مقدمات
بين يدي الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
بين يدي الكتاب:
الحمد لله كفاء الواجب وزيادة، يرضى به عنا، ويتقبله منا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه.
وبعد: فكتاب البلغة أحد مصنفات العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي المتوفى سنة ٨١٧. ويتناول تراجم أئمة النحو واللغة حتى عصر المؤلف.
وهو يضم أكثر من أربعمائة ترجمة لشعراء وأدباء وفقهاء ومؤدبين، كانوا قبل ذلك نحويين أو لغويين. وقد سلك المصنف في عرض ذلك سبيل الإيجاز والشمول والدقة والتنوع، ولا تخلو ترجمة من خبر أو فائدة أو متعة.
والكتاب طبع أول مرة من وزارة الثقافة السورية سنة ١٩٧٢م، فكان بلغة للباحث في التراث العربي، في مجال التراجم والتاريخ للنحاة واللغويين.
ثم طبع في مركز المخطوطات والتراث بالكويت سنة ١٩٨٧م، وكان يرجو المحقق رحمه الله تعالى أن تكون هذه الطبعة قد تقدمت خطوة على طريق الكمال، وأن تخرج في أبهى حلة خالية من العيوب والأخطاء، لا سيما أنه ضم إليها ما يستفيد به القارئ، وأشار إلى ما يبعد عنه الغموض، ولكن هذه الطبعة لم تحقق ما كان يرجوه ويأمله، فهي لم تراجع على ما كتبه، فوقع فيها التصحيف، وجاءت خالية من الفهارس، فكان له استدراكات وتصحيحات على بعض تلك الطبعة، بقيت بخط يده.
1 / 5
عملي في هذه الطبعة:
بدأت أنظر في صفحات هذا الكتاب، أصحح وأنقح ما يحتاج إلى تصحيح أو تنقيح، وهي نظرة لا بد منها قبل إعادة طبعه، ثم قمت بإثبات تعليقات واستدراكات وتصحيحات كان قد كتبها بخط يده المحقق محمد المصري ﵀، مستفيدا مما عثر عليه من مصادر مخطوطة، ومن ملاحظات الفضلاء وذوي العلم.
ثم عرفت ما تشابه من أسماء بعض الكتاب ذكرها المصنف، فأوضحت تسميتها إن كانت مبهمة، وأكملتها إن كانت ناقصة، ونسبتها إلى أصحابها، بالرجوع إلى المصادر التي تتعلق بها.
وثمة أعلام لم تُعرف جاءت في خلال ترجمات كثيرة، فعرفت بها باختصار، وإذا كان قد ترجم لها المصنف أحلت القارئ إلى رقم الترجمة، ومن اختصر المصنف في ترجمته عدت إلى بعض المصادر، وزدت تعريفا به في الحاشية، ما وجدت إلى ذلك سبيلا، حتى يستغني القارئ بهذا الكتاب.
وكتبت مدخلا تناولت فيه لمحة تاريخية موجزة عن النحو ومدارسه وأبرز أعلامه الذين ترجم لهم المصنف.
وختمت العمل بوضع فهارس جديدة للتراجم ولمصادر البحث والتحقيق.
أسأل الله ﷿ أن يلهمني السداد في القول والإخلاص في العمل، وأن يجعل ما بذلته من جهد متواضع خالصا لوجهه، وأن يتجاوز عما فيه قصرت، وأسأله أن يجزي مصنفه ومحققه خيرا.
ومن الله أرجو العون والتوفيق، والحمد لله رب العالمين.
دمشق في ١/ ٨/ ١٤٢٠ هـ
٩/ ١١/ ١٩٩٩م
حسان أحمد راتب المصري.
1 / 7
مدخل في مدارس النحو وأعلامها:
المدرسة البصرية:
عُنيت البصرة قبل غيرها بالنحو، فوضعت قواعده وأصوله. وكان ابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة ١١٧ أول نحوي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، اشتق قواعده، وقاس وعلل. ثم جاء عيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة ١٤٩ وأبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة ١٥٤، ويونس بن حبيب المتوفى سنة ١٨٢ الذين تقدموا خطوات هامة في هذا المجال.
ويعود الفضل إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة ١٧٥ في إقامة صرح النحو والصرف وأصولهما ورفع قواعدهما، التي ثبتت رغم الاختلاف الذي ظهر بين النحاة والمدارس، وقد اعتمد الخليل على السماع والتعليل والقياس. ومن ثم إلى سيبويه المتوفى سنة ١٨٠ الذي سجل في كتابه تلك الأصول والقواعد واستعمالاتها وأساليبها في كلام العرب. ثم أتى الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المتوفى سنة ٢١١ الذي لزم سيبويه وروى عنه كتابه وخالفه في كثير من المسائل، وتبعه محمد بن المستنير قطرب المتوفى سنة ٢٠٦ في كثير من الآراء وأبو عمرو الجرمي المتوفى سنة ٢٢٥ الذي لزم الأخفش، وأخذ عنه كل ما عنده، وكانت له بعض الآراء الصرفية خالف فيها سيبويه.
وأما أبو عثمان المازني المتوفى سنة ٢٤٩ فقد أصبح بعد وفاة الأخفش والجرمي عالم البصرة، وقام بالفصل بين النحو والصرف، فنظم قواعد الصرف ومسائله الخاصة، حتى جعله علما مستقلا بأبنيته وقياساته، بعد أن كان مختلطا بعلم النحو في كتاب سيبويه، ثم لمع نجم تلميذه المبرد المتوفى سنة ٢٨٥ وأصحابه أبي إسحاق الزجاج المتوفى سنة ٣١٠ وأبي بكر بن السراج المتوفى سنة ٣١٦ وأبي سعيد السيرافي المتوفى سنة ٣٦٨ الذين أصلوا جذور المدرسة البصرية ومدوا فروعها للغاية.
