فدونك هذه الآثار الكثيرة الكبيرة الخطيرة العتيقة العريقة الدقيقة، ارتو من مائها فإنه عذب فرات، واقتبس من ضوءها فإنها كواكب دريات مضيات، وتحل بها فإنها عقود أنيقات ثمينات، هذه الآثار ليس لك إلا الوقوف عليها تتدبرها بتأن وتعرض نفسك عليها بتجرد وتقابل شأنك بها بتأمل وتعرف حقيقة حالك بواسطتها بتحقق؛ فإنها استنباط العلماء بالله عز وجل من كلامه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإنها وصايا الصادقين وكلمات المحسنين(1)، وكلام المحسنين هو بلا ريب حكمة وأي حكمة، قال تعالى في حق موسى صلى الله عليه وسلم: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) [القصص 14] وقال (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) [آخر العنكبوت] فإليك يا من يحب السلف ويحرص على الاقتداء بهم ويتشوق إلى سماع أخبارهم والتزود بوصاياهم هذا الكتاب الذي هو كتاب في التزكية ولكن ليس كإحياء علوم الدين وهو كتاب في الأدب ولكن ليس كالبيان والتبيين وهو كتاب في الحكمة ولكن ليس ككتب الفلاسفة الضالين؛ وهو كتاب في القصص ولكن ليس ككتب الخرافيين؛ وهو كتاب في أخبار الصالحين ولكن ليس كطبقات الأولياء ولا كجامع كرامات الأولياء؛ وهو كتاب في العقيدة ولكن ليس ككتب المتكلمين؛ إنه كتاب مادته كلام وأخبار منقولة عن أبي بكر وابنتيه، عائشة، وأسماء وابنيها عبد الله بن الزبير(1) وعروة(2)، وحفيده القاسم بن محمد، وعمر بن الخطاب وعبد الله ابنه وسالم بن عبد الله ونافع مولاه، وعثمان ومن أخذ عنه، وعلي وأحفاده والأفاضل من أصحابه، وابن مسعود وطلابه من أهل الكوفة، وما أكثر طلابه وأنبلهم وأعلمهم وأورعهم(3)، وأبي الدرداء وتلامذته من أهل الشام(4)، وابن عباس ومن تخرجوا على يديه في التفسير وغيره من العلوم(5)، وما أرفعهم وأجمعهم، وأبي موسى وعمران بن حصين وأنس وأكابر من تفقه بهم من أهل البصرة، وحذيفة صاحب السر وأخبار الفتن، وأبي، ومعاذ، وأبي ذر، وسلمان، وخباب، وأبي هريرة، وجابر، وأبي أيوب، وأبي سعيد، وعمرو بن العاص وابنه، والسعيدين ابن المسيب وابن جبير، وأبي حازم، ومحمد بن المنكدر وأخيه عمر، وطاووس، ومطرف وأخيه يزيد، ومذعور، وهرم بن حيان، ومسلم بن يسار، وأبي عثمان النهدي، ووهب بن منبه، وابن سيرين وأخيه أنس وأختيهما حفصة وفاطمة، وعامر الشعبي ، وعامر التميمي، والأحنف بن قيس وابن أخته إياس بن قتادة، ومعاوية بن قرة بن إياس(6)، وأبي الشعثاء، وأبي العالية، والعلاء بن زياد العدوي، وأبي السوار العدوي، وصلة بن أشيم العدوي وامرأته معاذة العدوية، والحسن، وأيوب، وبكر بن عبد الله المزني، ومورق العجلي، ومالك بن دينار، ويونس بن عبيد، ومحمد بن واسع، وثابت البناني، وابن عون، وشميط بن عجلان، وابن محيريز وبلال بن سعد، ويحيى بن أبي كثير، وأبي مسلم الخولاني، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، وميمون بن مهران، والضحاك بن مزاحم الهلالي، وقتادة، وسليمان التيمي وابنه المعتمر، وعمر بن ذر، والأعمش، وأبي اسحاق السبيعي، والزهري، ومنصور بن المعتمر، وزبيد الأيامي، وطلحة بن مصرف الأيامي، وحبيب بن أبي ثابت، وابن جريج، وعبد العزيز بن أبي رواد، والحسن بن صالح بن حي وأهل بيته، ومسعر بن كدام، والسفيانين، والحمادين، وابن أبي ذئب، وهشيم، ومالك، وشعبة، والأوزاعي، ووكيع، وابن المبارك، وأبي اسحاق الفزاري، والفضيل بن عياض، ووهيب بن الورد، ويزيد بن هارون، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، والشافعي(1)، وغيرهم من أئمة الاسلام من الصحابة والتابعين وأتباعهم وغيرهم من علماء هذه الأمة العاملين(2) وعبادها المجتهدين(3) وحكمائها الفطنين(4) وعقلائها المتبصرين؛ وأبطالها المجاهدين طلاب الشهادة، ودعاتها الصادقين المحتسبين الجامعين بين العلم والعمل والعبادة؛ وزهادها الورعين(5) ووعاظها البارعين(6) وإخبارييها الجامعين المطلعين(1)؛ مع جملة طيبة مما نقلوه عن رسل الله عيسى وموسى وداود وسليمان عليهم السلام وعن لقمان وعن غيره من حكماء الأمم السابقة وزهادها وأصحاب الفضل منها.
إنه في الجملة كلام ممتع مقنع جليل جميل صاف واف طيب عذب رائق فائق خارج من قلوب نقية تقية على ألسنة فصيحة بليغة عربية
كرر علي حديثهم يا حادي
إن حديثهم يجلو الفؤاد الصادي
إن هذا الكتاب قلادة لا تقدر بثمن، منظومة من درر متناسقة خارجة من قلوب خيرة هذه الأمة وصفوتها، إنه نفحات من الحكمة ونسمات من رياح الحق نابعة من تلك القلوب الصلدة الصافية الرقيقة الجليلة التي ملأها حب الله ففاضت به وأماتها خوفه وأحياها رجاؤه وامتزج فيها الايمان والقرآن والصبر والشكر والرجاء والحياء والحق والصدق والخضوع والخشوع والرحمة والعزة والذل والتوكل والزهد والجد والشجاعة والقناعة.
هذه هي صفة هذا الكتاب، ثم إنه بعد ذلك زانته لقطات من حياة أهل الجنة عندما كانوا يسيرون على الأرض، نعم هو مزين بشيء من أخبار ذلك البكاء والأنين والشوق والحنين والدعاء والابتهال والقيام والركوع والسجود والتلاوة والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار والحوقلة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصهيل الخيول ووقع السيوف والحشرجات والعبرات والآهات والحسرات وأصوات الدموع الواقعة على مواضع السجود، وعبادة الله بمجاهدة النفس والعدو وبالكلام والصمت وبالخوف والرجاء وبالكرم والحياء وبالمنع والعطاء وبالشكر والصبر وبالحياة والموت وبالصحة والمرض وبالقوة والضعف وبالفقر والغنى وببيع النفس والمال وبالقيام والقعود وبالركوع والسجود وبالأمر والنهي وبالعزلة والخلطة وباليقظة والمنام.
إنه محادثة ميسرة ومحاورة مختصرة مع أولئك الناس الذين ترجموا - قدر مجهودهم - وحي الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى عمل واقع وتطبيق مشهود.
Página 17