ثم رأت أن البكاء لا يجديها نفعا، وأحست أن خير ما تفعله في تلك الساعة أن تسعى في الخروج من القصر، فإذا خرجت نجت من القتل وأبلغت الخبر إلى جعفر، وفي نجاته تعزية لها على مصابها في سيدتها، وانتقل فكرها فجأة إلى أبي العتاهية؛ لاعتقادها أنه سبب هذه المصائب كلها، فلعنته، وتذكرت ما كان من حبه لها، وكيف طلبها من الخليفة وأبت المجيء إليه، فخيل لها أنها إذا وفقت إلى مقابلته فلربما استرضته بإظهار حبها له، وهو لا يعجز عن إخراجها من ذلك القصر؛ لما تعلمه من دالة الشعراء ونفوذهم، فإذا خرجت لا تعدم وسيلة في الوصول إلى جعفر، وتذكرت رغبة أبي العتاهية في المال - وهو كثير بين يديها - فإذا لم تستعطفه بالحب أغرته بالمال. ولما تصورت ذلك أحست بارتياح، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الانقباض؛ لأنها لا تعلم أين هو أبو العتاهية في تلك الساعة، ولا كيف تصل إليه.
ثم خطر لها أن المال يذلل الصعاب، ويلين أغلظ القلوب، فعزمت على بذله في أقرب الأسباب، فأخرجت عقدا من الجوهر كان في جملة ما جمعته من حلي مولاتها للسفر، وتنكرت في ثوب غريب، وتقنعت بخمارها، ولبست خفها، وخرجت تطلب باب القصر، وهي تتجاهل الأوامر بالاحتفاظ به مغلقا. فلما بلغت الباب ووجدته مقفلا قرعته ونادت البواب الذي كان عليه من عهد مولاتها العباسة، فلم يجبها أحد، فقرعته ثانية، ففتحت الخوخة وأطل منها رجل عرفت أنه حارس من جند الرشيد، فقالت له: «أين البواب؟ ما بالكم أقفلتم علينا الأبواب؟»
فأقفل الحارس الخوخة وتحول وهو يقول: «ادخلي. لا سبيل إلى الخروج.»
فقالت عتبة: «ويلاه! ولماذا؟»
فصاح فيها الحارس: «أدخلي ولا تكثري من الكلام؛ فإن القصر مقفل بأمر أمير المؤمنين.»
فصفقت عتبة وصاحت: «ما الذي جاء بي إليه؟»
فأدرك الحارس من ذلك أنها ليست من أهل القصر، ففتح الخوخة ونظر إليها، فرآها تبالغ في التقنع وهي تقول: «بالله عليك إلا فتحت لي وأطلقت سبيلي؛ فإني لم أرتكب ذنبا، ولا أنا من أهل هذا القصر.»
فقال الحارس: «وما شأنك؟»
قالت عتبة: «جئت البارحة في مهمة إلى مولاتنا العباسة، وخيم الظلام قبل الفراغ منها، فقضيت ليلتي مع بعض الجواري وأنا عازمة على الخروج إلى سيدي لئلا يستبطئني ويسيء بي الظن.»
فقال الحارس: «ومن هو سيدك؟»
Página desconocida