1 / 9
المدرسة الكوفية:
انشغل علماء الكوفة بادئ الأمر بالفقه ووضع أصوله ومقاييسه، وأذكر هنا أبا حنيفة النعمان، وعنوا بالقراءات ورواياتها، حتى اشتهر منهم عاصم وحمزة والكسائي، واهتموا أيضا برواية الأشعار، فتركوا المجال لعلماء البصرة الذين حازوا فضل السبق في علم النحو والصرف.
ولكن سرعان ما رغب علماء الكوفة بهذين العلمين، فكان أبو جعفر الرؤاسي المتوفى سنة ١٨٧ أول كوفي ألف في النحو، والذي أخذ العلم في البصرة عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي. ثم ظهر الكسائي المتوفى سنة ١٨٩ الذي أخذ العلم من حلقات أئمة البصريين، ثم رجع إلى الكوفة فوضع أسس المدرسة الكوفية التى اعتمدت على الاتساع في رواية الأشعار والأقوال والقراءات الشاذة والقياس على الشاذ والنادر في اللغة، مخالفا بذلك البصريين في القواعد بآراء لا يقويها شاهد وربما رفض المسموع والشائع. وتبعه بذلك تلميذه الفراء المتوفى سنة ٢٠٧ متسعا بهذه الجوانب ومتزودا بقدرة ثقافية كلامية فلسفية، أقدرته على الاستنباط والتحليل والاحتيال للآراء، وهشام بن معاوية الضرير المتوفى سنة ٢٠٩، ثم جاء ثعلب أحمد بن يحيى المتوفى سنة ٢٩١ الذي أخذ عن الفراء كل ما كتب وقرأ كتاب سيبويه، وأخذ عن الأخفش الأوسط، حتى تبحر في مذهبي البصرة والكوفة. واشتهر بعد وفاته من تلاميذه كثيرون، من أمثال أبي موسى سليمان بن محمد المعروف بالحامض، الذي جلس بعد موت أستاذه مجلسه، حتى توفي سنة ٣٠٥، وأبي عمر الزاهد المتوفى سنة ٣٤٥، وأبي بكر بن الأنباري المتوفى سنة ٣٢٨، ثم جاء أحمد بن فارس المتوفى سنة ٣٩٥، الذي مد ظلال المدرسة الكوفية إلى حين ابن آجروم الصنهاجي المتوفى سنة ٧٢٣، الذي كان آخر النحاة، الذين استظهروا آراء المدرسة الكوفية.
1 / 10
المذهب البغدادي:
إن أوائل النحاة الذين ظهروا في بغداد كانوا ممن أخذ عن المبرد وثعلب وبذلك نشأ جيل يحمل آراء كلنا المدرستين، وكان منهم من مال في أغلب آرائه إلى أهل الكوفة، كابن كيسان المتوفى سنة ٢٩٩ وابن شقير المتوفى سنة ٣١٥ وابن الخياط المتوفى سنة ٣٢٠ والزجاجي المتوفى سنة ٣٣٧، ومنهم من اتجه إلى الآخذ بأراء أهل البصرة كأبي على الفارسي المتوفى سنة ٣٧٧، الذي عكف على حلقات البصريين، وابن جني المتوفى سنة ٣٩٢، الذي يعد أول أئمة المدرسة البغدادية، وكان ظهور هذين العالمين إيذانا بنشوء مذهب جديد في الدراسة والتصنيف، مذهب يقوم على الانتخاب من آراء المدرستين جميعا والاجتهاد في استنباط آراء جديدة، معتمدين على تمثل آراء نحاة البصرة والكوفة وآراء البغداديين الأوائل، وكان أشهر أتباع المذهب الجديد الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ وابن الشجري المتوفى سنة ٥٤٢ وأبو البركات بن الأنباري المتوفى سنة ٥٧٧ وأبو البقاء العكبري سنة ٦١٦ وابن يعيش المتوفى سنة ٦٤٣.
المذهب الأندلسي:
ابتدأت عناية الأندلسيين بنحو الكوفة، فكان أولهم جودي بن عثمان الموروي المتوفى سنة ١٩٨ الذي رحل إلى المشرق، وأخذ عن الكسائي والفراء، وعبد الملك بن حبيب السلمي المتوفى سنة ٢٣٨، حتى إذا وصلنا إلى الأقشنيق المتوفى سنة ٣٠٧ نراه يرحل إلى الشرق، ويعود بكتاب سيبويه، ويعلمه تلاميذه بقرطبة، وعنه أخذ أحمد بن يوسف بن حجاج المتوفى سنة ٣٣٦، ويبدأ الاهتمام بالكتاب أكثر فأكثر على يدي محمد بن يحيى المهلبي الجياني المتوفى سنة ٣٥٣ وأبي على القالي المتوفى سنة ٣٥٦ وابن القوطية المتوفى سنة ٣٦٧، وغيرهم. فطبع نحو الأندلسيين عند ذاك بالطابع البصري في أغلب مسائله وقواعده، ثم أقبل العلماء على شرح كتب المشرق المشهورة بشكل عام، والإفادة منها، واشتهر من نحاتهم كثيرون أمثال الزبيدي صاحب طبقات النحويين واللغويين المتوفى سنة ٣٧٩ وابن الإقليلي المتوفى سنة ٤١٤ وابن السيد البطليوسي المتوفى سنة ٥٢١ والسهيلي أبي القاسم المتوفى سنة ٥٨١ وابن
1 / 11
خروف المتوفى سنة ٦٠٩ وابن عصفور الإشبيلي المتوفى سنة ٦٦٢ والشلوبين المتوفى سنة ٦٤٥ وغيرهم. وكان أولئك النحويين يتبعون منهج الانتقاء من آراء نحاة البصرة والكوفة، وربما ذهبوا إلى الفارسي وابن جني، ولكنهم كانوا إلى مذهب البصريين أميل. وكان خاتمة علماء الأندلس ابن مالك الجياني المتوفى سنة ٦٧٢ صاحب الألفية، الذي جدد في النحو بعض التجديد وتوسع في الاستشهاد بالحديث، ورجح بعض آراء الكوفيين، ولم يصر على آراء البصريين.
