واستراح السادة الأجلاء. ثم قدمت لهم مائدة الطعام ودارت عليهم كئوس مترعة بخمر مريوط. وأمر الأمير الخدم أن يوزعوا على الجند كئوسا من خمر مريوط ابتهاجا بنجاته، فشرب الجند وصلوا للرب صلاة الشكر، ثم أنشدوا جميعا نشيد فرعون بأصوات كهزيم الرعد دوت في فضاء الصحراء، ولبثوا ما لبثوا ثم تأهبوا للرحيل، فرفعت الخيام والأثقال وغنائم الصيد، وسارت القافلة على نفس الترتيب الذي أتت به، إلا أن الأمير أمر الضابط ددف أن يسير في معيته، فأعلن بذلك عن نيته في جعله من الخاصة المقربين.
فخفق قلب الشاب الشجاع بنشوة المجد والفرح؛ لأنه لا يحظى بهذا الشرف العظيم إلا الأمراء ورجال الدولة المبرزون، وأحس بسعادة لا توصف إذ يسير في جناح هالة تتوسطها الأميرة مري سي عنخ، وخالها تسمع دقات قلبه العنيفة الخافقة بالحب والهيام ... وما كان يستطيع أن يعطف رأسه إليها، ولكنه كان يرى وجهها الجميل رؤية العين، يراه في الفضاء الممتد أمامه، ويشاهد سناه بالرغم من السمرة التي شابت الأفق إيذانا بالمغيب.
لو أنها جادت عليه بكلمة شكر مع الشاكرين، لكانت حسبه من المجد ومن الدنيا جميعا!
23
وكان ولي العهد جادا فيما نوى من مكافأة ددف بما هو أهله، كأنما الأقدار اختارته من بين الخلق ليمهد للشاب السعيد طريق المجد، فلم تمض أيام قلائل على حادث الصيد حتى استقبل فرعون مصر ولي عهده، وفي معيته الضابط ددف بن بشارو، وكانت مفاجأة سارة للشاب أكثر مما تهدف له أحلامه وآماله، ولكنه سار خلف الأمير رعخعوف بقلب تثبته شجاعة فائقة. واجتازا معا الردهات الطويلة ذات الأعمدة الشاهقة والحراس الجبابرة، إلى أن مثلا بين يدي من يحجب جلاله وجهه عن الأبصار.
وكان الملك رابضا على العرش، لا يدل على السنين التي بلغها سوى شعيرات بيضاء تتلألأ تحت تاج مصر المزدوج، وذبول خفيف في خديه، وتغير في نظرة عينيه صرفها عن حدة الفتوة والجبروت إلى تأمل الحكمة والعرفان.
وقبل الأمير يد والده العظيم وقال: هو ذا يا مولاي الضابط الشجاع ددف بن بشارو الذي أنقذ بشجاعته الفائقة حياتي من بين براثن الموت المحقق، يمثل بين يدي جلالتكم كما اقتضت مشيئتكم المقدسة.
فتعطف الملك ومد إليه يده، فقبلها الشاب جاثيا باحترام ديني عميق، وقال له الملك: لقد استأهلت أيها الضابط بشجاعتك رضائي عنك.
فقال ددف بصوت متهدج: مولاي صاحب الجلالة، إني كجندي من جنود الملك لا أعرف لنفسي غاية أسمى من أن أبذل حياتي في سبيل العرش والوطن.
وهنا قال الأمير رعخعوف: إني ألتمس من مولاي الملك الموافقة على تعيين هذا الضابط رئيسا لحرسي.
Página desconocida