فأما العرب إذا لحن أحد منهم لقربه من الحاضرة، ونزوله على طريق السابلة سقطت عند أهل اللغة منزلته ورفضت لغته، وإنما يصح الإعراب لأحد رجلين: إما أعرابي بدوي قد نشأ حيث لا يسمع غير الفصاحة والإصابة، فيتكلم على حسب عادته وسجيتهن ومتى خوطب باللحن لم يفهمه مثل ما حكي عن رجل لبعض الأعراف، وقد سأله عن أهله كيف أهلك؟ فقال له الأعرابي "قتلا بالسيف إن شاء الله" فظن الأعرابي أنه سأله كيف يموت؟ ولو قال له: كيف أهلك؟ لأجابه بجوابه، ويروى أن الوليد قال لرجل: من ختنك؟ قال: يهودي. فضحك منه فقال له: لعلك أردت من ختنك؟ فهو فلان ابن فلان، وإما المولد الذي قد تأدب ونظر في النحو واللغة، وأخذ بهما نفسه، ومرن عليهما لسانه، حتى صار ذلك عادة له. فأما لغيرهما فليس يصح إعراب، وربما اغتفر في دهرنا هذا اللحن للإنسان في كلامه لكثرة اللحن # في الناس، وأنه قد فشا وعظم وفسدت الفصاحة بمخالطة العرب الأعاجم، والأنباط وسائر الأجناس.
فأما في الكتاب فغير مغتفر له ذلك، لأن الطرف متكرر نظره فيه، وللروية تجول في إصلاحه، وليس كمثل الكلام الذي يجري على غير روية ولا فكرة.
وأما المواضع التي يجب أن يستعمل اللحن فيها ويتعمد له أكثره في أمثالها، ويكون ذلك مما يوجبه الرأي، فهو عند الرؤساء الذين يلحنون، والملوك الذين لا يعربون. فمن الرأي لذي العقل والحنكة، والحكمة والتجربة ألا تعرب بين أيديهم، وأن يدخل في اللحن مدخلهم، ولا يريهم أن له فضلا عليهم. فإن الرئيس والملك لا يحب أن يرى أحدا من أتباعه فوقه، ومتى رأى أحدا منهم قد فضله في حال من الأحوال نافسه وعاداه، وأحب أن يضع منه، وفي عداوة الرؤساء والملوك لمن تحت أيديهم البوار، ومن ذلك ما يحكى عن بعض من تكلم في مجلس بعض الخلفاء الذين كانوا يلحنون، فلحن فعوتب على ذلك فقال: "لو كان الإعراب فضلا لكان أمير المؤمنين إليه أسبق"، وسأل الوليد رجلا عن سنيه فقال: "كم سنيك؟ " فقال "أربعين سنة" فقال: لحنت فقال: إنما اتبعتك فقال: "فكم سنوك" فقال أربعون سنة، وقد يستملح اللحن من الجواري، والإماء، وذوات الحداثة من النساء، لأنه يجري مجرى الغرارة فيهن وقلة التجربة، وفي ذلك يقول الشاعر:
(وحديث ألذه هو مما ... تشتهيه النفوس يوزن وزنا) # (منطق صائب وتلحن أحيانا ... وأحلى الحديث ما كان لحنا)
Página 206