1 / 12
مؤلف الكتاب:
هو مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر بن أبي بكر بن أحمد بن محمود بن إدريس بن فضل الله ابن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن على الفيروزآبادي الشيرازي الشافعي الصديقي، ويكنى بأبي الطاهر، وقد أملى نسبه هذا بنفسه.
ولد في "كارزين" من أرض فارس. قال في "القاموس المحيط": وكارزين "بلد" بفارس ... وبه ولدت. وكانت ولادته في ربيع الآخر وقيل في جمادى الآخرة من شهور سنة ٧٢٩هـ الموافق لسنة ١٣٢٩م. ولم يصلنا شيء من أخبار أسرته سوى أن أباه كان من علماء اللغة والأدب بشيراز. وقد اشتهر بالفيروزآبادي نسبة إلى مدينة فيروزآباد التي تقع جنوبي شيراز بإيران، ربما لأن أباه وجده كانا من أبنائها.
وأما نسبته إلى شيراز فلربما أتته من أحد أجداده وهو الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والذي كان من فيروزآباد أيضا، وطلب العلم في شيراز، أو لأنه تلقى العلم فيها في بداية أمره، أو لأن أباه كان أحد علمائها.
وأما الصديقي فهي نسبة إلى أبي بكر الصديق ﵁. وقد رفع نسبه إليه بعد أن ولي قضاء اليمن، وقد قرأ السخاوي صاحب كتاب "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" هذه النسبة بخط الفيروزآبادي نفسه في بعض كتبه إلى نوابه. ذكر هذا لما ترجم له.
وكان يحب الانتساب إلى الحرم المكي. فقد جاء في آخر "تاج العروس" للزبيدي أنه وجد في بعض نسخ كتب الفيروزآبادي: قال مؤلفه الملتجئ إلى حرم الله محمد بن يعقوب ... وجاء مثيل هذه العبارة في صدر إحدى نسختي كتابه "البلغة" الذي تحت يدنا المخطوطتين، ولعله فعل هذا اقتداء بالإمام الحسن بن محمد الصاغاني المتوفى سنة ٦٥٠هـ. الذي كان يجب هذا اللجوء، وكان مجد الدين يقتدي به في كثير من الأحيان.
1 / 13
وقد ترجم له كثير من العلماء الذين صنفوا كتبا في تراجم الرجال، نذكر ما وقفنا عليه من هذه الكتب بعد قليل، ولكن يغلب على هذه التراجم الإيجاز والاقتصاد. ولعل ترجمة السخاوي في "الضوء اللامع" أوسع ترجمة وجدت له، وأشمل تأريخ، من عالم له اختصار وشهرة في هذا المضمار، وفوق ذلك فهو قريب العهد به وبأخباره وبمن عاصروه، كما أورد فيها ما قاله فيه كبار علماء عاصروه. فهي ترجمة شاملة ضافية، وقد آثرنا ذكرها هنا لنقف أيضا على طريقة المؤرخين في سرد تراجم الرجال.
قال السخاوي في كتابه الضوء اللامع١: "محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر بن عمر بن أبي بكر بن أحمد بن محمود بن إدريس بن فضل الله بن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف بن عبد الله، المجد، أبو الطاهر، وأبو عبد الله بن السراج أبي يوسف بن الصدر أبي إسحاق بن الحسام بن السراج الفيروزآبادي الشيرازي واللغوي الشافعي.
ولد في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الآخرة، سنة تسع وعشرين وسبعمئة بكازرون، من أعمال شيراز، ونشأ بها، فحفظ القرآن وهو ابن سبع وجود الخط، وثم نقل فيها كتابين من كتب اللغة، وانتقل إلى شيراز وهو ابن ثمان وأخذ اللغة والأدب عن والده. ثم عن القوام عبد الله بن محمود بن النجم، وغيرهما من علماء شيراز، وسمع فيها على الشمس أبي عبد الله محمد بن النجم وغيرهما من علماء شيراز، وسمع فيها على الشمس أبي عبد الله محمد بن يوسف الأنصاري الزرندي المدني "الصحيح" بل قرأ عليه "جامع الترمذي" هناك درسا بعد درس في شهور سنة خمس وأربعين، وارتحل إلى العراق فدخل واسط، وقرأ بها القراءات العشر على الشهاب أحمد بن على الديواني، ثم دخل بغداد في السنة المذكورة، فأخذ عن التاج محمد بن السباك والسراج عمر بن علي القزويني خاتمة أصحاب الرشيد بن أبي القاسم، وعليه سمع "الصحيح" أيضا، بل قرأ عليه "المشارق" للصغاني، والمحبوبي محمد بن العاقولي، ونصر الله بن محمد بن
_________
١ ج١٠ / ٧٩-٨٦.
