ثم رأت عتبة أن تتجلد وتخفف عن مولاتها فقالت لها: «لا يخفى عليك يا مولاتي أن أخاك أمير المؤمنين - حفظه الله - لم يمنعك من الزواج بذلك الوزير إلا لعدم كفاءته، فإنك بنت خليفة، وأخت خليفة، يتصل نسبك بعم النبي
صلى الله عليه وسلم ، والوزير مولى فارسي مثل سائر الموالي، فكيف تتزوجينه ومثلك تتزوج أحد أبناء عمها الهاشميين؟ فأمير المؤمنين مشهور بحبه لك، وإنما منعك من الزواج علوا لمقامك.»
فصاحت: «ويلك يا عتبة! ألا تزالين مخدوعة بهذه التمويهات. إذا كان أخي يعد الزواج بالموالي أو العبيد حطة لمقام الخلافة، فما باله يتزوج هو بالجواري ويستولدهن ويولي أولادهن العهد بالخلافة. لعل الجارية أرفع مقاما من المولى؟! ناهيك بما في قصوره من الجواري للتسري بلا عقد. فلماذا لم يقتصر بالزواج على ابنة عمه زبيدة مع ما يظهره من حبه لها واحترامها؟ ولكنه أطاع شهواته ولم يجد من يصده فانغمس فيها، ورآني ضعيفة فاستبد بي. عرفني بشاب لا أعرف في أبناء عمي من بني هاشم أحسن منه، وزوجني به، ثم منعني منه، وأصبحنا نعد التقرب خيانة، ونخشى أن يطلع أحد على سرنا كأننا من أهل الفجور - نعوذ بالله - ولكن من يستطيع أن يقول ذلك لأخي ولا تكون حياته في خطر؟!»
الفصل السابع
العباسة
وكان أبو العتاهية قد آلمه ظهره وهو منحن عند الباب ينظر من ذلك الثقب وقدماه ترتعدان، وهو يمسك أنفاسه مخافة أن يشعر به أحد. فلما سمع ما دار من الحديث، علم أن الفتاة هي العباسة أخت الرشيد. وكان يعرف أن الرشيد عقد عليها لجعفر بن يحيى البرمكي؛ وزيره؛ ليحل له النظر إليها؛ لأن الرشيد كان يحب جعفرا ويحب الاجتماع به، ولا يصبر على بعده، وكان الرشيد يحب أخته العباسة أيضا، ويجب أن يراها كثيرا، فعقد لجعفر عليها حتى يحل له أن يراها فقط، وخوفه مما وراء ذلك.
وعلم أبو العتاهية مما رآه وسمعه أن جعفر تزوج العباسة سرا، وأن الغلامين اللذين معها هما ثمرة ذلك الزواج، وأنها تخاف أن يعرف أخوها الرشيد بذلك فيقتلها، فخفق قلب أبي العتاهية فرحا بذلك الاكتشاف؛ لما يرجوه من الكسب الكثير بواسطته؛ لعلمه أن أعداء جعفر يبتاعون مثل هذه الوشاية بألوف من الدنانير، وخاصة الفضل بن الربيع؛ لأسباب تقدم ذكرها. ودمعت عينا أبي العتاهية لا تأثرا لحالة العباسة، بل من طول حملقته وتطلعه من ذلك الثقب، وأحس وهو في تلك الحالة الحرجة أن العطاس يكاد يدهمه، فخشي أن يعطس فيفتضح أمره، فجعل يفرك أرنبة أنفه حتى أذهب العطاس، فعاد إلى التلصص والتفرس. وكان قد سمع عتبة تخفف عن العباسة وتقول لها: «دعينا من النواح الآن؛ فقد تكبدت المشقة والخطر لتشاهدي ولديك؛ فاستمتعي برؤيتهما، ودعي المقادير تجري بما يشاء الله.»
فأطاعتها، وكان الغلامان في حجرها وهما شاخصان إليها، وقد استغربا ما رأياه منها. فلما رأتهما ينظران إليها والدمع لا يزال في عيونهما لم تتمالك عن الابتسام وعيناها تقطران دمعا، وتناولت الكبير وضمته إلى صدرها، وجعلت تقبله في خديه، وفي عينيه، وجبينه ورأسه وعنقه وصدره، وتستنشق ريحه، وهو غارق في الضحك يظنها تلاعبه أو تداعبه. وأنى له أن يشعر بما يجول في خاطرها أو بما يهيج من عواطفها، وهو لا يعرف من ملاذ الدنيا إلا الطعام والشراب، ولم يكابد من حوادث الزمان إلا اللعب بالرمل أو بالكعاب، أو بغيرهما من الألعاب؟! وما مطامع الدنيا عنده إلا ثدي أمه، فإذا فطم كان همه بطنه، ومطمعه عجلة يديرها، أو كرة يلعب بها، وتسليته حصى يبني بها بيتا، أو طينا يصنع منه تمثالا. يرى الميت فيظنه نائما، ويلقى الثعبان فيحسبه حبلا. لا يخاف الهجر، ولا يحاذر الفقر، ولا يعرف نوائب الدهر. ربما أحب هرة تلعب بين يديه أكثر مما يحب والديه؛ لأنه يحب كل ما تنتهي يده إليه. ولو عقل لقاس تعلقه بطير عاشره بضعة أيام ثم ذهب عنه؛ كم يكون أسفه عليه! فكيف يكون تعلق الوالدة بابنها وهو حشاشة قلبها، وقطعة من نفسها، ومثال حبيب قلبها؟! لا لوم على الأطفال إذا لم يدركوا حب الوالدة؛ لأنه سر مغلق على غير الوالدين. ومهما يكن من ارتقاء عواطف الشبيبة، واختلاطهم بالعائلات، ومشاهدتهم حنو الوالدات، فهم لا يدركون حقيقة ذلك الحنو حتى يولد لهم الأولاد، فيذوقوا مرارة التربية وحلاوتها بين مداعبة ولد يشرق وجهه صحة، ويسيل كلامه لطفا، وتزيده اللكنة عذوبة، وسهر على طفل يقاسي الألم، ويعجز عن التعبير عن موضعه لاحتباس كلامه، أو يكتمه خوفا من مرارة الدواء. والوالدان بين ذلك يراقبان حركاته، ويحصيان أنفاسه، وقد غلت أيديهما، وتفطر قلباهما، وضاقت الدنيا عليهما، ولا سيما الوالدة، فإنها ألصق بولدها في طفولته؛ إذا مشى مشى قلبها معه، أو ضحك رقصت جوارحها له، وإذا تكلم كانت كلها آذانا لعله يلتمس منها شيئا يسره ويسرها أن يناله، ولو كان في الظفر به شقاؤها. وهي تزداد حبا له كلما تعذبت في تربيته، ويزداد حنوها عليه بزيادة شقائها به. فمن أين لغير الوالدين أن يفقهوا ذلك، أو يدركوا حنان الوالدة؟ حتى المتزوجين الذين لم يرزقوا أولادا، فإنهم لا يستطيعون إدراك حب الوالدة لولدها إلا تخيلا. وأين الحقيقة من الخيال؟
الفصل الثامن
البغتة
Página desconocida