(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس خصاء الحيوانات كلها واحتج بما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((لا خصاء في الإسلام، ولا كنيسة سوى ما كان في القديم)) وذكر في قوله تعالى: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} يعني الخصاء. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه نهى أن تخصى الإبل والبقر والخيل، وكان ابن عمر يقول: منها نشأة الخلق فلا تصلح الإناث إلا بالذكور: يعني أن الله خلق الذكور والإناث للنسل، وفي الخصاء قطع النسل، فلا يجوز أن يقطع النسل. وقال بعضهم: يجوز خصاء الأنعام كلها إلا الخيل لما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه نهى عن خصاء الفرس. وقال بعضهم: خصاء البهائم سوى بني آدم جائز، وبه نقول لأن في ذلك منفعة للناس والناس قد احتاجوا إلى ذلك، فكما يجوز ذبح الحيوانات للحاجة إلى لحمها فكذلك يجوز الخصاء إذا كان في ذلك منفعة للناس. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بكبشين خصيين فلولا أن في ذلك الخصي من المنفعة ما لم يكن في غيره لما اختار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للأضحية الخصي، فلما اختار الخصي دل على أن الخصي أطيب لحما وأكثر شحما، فعند ذلك ثبت أن الخصاء جائز في الغنم فكذلك في سائر الحيوانات. وأما الخبر الذي قال: ((لا خصاء في الإسلام)) فالمراد به عند أكثر أهل العلم خصاء بني آدم. وقال بعضهم: معناه أن يخصي الرجل نفسه بيده فالنهي يصرف إليه. فإن قيل لم لا يجوز خصاء بني آدم وفيه أيضا منفعة؟ قيل: لا منفعة فيه لأنه لا يجوز للخصي أن ينظر إلى النساء كما لا يجوز للفحل، وهكذا روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن غيرها أنه لا يجوز نظر الخصي كما لا يجوز نظر الفحل. وقد كره بعض الناس سمة البهائم لأن فيها تعذيبا من غير فائدة. وقال بعضهم: لا بأس بها إذا كان فيها منفعة وتكون علامة. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشعر بدنة في صفحة سنامها فإنما أشعرها لأجل العلامة، فكذلك السمة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كي الحيوان على الوجه، ففيه دليل على أنه في غير الوجه جائز.
الباب السادس والأربعون بعد المائة: في السمر بعد العشاء
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس السمر بعد العشاء وأجازه بعضهم. فأما من كرهه فقد احتج بما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه نهى عن النوم قبل العشاء والحديث بعدها. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان لا يدع مسامرا بعد العشاء ويقول: ارجعوا لعل الله يرزقكم صلاة أو تهجدا. وأما من أباحه فقد ذهب إلى ما روى علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ربما سمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العشاء في بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليلة في الأمر الذي يكون من أمر المسلمين. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومسور بن مخرمة أنهما سمرا إلى طلوع الثريا.
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: السمر على ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون في مذاكرة العلم فهو أفضل من النوم. والثاني أن يكون السمر في أساطير الأولين والأحاديث الكاذبة والسخرية والضحك فهو مكروه. والثالث أن يتكلموا للمؤانسة ويجتنبوا الكذب والقول الباطل فلا بأس به والكف عنه أفضل للنهي الوارد فيه، وإذا فعلوا ذلك فينبغي أن يكون رجوعهم على ذكر الله تعالى والتسبيح والاستغفار حتى يكون ختمه الخير، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لا يسمر إلا المسافر أو المصلي. ومعنى ذلك أن المسافر يحتاج إلى ما يدفع النوم عنه للمشي فأبيح ذلك وإن لم يكن فيه قربة وطاعة، والمصلي إذا سمر ثم صلى فيكون نومه على الصلاة وختم سمره بالطاعة.
Página 413