1 / 14
الكتبي، والشرق عبد الله بن يكتاش، وهو قاضي بغداد ومدرس "النظامية"، وعمل عنده معيدها سنين، ثم ارتحل إلى دمشق فدخلها سنة خمس وخمسين، فسمع بها من التقي السبكي، وأكثر من مائة شيخ، منهم ابن الخباز وابن القيم ومحمد بن إسماعيل بن الحموي، وأحمد بن عبد الرحمن المرداوي، وأحمد بن مظفر النابلسي، ويحيى بن على بن مجلي بن الحداد الحنفين وغيرهم ببعلبك وحماة وحلب، وبالقدس من العلائي والبياني والتقى القلقشندي والشمس السعودي وطائفة، وقطن به نحو عشر سنين، وولى به تداريس وتصادير، وظهرت فضائله، وكثر الأخذ عنه، فكان من أخذ عنه الصلاح الصفدي، وأوسع من الثناء عليه، ثم دخل القاهرة بعد أن سمع بغزة والرملة، فكان ممن لقيه بها البهاء بن عقيل والجمال الإسنوي، وابن هشام، وسمع من العز بن جماعة والقلانسي والمظفر العطار وناصر الدين التونسي وناصر الدين الفارقي وابن نباتة والعروضي وأحمد بن محمد الجزائري، وسمع بمكة من الضياء خليل المالكي واليافعي والتقى الحرازي ونور الدين القسطلاني وجماعة، وجال في البلاد الشمالية والمشرقية، ودخل الروم والهند، ولقي جماعة جما من الفضلاء، وحمل عنهم شيئا كثيرا، تجمعهم مشيخته تخريج الجمال بن موسى المراكشي.
وقال فيما قرأته بخطه: إن من مشايخه من أصحاب الفخر بن البخاري والنجيب الحراني وابن عبد الدائم والشرف الدمياطي الجم الغفير والجمع الكثير من مشايخ العراق والشام ومصر وغيرها، وإن من مروياته الكتب الستة وسنن البيهقي ومسند أحمد وصحيح ابن حبان، ومصنفات ابن أبي شيبة، وقرأ "البخاري" بجامع الأزهر في رمضان سنة خمس وخمسين على ناصر الدين محمد بن أبي القاسم الفارقي، وسمعه على الشمس محمد السعودي بقراءة الشهاب أبي محمود الحافظ، وبدمشق على العز بن الحموي، وقرأ بعضه على التقي إسماعيل القلقشندي، والحافظ أبي سعيد العلائي. وقرأ "مسلما" على البياني بالمسجد الأقصى في أربعة عشر مجلسا، وعلى ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن جهبل.
1 / 15
بدمشق تجاه نعل النبي ﷺ في ثلاثة أيام، وبعضه قراءة وسماعا على ابن الخباز، والعز بن جماعة والنجم أبي محمد عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله بن البارزي وأخيه الزين أبي حفص وناصر الدين الفارقي، وجميعه سماعا على الجمال أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد المعطي بالمسجد الحرام تجاه الكعبة، وسمع "سنن أبي داود" على أبي حفص عمر بن عثمان بن سالم بن خلف، وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن يونس بن القواس، وقرأ "الترمذي" أيضا على ابن قيم الضيائية، والنجم أبي محمد بن البارزي، و"ابن ماجه" ببعلبك على الخطيب الصفي أبي الفضائل عبد الكريم والعز بن المظفر، و"المصابيح" على حمزة بن محمد، كما أوضحه في "التاريخ الكبير".
ثم دخل زبيد في رمضان سنة ست وتسعين بعد وفاة قاضي الأقضية باليمن كله الجمال الريمي شارح "التنبيه" فتلقاه الملك الأشرف إسماعيل بالقبول وبالغ في إكرامه وصرف له ألف دينار سوى ألف كان أمر ناظر عدن بتجهيزه بها واستمر مقيما في كنفه على نشر العلم فكثر الانتفاع به. وبعد مضي سنة وأزيد من شهرين أضاف إليه قضاء اليمن كله، وذلك في أول ذي الحجة سنة سبع وتسعين، بعد ابن عجيل، فارتفق بالمقام في تهامة، وقصده الطلبة، وقرءوا عليه الحديث، السلطان فمن دونه فاستقرت قدمه بزبيد مع الاستمرار في وظيفته إلى حين وفاته، وهي مدة تزيد على عشرين سنة بقية حياة الأشرف، ثم ولده الناصر أحمد، وكان الأشرف قد تزوج ابنته لمزيد جمالها، ونال منه براو رفعة بحيث إنه صنف كتابا وأهداه له على الطباق فملأها له دراهم، وفي أثناء هذه المدة قدم مكة أيضا مرارا، فجاور بها وبالمدينة النبوية والطائف، وعمل فيها مآثر حسنة لو تمت.
وكان يحب الانتساب إلى مكة مقتديا بالرضي الصغاني فيكتب بخطه: الملتجئ إلى حرم الله تعالى. ولم يقدر له قط أنه دخل بلدا إلا وأكرمه متوليها، وبالغ، مثل شاه منصور بن شجاع صاحب تبريز، والأشرف صاحب مصر، والأشرف صاحب اليمن، وابن عثمان ملك الروم، وأحمد بن أويس صاحب
1 / 16
بغداد، وتمرلنك الطاغية، وغيرهم.
واقتنى من ذلك كتبا نفيسة حتى نقل الجمال الخياط أنه سمع الناصر أحمد بن إسماعيل يقول إنه سمعه يقول: اشتريت بخمسين ألف مثقال ذهبا كتبا.
وكان لا يسافر إلا وصحبته منها عدة أحمال، ويخرج أكثرها في كل منزلة، فينظر فيها، ثم يعيدها إذا ارتحل، وكذا كانت له دنيا طائلة، ولكنه كان يدفعها إلى من يمحقها بالإسراف في صرفها، بحيث يملق أحيانا، ويحتاج لبيع بعض كتبه، فلذلك لم يوجد له بعد وفاته ما كان يظن به.
