ونشأت حول مدينة المنصور أحياء أخرى على الجانب الغربي، أهمها الكرخ، وفيه كان يقيم التجار من الأجانب وخاصة الفرس، وحي الحربية في الشمال، وأكثر سكانه من العرب، فكانت بغداد في أيام الرشيد قسمين: قسما شرقيا، وقسما غربيا، بينهما ثلاثة جسور أهمها الأوسط، ويعرف بالجسر أو جسر بغداد، وهو يوصل بين مدينة المنصور والرصافة رأسا. وكان في بغداد على عهد الرشيد وما بعده أنهار تنبع من دجلة والفرات وتخترق أحياء المدينة. وقد بنى الناس قصورهم على ضفافها أو فيما بينها، أشهرها: نهر عيسى، ونهر طابق، ونهر الدجاج، ونهر البزازين، ونهر الصراة، ونهر جعفر، وغيرها.
وكانت بغداد في أيام الرشيد آهلة بالقصور والحدائق، وأهلها في رغد ورخاء، والأموال تنصب في خزائنها بالملايين، والخليفة يهب ويجيز، والناس يتقاطرون إلى بغداد التماسا للتكسب بما يرضي الخليفة أو رجاله من أسباب الارتزاق، وفيهم العربي، والفارسي، والرومي ، والتركي، والكردي، والأرمني، والكرجي، والسندي، والهندي، والصيني، والزنجي، والحبشي ... على اختلاف الأجناس، بين صانع، وتاجر، ونخاس، وشاعر، ومغن، وأديب، ونحوي، وراو ... وفيهم المسلم، والذمي، والحر، والمولى، والعبد، والغلام، والجارية. وكلهم يحومون حول دار الخلافة أو دور الأمراء يبيعونهم السلع، أو يتملقونهم بالمديح، أو يدسون إليهم أسباب الزلفى استنزافا للأموال. وهؤلاء يبذلون الأموال بسخاء، يأنفون أن تعد عطاياهم بمئات الدراهم، وإنما يعدونها بالألوف وألوف الألوف. وكيف يقدرون قيمة المال وهو ينصب في خزائنهم انصباب السيل ... إذ كانوا يشاطرون أهل الأرض غلاتهم فضلا عن الجزية والغنيمة، فإذا صار ذلك إلى الخليفة وأمرائه استكثروه فأنفقوه على من يحوم حولهم من المقربين.
الفصل الثاني
أبو العتاهية
وكان في جملة المرتزقين بالشعر على أبواب الخلفاء أبو العتاهية، وأصله من الموالي مثل أكثر شعراء ذلك العصر.
وكان أبو العتاهية في أول أمره يصنع الجرار، ويحملها في قفص على ظهره، ويتجول في الكوفة ليبيعها، وكان ذا قريحة شعرية فنزل بغداد، وما لبث أن ارتقى بشعره إلى مجالسة الخلفاء. وأول من قربه منهم المهدي بن المنصور، وقد فتن به وبشعره حتى كان المهدي يصحبه في الصيد أو النزهة ويكرمه ويجيزه. وكان ذلك شأنه مع الهادي بن المهدي، ولم تطل مدة حكم الهادي، ولكنها على قصرها أثرت في قلب أبي العتاهية، فلما مات الهادي عاهد أبو العتاهية نفسه ألا يقول شعرا بعده.
فلما تولى هارون الرشيد طلب إليه أن يقول شعرا فأبى، فغضب عليه، وأمر بحبسه في مكان مساحته خمسة أشبار في خمسة، فاستعطفه وقال شعرا غنى به الموصلي؛ المغني المشهور، فأمر له الرشيد بخمسين ألف درهم، وأصبحت له عند الرشيد منزلة كبيرة، حتى كان لا يفارقه في حضر ولا سفر إلا في طريق الحج، وعين له الرشيد راتبا سنويا غير الجوائز، وغير ما كان يناله من رجال الدولة وجوائزهم يومئذ بألوف الدراهم، فجمع مالا كثيرا، لكنه كان مع ذلك طماعا شديد البخل يجمع المال ولا ينفقه، ولا يدخر وسعا في حشده بأية طريقة كانت، وخاصة بعد أن نذر الزهد وعاهد نفسه ألا ينظم شعرا، فقل تكسبه من الشعر، فأخذ يغتنم الفرص للاكتساب من أبواب أخرى.
وكان أبو العتاهية في خلافة الرشيد حوالي سنة 178ه يحضر مجلس محمد الأمين بن الرشيد، وهو يومئذ في السابعة عشرة من عمره. وكان الأمين ميالا إلى القصف واللهو منذ نعومة أظفاره لا يخلو مجلسه من المغنين، وأهل الخلاعة، والجواري، والغلمان، وهو أول من استكثر من الغلمان والخدم، وتفنن في انتقائهم وتزيينهم. وكان يشهد مجلسه كثيرون من الشعراء، ولا سيما أهل القصف والمجون منهم؛ كالحسن بن هانئ الملقب بأبي نواس. وكان أبو العتاهية مقربا من زبيدة أم الأمين، فكان يحضر مجلس الأمين لعله يصيب كسبا أو جائزة بسبيل من السبل. وكان الأمين كريما مسرفا لا يعرف للمال قيمة.
وكان لا يشهد مجلس الأمير من أهل الجد والدهاء إلا من كان له غرض سياسي لا يرى الوصول إليه إلا على يد الأمين، أو تقربا به إلى أمه زبيدة، وهي أحب نساء الرشيد إليه؛ لأنها ابنة عمه، ولها كلمة نافذة عليه.
وكان أكثر نساء الخليفة يومئذ من الجواري المعتقات؛ ولذلك لم يكن بين العباسيين خليفة أمه وأبوه هاشميان إلا الأمين، فكان الذين يحبون التقرب من الرشيد بالدالة أو الوساطة أو الدسائس يتزلفون إليها بالثناء على ابنها، مع اعتقادهم أنه ليس أهلا للخلافة، ويطعنون على أخيه المأمون؛ لأن أمه جارية فارسية، ويحطون من قدره عندها ... وهو في الحقيقة أفضل من ابنها عقلا وأدبا.
Página desconocida