فقال: «لو لم أكن واثقا، بل لو لم أكن على يقين من الأمر ما عرضت حياتي لهذا الخطر العظيم.»
فتذكر الرشيد علاقة جعفر به، ورفعة مقامه عنده، فأكبر أن يدخل ذلك الشاعر بينهما، ورأى أن من الحزم والحكمة أن يغالطه فاغتصب ضحكة وقال: «لا ريب عندي أنك أقدمت على كشف هذا الأمر غيرة منك على مصلحة الدولة؛ ولذلك فأنت أهل للشكر والجائزة، ولكنك كلفت نفسك عناء عظيما بلا طائل؛ لأن وزيرنا لم يأت بهذا العمل من نفسه، فهو لم يطلق ذلك العلوي إلا بإشارتي، بعد أن تحققت أنه لا بأس من إطلاقه.»
فلما سمع أبو العتاهية ذلك أسقط في يده وتولاه الخجل، ولكنه اطمأن باله على حياته وقد ربح المال الذي وعده الفضل به، على أنه ظل خائفا من جعفر إذا بلغه خبر هذه الوشاية، فقال: «أحمد الله على أن ذلك لم يحدث إلا برأي أمير المؤمنين، وقد اطمأن بالي على حياة الوزير، ولكنني أصبحت أخشى على حياتي منه إذا بلغه أني نقلت هذا الخبر، فيحسبني من أعدائه.»
فقطع الرشيد كلامه قائلا: «لا تخف؛ فإني سأكتم ذلك عنه. كن مطمئنا.» قال ذلك ونهض، فنهض أبو العتاهية وقد هدأ روعه. أما الرشيد فقد انحبس غضبه حتى ضاق صدره عنه وكاد يصرعه. فعل ذلك رغبة في إخفاء ما في نفسه عن أعداء جعفر. ولم يخف عليه أن أبا العتاهية لم يأت من عند نفسه، وأن الفضل هو الذي أرسله، ولكنه اكتفى بما سمعه وصفق، فجاء مسرور مسرعا كالبرق الخاطف، فقال له الرشيد: «خذ أبا العتاهية، ومر صاحب بيت مالنا أن يعطيه ألف دينار، وأطلق سبيله.»
فقال: «سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين.» وأمسك أبا العتاهية بيده وخرج به.
فلما خلا الرشيد إلى نفسه هاج بلباله وعادت إليه وساوسه، فتذكر ما دار بينه وبين إسماعيل في ذلك الصباح، وكيف رده خائبا رغم قرابته، وجلالة قدره، رعاية لحق جعفر. وكيف تبدر منه هذه البادرة، فيطلق أسيرا عهد به إليه، فثبت عنده ما كان يتهمه به من الميل إلى العلويين والرغبة فيهم عن العباسيين، فلما تصور ذلك هاج غضبه، ونسي موقفه، وجعل يمشي ذهابا وإيابا على غير هدى، ويخاطب نفسه قائلا: «هل أنا في حلم؟ أيرتكب جعفر هذه الخيانة وقد أحببته وأكرمته، ورفعت قدره، وسلمت إليه مقاليد الأحكام، وأطلقت يديه في شئون الدولة؟ وهل يعقل أن يكون ما سمعته وشاية من الحساد؟ لا يعقل ذلك. ولكن كيف أتصور أن يغدر بي جعفر ويطلق عدوا سلمته إليه، مع ما يعلمه من بغضي للعلويين؟ بل كيف يفعل ذلك ولا يخاف على حياته؟ وهذا أيضا لا يعقل، إلا أن يكون الرجل مصابا في عقله؛ لأنه يعلم بطش هارون إذا غضب.»
الفصل السابع والأربعون
مداعبة السباع
قضى ساعة في هذه المناجاة وهو لا يستقر في موقفه، وأخيرا هدأ من غضبه وأخذ يعمل فكرته فيما يجلو عنه هذه الشكوك، فرأى أن يسأل جعفرا نفسه عن حقيقة هذا الخبر، فإذا كان صحيحا بادر إلى الانتقام، فأمسك غضبه وتجلد. وكان الرشيد مع سرعة غضبه وشدة بطشه قوي الإرادة، له قدرة عجيبة على الكظم وكتمان ما في نفسه، فصفق فجاءه مسرور فقال له: «قد حدث ما يستدعي حضور الوزير إلى هنا؛ فادع لي صاحب الطعام، واذهب أنت إلى الوزير؛ فادعه إلي.»
فسأله: «ماذا أقول له؟»
Página desconocida