وصنف الكثير، فمن ذلك كما كتبه بخطه مع إدراجي فيه أشياء عن غيره: في التفسير:
- بصائر ذوي التمييز في الطائف الكتاب العزيز. مجلدان.
- تنوير المقياس في تفسير ابن عباس. أربع مجلدات.
- تيسير فاتحة الإياب في تفسير فاتحة الكتاب. مجلد كبير.
- الدر النظيم المرشد إلى مقاصد القرآن العظيم.
- حاصل كورة الخلاص في فضائل سورة الإخلاص.
- شرح قطبة الخشاف في شرح خطبة الكشاف.
وفي الحديث والتاريخ:
- شوارق الأسرار العية في شرح مشارق الأنوار النبوية. أربع مجلدات.
- منح الباري بالشيح الفسيح المجاري في شرح صحيح البخاري. كما ربع العبادات منه في عشرين مجلدة. ويخمن تمامه في أربعين مجلدا.
- عمدة الحكام في شرح عمدة الأحكام. مجلدان.
- امتضاض الهاد في افتراض الجهاد. مجلد.
- الإسعاد بالإصفاد إلى درجة الجهاد. ثلاث مجلدات.
- النفحة العنبرية في مولد خير البرية.
- الصلاة والبشر في الصلاة على خير البشر.
1 / 17
- المني في فضل مني.
- المغانم المطابة في معالم طابة.
- مهيج الغرام إلى البلد الحرام.
- إثارة الحجون لزيارة الحجون، قال إنه عمله في ليلة، كما في خطبته.
- أحاسن اللطائف في محاسن الطائف.
- روضة الناظر في ترجمة الشيخ عبد القادر.
- المرقاة الوفية في طبقات الحنفية. أخذها من "بقات عبد القادر الحنفي".
- البلغة في تراجم أئمة النحاة واللغة.
- الفضل الوفي في العدل الأشرفي.
- نزهة الأذهان في تاريخ أصبهان. في مجلد.
- تعيين الغرفات للمعين على عين عرفات.
- منية السول في دعوات الرسول.
- التجاريح في فوائد متعلقة بأحاديث المصابيح.
- تسهيل طريق الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول.
عمله وكذا:
- الأحاديث الضعيفة. وهو في مجلدات للناصر.
- كراسة في علم الحديث.
- الدر الغالي في الأحاديث العوالي.
- سفر السعادة.
- المتفق وضعا والمختلف صقعا.
وفي اللغة وغيرها.
- اللامع المعلم العجاب، الجامع بين المحكم والعباب، وزيادات امتلأ بها الوطاب، واعتلى منها الخطاب، ففاق كل مؤلف هذا الكتاب. يقدر تمامه في مائة
1 / 18
مجلد. كل مجلد يقرب من "صحاح الجوهري" في المقدار. رأيت بخطه أيضا أنه كمل منه مجاليد خمسة.
- القاموس المحيط والقابوس والوسيط، الجامع لما ذهب من لغة العرب شماطيط في جزأين ضخمين، وهو عديم النظير.
- مقصود ذوي الألباب في علم الإعراب. مجلد.
- تحبير الموشين فيما يقال بالسين والشين. أخذه عن البرهان الحلبي الحافظ ونقل عنه أنه تتبع أوهام "المجمل" لابن فارس في ألف موضع، مع تعظيمه لابن فارس وثنائه عليه.
- المثلث الكبير. في خمس مجلدات. والصغير.
- الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف.
- الدرر المبثثة في الغرر المثلثة.
- بلاغ التلقين في غرائب اللعين.
- تحفة القماعيل فيمن يسمى من الملائكة والناس إسماعيل.
- أسماء السراح في أسماء النكاح.
- أسماء الغادة في أسماء العادة.
- الجليس الأنيس في أسماء الخندريس. في مجلد.
- أنواء الغيث في أسماء الليث.
- أسماء الحمد.
- ترقيق الأسل في تصفيق العسل. في كراريس
- مزاد الزاد.
- زاد المعاد في وزن بانت سعاد. وشرحه في مجلد
- النخب الطرائف في النكت الشرائف.
إلى غيرها من مختصر ومطول.
قال التقى الكرماني: كان عديم النظير في زمانه نظما ونثرا بالفارسي
1 / 19
والعربي. جاب البلاد، وسار إلى الجبال والوهاد ورحل، وأطال النجعة، واجتمع بمشايخ كثيرة عزيزة، وعظم بالبلاد، أقام بدهلي مدة، وعظمه سلطانها وبالروم مدة، وبجله ملكها، وبفارس وغيرها، وورد بغداد في حدود سنة أربع وخمسين، واجتمع بوالدي، وقرأ عليه، ورحل معه إلى الشام، ثم إلى مصر، وسمعا بالقاهرة "الصحيح" على الفارقي، وفارقه والدي فحج ورجع إلى بغداد، وأقام المجد بالقاهرة مدة، ثم بالقدس، ثم بالشام، ثم جاور بمكة مدة عشر سنين أو أكثر، وصنف بها تصانيف، منها "شرح البخاري" سماه "منح الباري" وأظن أنه لم يكمل. و"القاموس" مطولا في مجلدات عديدة، ثم أمره والدي باختصاره فاختصره في مجلد ضخم وفيه فوائد عظيمة وفرائد كريمة، واعتراضات على الجوهري، وكان كثير الاعتناء بتصانيف الصغاني، ويمشي على نهجه، ويتبع طريقه، ويقتدي بصنيعه، حتى في المجاورة بمكة، وفي الجملة كان جملة حسنة. وفي الآخر ورد بغداد من مكة في حدود نيف وثمانين، واجتمع بوالدي أيضا، ثم ذهب إلى الهند. ثم رجع إلى مكة، وأقام بها مدة، ثم ورد بغداد سنة نيف وتسعين بعد وفاة والدي، ولازمته أيضا، واستفدت منه شيئا كثيرا، ثم سافر إلى بلاد فارس ثم رجع إلى مكة بعد أن اجتمع بتمرلنك في شيراز وعظمه وأكرمه، ووصله بنحو مائة ألف درهم. ثم توجه إلى مكة من طريق البحر، ثم دخل بلاد اليمن، وأقام بعدن وبتعز، وكان ملكه له يكرم ويعز١.
