وَلَا يَزَال هَذَا شَأْنهَا فِي مَوْقِفهَا هَذَا حَتَّى تَرَى اَلْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالْفَتَيَات قَدْ عُدْنَ بِأَوْلَادِهِنَّ وَإِخْوَانهنَّ وَآبَائِهِنَّ إِلَى مَنَازِلهنَّ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى شَاطِئ اَلْبَحْر مِنْ غَادٍ وَلَا رائح سِوَاهَا فَتَنَاوَلَ عَصَاهَا وَتَعَوَّدَ أَدْرَاجهَا إِلَى بَيْتهَا فَتَأْخُذ مَجْلِسهَا مِنْ حَافَّة قَبْر كَانَتْ قَدْ احتفرته بِيَدِهَا فِي أَرْض قَاعَتهَا وَتَوَهَّمَتْهُ مَدْفِنًا لِوَلَدِهَا فَتَظَلّ تَبْكِي وَتَقُول:
فِي أَيّ بَطْن مِنْ بُطُون اَلْأَرْض مَضْجَعك يَا بَنِي وَتَحْت أَيّ نَجْم مِنْ نُجُوم اَلسَّمَاء مصرعك وَفِي أَيّ قَاع مِنْ قِيعَان اَلْبَحْر مَثْوَاك وَفِي أَيّ جَوْف مَنْ أجواف اَلْوُحُوش اَلضَّارِبَة مَأْوَاك؟
لَوْ يُعَلِّم اَلطَّيْر اَلَّذِي مَزَّقَ حَثَّتْك أَوْ اَلْوَحْش اَلَّذِي ولغ دَمك أَوْ اَلْقَبْر اَلَّذِي ضَمَّك إِلَى أَحْشَائِهِ أَوْ اَلْبَحْر اَلَّذِي طواك فِي جَوْفه أَنَّ وَرَاءَك أَمَّا مِسْكِينَة تَبْكِي عَلَيْك مَنْ بَعَّدَك لرحموك مِنْ أَجْلِي؟ عُدْ إِلَيَّ يَا بَنِي فَقِيرًا أَوْ مُقْعَدًا أَوْ كَفِيفًا فَحَسْبِي مِنْك أَنَّ أَرَاك بِجَانِبِي فِي اَلسَّاعَة اَلَّتِي أُفَارِق فِيهَا هَذِهِ اَلْحَيَاة لِأَقْبَلك قُبْلَة اَلْوَدَاع وَأَعْهَد إِلَيْك بِزِيَارَة مَضْجَعَيْ مَطْلَع كُلّ شَمْس وَمَغْرِبهَا لِتَخَفٍّ بزورتك عَنِّي ضَمَّة اَلْقَبْر وَتَسْتَنِير بِوَجْهِك اَلْوَضَّاء ظُلُمَاته اَلْحَالِكَة.
مَا أَسْعَدَ اَلْأُمَّهَات اَللَّوَاتِي يَسْبِقْنَ أَوْلَادهنَّ إِلَى اَلْقُبُور وَمَا أَشْقَى اَلْأُمَّهَات اَللَّوَاتِي يَسْبِقْنَ أَوْلَادهنَّ إِلَيْهَا وَأَشْقَى مِنْهُنَّ تِلْكَ اَلْأُمّ اَلْمِسْكِينَة اَلَّتِي تَدِبّ إِلَى اَلْمَوْت دَبِيبًا وَهِيَ لَا تَعْلَم هَلْ تَرَكَتْ وَلَدهَا وَرَاءَهَا أَوْ أَنَّهَا سَتَجِدُهُ أَمَامهَا؟ وَهَكَذَا كَانَ شَأْنهَا صَبَاحهَا وَمَسَاءَهَا فَلَمْ تَزَلْ تُبْكِي وَلَدهَا بُكَاء يَعْقُوب وَلَده حَتَّى ذَهَبَ بَصَرهَا ذَهَاب بَصَره وَلَكِنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَنْ يوسفها صَبْرًا.
1 / 28