قال: «وتسمح لي أن أرى وجهك على حدة؟»
فضجر الرشيد من كثرة الشروط، ولكنه تحمله وقال: «ولك ذلك أيضا. قل!»
فقال: «لا تعجب يا مولاي من دالتي وجرأتي؛ فقد قيل:
ولن يباهي العبد أربابه
إلا إذا ما بطر العبد»
فلما سمع الحضور هذا البيت ظنوه يشير إلى جرأته في شروطه على الخليفة بما لم يسبق له مثيل، وأما الرشيد فحالما سمع قوله تذكر أنه قرأه منذ ساعة في تلك البطاقة، فانقبضت نفسه، وأدرك أن أبا العتاهية لم يقدم على ذلك إلا وفي نفسه شيء يريد أن يفضي به إليه، وخاصة بعد أن اشترط أن يرى وجهه - كناية عن مقابلته - فتغير الرشيد ونسي ما كان فيه من الطرب، وأصبح همه الاطلاع على سر تلك البطاقة، فنهض للحال ونهض الحضور معه ولم يفهموا شيئا مما في خاطره؛ لأنهم كانوا لا يعلمون شيئا من أمر تلك القصيدة. ثم صفق فجاء مسرور، فأسر إليه أن يجيز الشعراء والقيان، وأن يأتيه بأبي العتاهية وحده. وأحس الموصلي بوجوب الانصراف فاستأذن في الخروج، وخرج سائر من كان في المجلس.
وتحولت تلك الضوضاء إلى سكوت ووقار. أما مسرور فعاد ومعه أبو العتاهية وقد قبض على عنقه؛ لاعتقاده أنه السبب الوحيد في انقلاب سرورهم إلى كدر، ولم يكن يشك في أن الرشيد سيأمر بقطع رأسه.
أما أبو العتاهية فإنه أقدم على ذلك الخطر طمعا في مبلغ كبير من المال وعده به الفضل بن الربيع، ومع جبنه وضعفه فقد غلب الطمع عليه حتى حمله على تلك المخاطرة فدبر هذه الوسيلة، وكان مطلعا على تلك القصيدة. ولا يبعد أن يكون هو ناظمها لأم جعفر. وقد علم أن أم جعفر بعثت بها باكرا، وأنها وضعت على سرير الخليفة في دار الخاصة، ولا بد من أن يكون الرشيد قد رآها وقرأها، فالإشارة إلى بيت منها تبعثه على طلب المزيد، فإذا استزاده قص عليه خبر إطلاق العلوي، على أنه لم يشعر بمقدار الخطر الذي عرض نفسه له، إلا حينما رأى انقلاب ذلك المجلس من الغناء والضوضاء إلى الانقباض والسكوت، فخفق قلبه وخاف على حياته، وخاصة بعد أن قبض مسرور على عنقه وجاء به إلى ما بين يدي الرشيد، فإنه دخل تلك الغرفة وقد انحرفت عمامته، وتشوشت لحيته، وارتعدت يداه، واصطكت ركبتاه، حتى لم يعد يستطيع الوقوف. فحالما وقع نظره على الرشيد ترامى على قدميه، وأخذ في تقبيلهما، وغلب عليه البكاء، فتحقق مسرور عند ذلك أنه مذنب ولا يلبث أن يسمع أمر الخليفة بقتله، فوقف ويداه على قبضة الحسام، وعيناه على شفتي الرشيد.
أما الرشيد فلما رأى ما استولى على أبي العتاهية من الرعب، وما أظهره من التذلل والاستعطاف، بعد أن أعطي الأمان، أشفق عليه وقال: «لا بأس عليك يا أبا العتاهية. إنك شاعرنا، ونحن نكرم الشعراء. قم ولا تخف.»
فلما سمع تلك العبارة وقف وهو مطرق لا يرفع بصره عن الأرض، والرعدة لا تزال ظاهرة في ركبتيه ويديه، وظل ساكتا خائفا حتى سمع الرشيد يأمر مسرورا بالخروج، فرمقه بطرف عينيه، فلما تحقق من خروجه اطمأن خاطره ورفع بصره إلى الرشيد بخشوع.
Página desconocida