وقال الخزرجي في "تاريخ اليمن"٢: إنه لم يزل في ازدياد من علوم الوجاهة والكانة ونفوذ الشفاعة والأوامر على قضاة الأمصار، ورام في سنة تسع وتسعين التوجه لمكة فكتب إلى السلطان ما مثاله:
_________
١ انتهت ترجمة الفيروزآبادي التي أوردها السخاوي في "الضوء اللامع".
٢ الخزرجي: هو علي بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن وهاس الخزرجي الزبيدي، مؤرخ وبحاثة من أهل زبيد. توفي سنة ٨١٢هـ. الضوء اللامع ٥/ ٢١٠، وكتابه الذي ترجم فيه للفيروزآبادي هو "العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية" ج٢ / ص٢٦٤ و٢٧٨ و٢٧٩.
1 / 20
ومما ينهيه إلى العلوم الشريفة أنه غير خاف عليكم ضعف أقل العبيد، ورقة جسمه، ودقة بنيته، وعلو سنه وقد آل أمره إلى أن صار كالمسافر الذي تحزم وانتقل إذ وهن العظم، بل والرأس يشتعل، وتضعضع السن، وتقعقع الشن، فما هو إلا عظام في جراب، وبنيان مشرف على خراب، وقد ناهز العشر التي تسميها العرب دقاقة الرقاب، وقد مر على المسامع الشريفة غير مرة في صحيح البخاري قول سيدنا رسول الله ﷺ: "إذا بلغ المرء ستين سنة فقد أعذر الله إليه". فكيف من نيف على السبعين. وأشرف على الثمانين؟ ولا يجمل بالمؤمن أن تمضي عليه أربع سنين ولا يتجدد له شوق وعزم إلى بيت رب العالمين وزيارة سيد المرسلين وقد ثبت في الحديث النبوي ذلك، وأقل العبيد له ست سنين عن تلك المسالك وقد غلب عليه الشوق حتى جل عمره عن الطوق، ومن أقصى أمنيته أن يجدد العهد بتلك المعاهد ويفوز مرة أخرى بتقبيل تلك المشاهد، وسؤاله من المراحم الحسنية الصدقة عليه بتجهيزه في هذه الأيام مجردا عن الأهالي والأقوام قبل اشتداد الحر، وغلبة الأوام. فإن الفضل أطيب والريح أزيب١، ومن الممكن أن يفوز الإنسان بإقامة شهر في كل حرم. وسيحظى بالتملي من مهابط الرحمة والكرم، وأيضا كان من عادة الخلفاء سلفا وخلفا أنهم كانوا يبردون البريد عمدا قصدا لتبليغ سلامهم إلى حضره سيد المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه مددا، فاجعلني، جعلني الله فداك، ذاك البريد فلا أتمنى شيئا سواه ولا أريد:
شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا ... فاستحمل القلص الوجادة الزادا
واستأذن الملك المنعام زيد على ... واستودع الله أصحابا وأولادا
فلما وصل هذا إلى السلطان، كتب في طرة الكتاب ما مثاله:
"صدر الجمال المصري على لسان ما يحققه لك شفاها. إن هذا شيء لا ينطق به لساني، ولا يجري به قلمي، فقد كانت اليمن عمياء فاستنارت، فكيف
_________
١ أي أنشط.
1 / 21
يمكن أن تتقدم؟ وأنت تعلم أن الله تعالى قد أحيا بك ما كان ميتا من العلم. فبالله عليك إلا ما وهبت لنا بقية هذا العمر، والله يا مجد الدين، يمينا بارة إني أري فراق الدنيا ولا أرى فراقك. أنت اليمن وأهله".
وذكره التقي الفاسي١ فقال: وكانت له بالحديث عناية غير قوية وكذا بالفقه وله تحصيل في فنون العلم، سيما اللغة، فله فيها اليد الطولي، وألف فيها تواليف حسنة، منها القاموس، ولا نظير له في كتب اللغة، لكثرة ما حواه من الزيادات على الكتب المعتمدة، كالصحاح.
قلت: وقد يمز فيه زياداته عليه، فكانت غاية في الكثرة بحيث لو أفردت لجاءت قدر الصحاح أو أكثر في عدد الكلمات، وأما ما نبه عليه من أوهامه فشيء كثير أشار إليه في الهامش بصفر، وأعراه من الشواهد اختصارا. ونبه في خطبته على الاكتفاء عن قوله "معروف" بحرف الميم، وعن "موضع" بالعين، وعن "الجمع" بالجيم، وعن "جمع الجمع" بجج، وعن "القرية" بالهاء، وعن "البلد" بالدال، وضبط ذلك بالنظم بعضهم، بل أثنى على الكتاب الأئمة نظما ونثرا، وتعرض فيه لأكثر ألفاظ الحديث والرواة، ووقع له في ضبط كثيرين خطأ، فإنه -كما قال التقي الفاسي في ذيل التقييد- لم يكن بالماهر في الصنعة الحديثية، وله فيما يكتبه من الأسانيد أوهام، وأما شرحه على "البخاري" فقد ملأه بغرائب المنقولات، سيما أنه لما اشتهرت باليمن مقالة ابن عربي، وغلبت على علماء تلك البلاد وصار يدخل في شرحه من "قبوحاته الهلكية"٢ ما كان سببا لشين الكتاب المذكور.
