فرجع إسماعيل وهو منحن يمشي القهقرى بين يديه على جاري العادة في الخروج من
حتى وصل إلى الستارة، وخرج والرشيد واقف ينظر إليه، وقد احتدم في نفسه من الغضب ما أقلقه وحبب إليه الخلوة بنفسه.
الفصل الحادي والأربعون
عبد الملك بن صالح
أما إسماعيل فخرج توا إلى جواده، وقد ندم على مجيئه، فركب ومشى الغلامان في ركابه، وهما غافلان عما يتقد في قلبه من الغضب، وما يتردد في ذهنه من الأسف على حال تلك الدولة بما يعلمه من تضارب الأحزاب، واختلاف الأغراض، فوصل إلى قصره والشمس قد تكبدت السماء، فوجد ابن الهادي في انتظاره، واستفهم منه عما جرى، فقص عليه بعض الخبر وأبلغه عذر الرشيد في امتناعه عن زواجه بالعالية، وبالغ في الاعتذار عنه لئلا يثير غضبه، ولم يخبره بطلب ولاية مصر، ولا ولاية العهد إلى أن قال: «وإني آسف لما اتفق لي من الفشل، والرشيد أكثر أسفا مني على ذلك، ولكن لا حيلة لنا في الواقع، فاصبر وكن عاقلا، وسنغتنم وقتا غير هذا للتحدث في هذا الأمر، فإن الرشيد حسن الظن بك.»
فلم يخف على جعفر غرض إسماعيل من تلطيف الخبر، ولكنه سايره وقال : «إني مذعن لأمرك، ولكن هل تعلم السبب الذي بعث على خطبة العالية لإبراهيم؟»
قال: «كلا، ولكن للوزير دالة على الخليفة، ولعبد الملك دالة على الوزير، فيبدو أنه طلب منه أن يتوسط له بخطبتها عند أمير المؤمنين، وهو ابن عمها وكفء لها، فأجاب طلبه.»
قال: «لو كان الأمر كذلك لهان، ولكنني أقص عليك السبب ليثبت لديك ما قلته عن استخفاف هؤلاء الموالي بالخليفة وأهله. أخبرني جاسوس لي عند جعفر في صباح هذا اليوم أن هذا الوزير كان في مجلس أنس خلا فيه بندمائه، فلبس الحرير وتضمخ بالطيب، وكذلك فعل سائر جلسائه، وأمر حاجبه أن يحجب عنه الجميع إلا عبد الملك بن بحران؛ قهرمانه، فسمع الحاجب لفظ عبد الملك ولم يسمع لفظ ابن بحران. وكان عبد الملك بن صالح ابن عمنا يترقب فرصة يخاطب فيها الوزير في بعض حاجاته، فلما سمع بذلك المجلس قدم إلى داره، فجاء الحاجب وقال لجعفر: إن عبد الملك بالباب، فظنه ابن بحران، فأمر بإدخاله، فدخل وهو في سواده وقلنسوته فرأى القوم في ملابس المنادمة. ولما رآه جعفر اربد وجهه، وأنت تعلم أن عبد الملك لا يشرب النبيذ، فلما رأى تلك الحال خلع السواد والقلنسوة وطلب ثياب المنادمة، ودخل وسلم وقال: «أشركونا في أمركم، وافعلوا بنا مثلما تفعلون بأنفسكم.» فجاء الخادم وألبسه ثياب المنادمة، وأحضر الطعام فأكل، وبنبيذ فأتوه برطل فشربه، ثم قال لجعفر: «والله ما شربته قبل اليوم.» فزاده جعفر من النبيذ، وأتوه بالطيب فتضمخ، ونادم القوم أحسن منادمة فذهب عن جعفر خجله. فلما أراد عبد الملك الانصراف قال له جعفر: «أذكر حاجاتك؛ فإني لا أستطيع أن أكافئك على ما كان منك.» فقال: «إن في قلب أمير المؤمنين موجدة علي فتخرجها من قلبه، وتعيد إلي جميل رأيه في.» فقال: «قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك.» فقال: «وعلي أربعة آلاف درهم دينا.» قال: «تقضي عنك، وإنها لحاضرة، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك، وأدل على أحسن ما عنده لك .» قال: «وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بنسب ينتمي إلى الخلافة.» قال: «قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته.» قال: «وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه.» قال: «وقد ولاه أمير المؤمنين مصر.»
1
فانظر إلى هذه الجرأة التي ليس أغرب منها إلا رضاء الرشيد بها! وقد فعل جعفر ذلك مكافأة على شرب النبيذ، ونحن نلوم ابن عمنا الأمين مع صغر سنه على شربه، ونعده خليعا. وهذه هي الخلاعة، ولا يخفى عليك إضرارها بالملك. ومع ذلك، فإن الرشيد أطاع جعفرا ولم يفكر فيما يترتب على ذلك من ضعف الملك.»
Página desconocida