وكانوا إذا أتى الربيع وصدحت السموات بأناشيد الطير، وانشقت أردية الشتاء الكثيفة عن نور الشمس البهيج، واحتفى الكون بعيد الشباب، فلبست الأشجار حللا من سندس، وازينت الشجيرات بألوان الورود والرياحين، وتدفق الحب في القلوب، كانوا يكثرون من رياضة الزورق على سطح الماء، وكانوا يتركون الأطفال عرايا إلا مما يستر، فكان خنى ونافا يقفزان إلى الماء ويسبحان ويتقاذفان بالكرة. ويقف ددف إلى جانب جاموركا يشاهدهما بسرور وغيرة، وربما طلب إلى أمه أن يفعل مثلهما فترفعه من تحت إبطيه وتغطسه في الماء إلى الوسط، فيلعب بقدميه ويصيح فرحا مسرورا.
فإذا ارتوت نفوسهم لهوا ولعبا عادوا جميعا إلى حجرة الحديقة الصيفية. وجلست زايا على الديوان، وجلس بين يديها ددف وخنى ونافا وأمامهم جاموركا باسطا ذراعيه، فتقص عليهم قصة البحار الذي تحطمت سفينته وقذفت به الأمواج على لوح من الخشب إلى جزيرة مهجورة، وتروي لهم كيف ظهر له الثعبان الهائل صاحب الجزيرة، وكيف كاد يفتك به، لولا أن علم أنه رجل مؤمن محمود السيرة، وأنه من رعايا فرعون، فطمأنه ووهب له سفينة من عنده محملة بالنفيس من الكنوز عاد بها سالما آمنا إلى وطنه.
وما كان ددف يسمع بأذنيه، ولكنه كان يرى بعينيه السوداوين الجميلتين.
كان سعيدا محبوبا، ومن ذا الذي كان يستطيع ألا يحب ددف ذا العينين السوداوين الدعجاوين، والأنف الطويل المستقيم، والروح الخفيف الضاحك؟ كان يحب إذا تكلم وإذا سكت، يحب إذا لعب وإذا سكن، يحب إذا رضي وإذا غضب. وقد تمتع بنعمة الحب واللهو في حياة قوامها الحب واللهو والخيال، يعيش كالخالدين دون أن يسأل عن غد.
إلى أن بلغ الخامسة وبدأت الحياة تكشف له عن بعض خبيئتها.
وفي ذلك الوقت بلغ خنى الحادية عشرة ونافا العاشرة واختتما تعليمهما الأولي، واختار خنى أن يلتحق بجامعة بتاح ليرقى مدارج علمها المتتابعة ويتفقه في الدين، والأخلاق، والعلوم والسياسة؛ إذ كان الغلام ميالا للعلم، شغوفا بالحكمة، وكان يرغب في شغل وظيفة دينية أو قضائية، أما نافا فلم يتردد في الالتحاق بمعهد خوفو للفنون الجميلة؛ لأنه كان يهوى الرسم والتصوير.
وجاء الدور على ددف ليلتحق بالمدرسة الأولية، وليقضى عليه بهجر زايا وجاموركا وعالم الأحلام كل يوم أربع ساعات كاملة، يصرفها مع الأطفال والأغراب في تعلم القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، والهندسة، والدين، والأخلاق، والتربية الوطنية.
وكان أول ما قيل له ولهم في اليوم الأول: «عليكم بالإصغاء التام، ومن يأب ذلك منكم فاعلموا أن أذني الطفل فوق خديه وهو يرهف السمع كلما ضرب.»
ولأول مرة في حياة ددف اشتركت العصا في التفاهم معه، على أنه أبدى استعدادا طيبا للتعلم، وأقبل بشوق عظيم على درس اللغة الهيروغليفية الجميلة، وبرع في فهم مسائل الجمع والطرح.
وكان لمدرس الأخلاق أثر عظيم في نفسه؛ لأنه كان ذا شخصية قوية محبوبة، وكان يبتسم ابتسامة حلوة تبث في أنفس التلاميذ المودة والاطمئنان، وزاد من حب ددف له أن وجد شبها بينه وبين أبيه بشارو في بدانة الجسم، وانتفاخ الشدقين، وجهارة الصوت وغلظه، فكان يصغي إليه بجامع وجدانه وهو يقول: «انظروا ماذا يقول حكيمنا قاقمنا، إنه يقول - تقدست روحه في السموات -: «احذر أن تكون عنيدا في الخصام فتستوجب عقاب الرب.» ويقول: «إن قلة الأدب بلادة ومذمة.» ويقول أيضا: «إذا دعيت إلى وليمة، وقدم لك من أطايب الطعام ما تشتهيه فلا تبادر إلى تناوله؛ لئلا يحسبك الناس شرها؛ فإن جرعة ماء تروي الظمأ، ولقمة خبز تغذي الجسم.» ثم يأخذ بعد ذلك في التفسير، وضرب الأمثال، وقص القصص، وكان كثيرا ما يقول لهم: «يجدر بالطفل منكم ألا ينسى ما تكلفته أمه من المتاعب من أجل راحته؛ فقد حملته في بطنها تسعة أشهر، وحضنته ثلاث سنوات وغذته بلبنها. احذر أن تغضبها؛ فالرب يستمع إلى شكواها ويستجيب دعاها.»
Página desconocida