هي أمه دون شريك وكاردا أبوه، وكأنما أرادت أن تطمئن إلى هذه الحقيقة فجعلت تناديه نداء منغوما قائلة: «ددف رع ابن كاردا ... ددف رع ابن زايا ...»
وجاءت العجوز بلبن الماعز، وبدأت الأم الصناعية ترضع الطفل رضاعا صناعيا ... حتى ظنت أنه شبع، ولم يبق أمامها إلا أن تتأهب للخروج إلى كاردا ... فاستحمت ومشطت شعرها ووضعت خمارها على منكبيها، وحملت ددف بين يديها وغادرت الفندق.
وكانت شوارع منف مزدحمة كعادتها بالمارين، راجلين وراكبين، ذكورا وإناثا، من وطنيين ومستوطنين وأجانب. ولم تكن زايا تعرف الطريق إلى الهضبة المقدسة، فسألت شرطيا فأجابها بأن الهضبة «جنوب شرقي سور منف يقطعها الراجل في ساعتين أو يزيد، والراكب في نصف ساعة.» وكانت يداها مملوءتين بالقطع الفضية فاكترت عربة ذات جوادين، وجلست باطمئنان وسعادة.
وسرعان ما انتزعتها أحلامها من الدنيا، وحلقت بها في سماء السعادة والغبطة، فسبق خيالها العربة إلى كاردا زوجها الحبيب المفتول الذراعين الأسمر الوجه ، فما أجمله في وزرته القصيرة التي تكشف عن ساقيه الحديديتين، وما أحب وجهه المستطيل بجبهته الضيقة وأنفه الكبير وعينيه الواسعتين وصوته الخشن العريض ذي اللهجة الطيبية القحة؛ وكم ذا تشتاق إلى ضم ساعديه وتقبيل فمه وسماع صوته.
وكان في أمثال هذه المقابلات التي يسبقها غياب طويل يقبل عليها بشوق ويقول لها مداعبا: «تعالي يا امرأة ... كأني بك أرض صخرية تشرب الماء ولا تنبت شيئا.» أما هذه المرة فلن يقولها، وكيف يقولها وهي تلقاه وعلى يديها أجمل ما حملت الأمهات؟! ولا ريب أنه سينظر إليها كالذاهل فتلين عضلات وجهه الصلبة، وتمتلئ عيناه البراقتان بنظرة حنان تذوب رقة وعطفا، ويهتف بها وهو لا يتمالك نفسه من الفرح: «وأخيرا ولدت يا زايا! أحقا هذا طفلي؟ تعالي إلي ... تعالي إلي ...» فتقول له وهي ترفع رأسها بكبرياء وأنفة: «خذ طفلك يا كاردا وقبل قدمه الصغيرة ... واسجد شكرا للرب رع ... إنه ذكر وقد سميته ددف.»
وأقسمت لتحملن زوجها على العودة إلى طيبة مسقط رأسه؛ لأن قلبها بات يوجس خيفة - لا تدري ما كنهها - من الشمال وأهله، وفي طيبة الجميلة، وتحت رعاية الرب آمون، تربي ابنها وتحب زوجها، وتعيش الحياة التي حرمتها دهرا طويلا ...
وأيقظتها من أحلامها جلبة أصوات وضجيج حياة، فنظرت إلى الطريق ورأت العربة تصعد طريقا ضيقا ملتويا والرجل يلهب الخيل بسوطه، ولم تستطع في جلستها أن ترى ما على سطح الهضبة، ولكن طرقت أذنيها أصوات أحياء ودوي آلات وأناشيد العمال، وعرفت من بينها نشيدا كان كاردا يترنم به في أوقات الصفاء وهو:
نحن رجال الجنوب نأتي مع مياه النيل،
من تلك الأرض التي اختارتها الآلهة سكنا والفراعين،
نسوق بين أيدينا الخصب العميم والعمران.
Página desconocida