل وبعثه إلى مولانا الرشيد، فوقعه للرجل - كما تعلمون - حتى أتى إلى بغداد فاستقبله أمير المؤمنين أحسن استقبال، وأجرى
Página desconocida