ولذا قال شيخنا٣ إنه رأي القطعة التي كملت منه في حياة مؤلفه، وقد أكتلها
_________
١ هو تقي الدين محمد بن أحمد بن على الفاسي المتوفى سنة ٨٣٢ هـ، وكتابه الذي ذكر فيه الفيروزآبادي هو "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" ج٢ ٣٩٧.
٢ المراد كتابه "الفتوحات المكية".
٣ أي ابن حجر العسقلاني
1 / 22
الأرضة بكمالها، بحيث لا يقدر على قراءة شيء منها قال١:
ولم أكن أتهمه بالمقالة المذكورة، إلا أنه كان يحب المداراة، ولقد أظهر لي إنكارها والغض منها٢.
ثم ذكر الفاسي أنه ذكر أنه ألف شرح الفاتحة في ليلة واحدة، فكأنه غير المشار إليه. وكذا ألف "ترقيق الأسل" في ليلة عندما سأله بعضهم عن العسل، هل هو قيء النحلة أو خرؤها؟ فكأنه غير المتداول، لكونه في نحو نصف مجلد وأنه وقف على مؤلفه على علم الحديث بخطه، وأنه ذكر في مؤلفه في فضل الحجون من دفن فيه من الصحابة، مع كونهم لم يصرح في تراجمهم من كتب الصحابة بذلك، بل وما رأيت وفاة كلهم بمكة، فإن كان في دفنهم به قول من قال إنهم نزلوا مكة فذلك غير لازم، لكونهم كانوا يدفنون في أماكن متعددة.
وقال أيضا: إن الناس استغربوا منه انتسابه للشيخ أبي إسحاق، وكذا لأبي بكر الصديق.
ولذا قال شيخنا٣: لم أزل أسمع مشايخنا يطعنون في انتسابه إلى الشيخ أبي إسحاق مستندين إلى أن أبا إسحاق لم يعقب.
قال: ثم ارتقى درجة فادعى، بعد أن ولي القضاء باليمن بمدة طويلة أنه من ذرية أبي بكر الصديق، وصار يكتب بخطه "محمد الصديقي". ولم يكن مدفوعا عن معرفة، إلا أن النفس تأبى قبول ذلك.
وقال الجمال الخياط فيما نقله عن خط الذهبي في الشيخ أبي إسحاق إنه لم
_________
١ هذا مضمون كلام ابن حجر.
٢ جري بين أبي بكر بن محمد بن صالح الجبلي التعزي اليماني المتوفى سنة ٨١١هـ وبين الفيروزآبادي مراجعات بسبب إنكار الأول على المشتغلين بكتب ابن عربي، وصنف في المنع جزءا رد عليه الفيروزآبادي تعصبا مع صوفية زبيد. الضوء اللامع ١١/ ٧٨، ٧٩. ولعل هذا الرد هو الرسالة التي صنفها الفيروزآبادي في الانتصار لابن عربي صاحب الفتوحات المكية الموجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق.
٣ هو محمد بن عبد الله بن ظهيرة، المتوفى سنة ٨١٧هـ. ترجمته في الضوء اللامع ٨/ ٩٤-٩٧
1 / 23
يتأهل ظنا، وكذا أنكر عليه غيره تصديقه بوجود رتن الهندي، وإنكاره قول الذهبي في "الميزان"١ إنه لا وجود له، ويقول: إنه دخل قريته ورأى ذريته، وهم مطبقون على تصديقه.
قال الفاسي: وله شعر كثير، في بعض قلق لجلبه فيه ألفاظا لغوية عويصة ونثره أعلى. وكان كثير الاستحضار لمستحسنات من الشعر والحكايات، وله خط جيد مع الإسراع، وسرعة حفظ.
بلغني عنه أنه قال: ما كنت أنام حتى أحفظ مائتي سطر، وقال: إن أول قدومه مكة -فيما أعلم- سنة ستين، ثم في سنة سبعين، وأقام بها خمس سنين أو ستا متوالية، وتكرر قدومه لها، وارتحل منها إلى الطائف، وكان له فيه بستان، وكذا أنشأ بمكة دارا على الصفا، عملها مدرسة للأشراف صاحب اليمن وقرر بهما مدرسين وطلبة، وفعل بالمدينة كذلك، ثم أعرض عن ذلك بعد موت الأشرف، وله بمنى دور وغيرها دور، وحدث بالكثير من تصانيفه ومروياته.
سمع منه الجمال بن ظهيرة، وروى عنه في حياته، ومات قبله بشهر.
وترجمه الصلاح الأقفهسي في "معجم الجمال"٢ بقوله: كتب عنه الصلاح الصفدي، وبالغ في الثناء عليه، وجال في البلاد، ولقي الملوك والأكابر، ونال وجاهة ورفعة، وصنف التصانيف السائرة كالقاموس وغيره وولى قضاء الأقضية ببلاد اليمن، وقدم بمكة، وجاور بها مدة، وابتنى بها دارا.
وطول المقريزي في "عقوده" ترجمته٣ وقال: إن آخر ما اجتمعت به في مكة
_________
١ أي كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ج٢ ٤٥.
٢ الصلاح الأقفهسي: هو خليل بن محمد بن محمد بن عبد الرحيم، صلاح الدين الأقفهسي، المتوفى سنة ٨٢٠هـ -أو ٨٢١هـ- صنف معجما لجمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة، المذكور في الحاشية السابقة. الضوء اللامع ٣/ ٢٠٢.
٣ لأحمد بن علي المقريزي المؤرخ الشهير، المتوفى سنة ٨٤٥هـ كتاب "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة" صدر عن وزارة الثقافة بدمشق قطعة منه في جزأين بتحقيق محمد المصري محقق كتاب "البلغة" والدكتور عدنان درويش، والقطعة ليس فيها تراجم المحمدين.
1 / 24
سنة تسعين، وقرأت عليه بعض مصنفاته، وناولني قاموسه، وأجازني، وأفادني.
وكذا لقيه شيخنا بزبيد في سنة ثمانمائة، وتناول منه أكثر "القاموس"، وقرأ عليه وسمع منه أشياء، وأورده في "معجمه"١ و"إنبائه"٢، وقرض لشيخنا تعليق التعليق وعظمه جدا، والتقى الفاسي، وقرأ عليه أشياء، وأورده في "تاريخ مكة" و"ذيل التقييد"٣. والبرهان الحلبي أخذ عنه "تحبير الموشين" في آخرين ممن أخذت عنهم كالموفق الأبي، والتقي ابن الفهد، وأرجو إن تأخر الزمان يكون آخر أصحابه موتا على رأس القرن العاشر.
وممن ترجمه ابن خطيب الناصرية٤، لكن باختصار جدا، والتقي ابن قاضي شهبة٥ وغيرهما.
مات، وقد متع بسمعه وحواسه في ليلة عشرى شوال سنة سبع عشرة بزبيد،
_________
١ اسم الكتاب: "المعجم المؤسس للمعجم المفهرس" في تراجم الرجال أيضا. ترجمة الفيروزآبادي فيه موجزة في الصفحتين ٢٨٦ و٢٨٧ من نسخة مخطوطة في مكتبة الأوقاف بحلب وقد نقلت مؤخرا إلى مكتبة الأسد بدمشق.
٢ اسم الكتاب: "إنباء العمر بأبناء الغمر" مطبوع. وجاءت ترجمة الفيروزآبادي في ج٢ ١٥٩.
٣ التقييد: هو كتاب "التقييد لمعرفة الرواة والسنن والمسانيد" لابن نقطة محمد بن عبد الغني، المتوفى سنة ٦٢٩هـ. وفيات الأعيان ١/ ٥٢٠. ذيل عليه تقي الدين الفاسي المذكور قبلا.
٤ في كتابه "الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب" ج٢/ ٣٦٢ مخطوطة حلب، التي نقلت مؤخرا إلى مكتبة الأسد بدمشق.
٥ لتقي الدين، أبي بكر بن قاضي شهبة، المتوفى سنة ٨٥١هـ تاريخ كبير ذيل على تواريخ ابن كثير والذهبي والبرازلي. قال عنه ابنه بدر الدين محمد بن أبي بكر قاضي شهبة، المتوفى سنة ٨٧٤هـ "كتب منه خمس مجلدات ضخمة إلى سنة عشر وثمانمائة وكتب كراريس متفرقة من ذلك نحو مجلدة إلى سنة وفاته "أي سنة ٨٥١" لكن فقد من ذلك كراريس لم نجدها بعد وفاته، ثم اختصر هذا الذيل فكتب منه مجلدين إلى سنة ثمان وثمانمئة، وكتب منه كراريس بعد ذلك، ولو تمت كان مجلدة أخرى، ترجمة تقي الدين بن قاضي شهبة بقلم ابن بدر الدين. تحقيق الدكتور عدنان درويش. مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق. المجلد ٥٨ الجزء ٣ الصفحة ٤٣٨.
1 / 25
وقد ناهز التسعين١، وكان يرجو وفاته بمكة، فما قدر. ﵀ وإيانا.
أنشدني شيخي بالقاهرة، والموفق الأبي بمكة قال كل منهما: أنشدني المجد لنفسه مما كتبه عنه الصفدي في سنة سبع وخمسين:
أحبتنا الأماجد إن رحلتم ... ولم ترعوا لنا عهدا وإلا
أودعكم وأودعكم قلوبا ... لعل الله يجمعنا وإلا
وعندي في ترجمته بأول ما كتبه من القاموس فوائد، منها قول الأديب المفلق نور الدين على بن محمد بن العليف العلي العدناني المكي الشافعي، وقد قرأ عليه القاموس:
مذ مد مجد الدين في أيامه ... من بعض أبحر علمه القاموسا
ذهبت صحاح الجوهري كأنها ... سحر المدائن حين ألقي موسى
ومن شعره أيضا في مدح البديعية التي نظمها أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن عمر العلوي، وجيه الدين، المتوفى سنة ٨٠٤هـ:
هذا القصيد حوي البدائع كلها ... وسما على نظم الآفاق وفاقا
حتى أقر الحاسدون بحسنه ... فأبان من أهل الخلاف وفاقا
ورقا بناظمه ذري لم يرفها ... من رق لفظا في الورى آفاقا
وقال أيضا:
هذا قصيد بديع الحسن لست ترى ... شعرا بديعا يدانيه ولا حسنا
سني ببهجته أهل النهى وسما ... حسنا وفاح له طيب ولاح سنا
_________
١ وكذا في إنباء الغمر لابن حجر العسقلاني، وكذلك في المصادر، ويستنتج منها أيضا أن عمره لما توفى كان ٨٨ سنة. إلا أن ابن حجر قال في ترجمته في ذلك الدرر الكامنة: "وقد جاوز التسعين" ولعله وهم أو تصحيف. ونقل الزركلي في الأعلام عن العقيق اليماني رواية أخرى هي أنه توفي في شوال سنة ٨١٩هـ.
1 / 26