ذلك هو «الأصل» الذي أردنا الإشارة إليه في تعليقنا على ما كتبه السنهوري الشاب في مذكراته، وأما ما يتفرع عنه مما نود أن نشير إليه كذلك بشيء من التعليق، فذلك قوله: «أذكر أنه نسب للنبي عليه الصلاة والسلام قوله إن الأحكام الشرعية وافقت العقل ...» وقد علق على هذا الدكتور توفيق الشاوي بأنه فيما يعلم قول قاله فقهاء كثيرون، لكنه لا يذكر أن قد رآه حديثا منسوبا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويرى كاتب هذه السطور أن القول على كلتا الحالتين جدير بالوقوف عنده في سياق حديثنا هذا؛ إذ يهمنا أن نعرف ماذا يعني القول بأن «الأحكام الشرعية وافقت العقل»، فقد أسلفنا لك أن ما يميز النمط العقلي في الإدراك، هو أنه حركة انتقالية بين طرفين يتم بها استدلال نتيجة من مقدماتها أو شواهدها، وعلى هذا الأساس يكون معنى القول بأن أحكام الشريعة وافقت العقل، هو أن تلك الأحكام قد استخرجت استدلالا من أصل صحيح ولذلك فهي صحيحة، وكذلك هي تصلح أن تكون بدورها أصلا نستخرج منه نتائج فرعية، ونحكم عليها بالصحة ما دمنا على ثقة بأننا قد سرنا في الخطوات الاستدلالية سيرا محكما، وأهمية هذا في سياق حديثنا هذا هو أن نضع بين يدي الكاتب الفاضل صاحب الرسالة، وجها آخر من الأوجه التي يجد فيها الإجابة عن سؤاله: ماذا كنت تعني بالنضج العقلي عندما ذكرت لنا في كتاباتك أن العقل الإنساني كان عند ظهور الإسلام قد نضج، بحيث أمكن للإسلام أن يحيل الإنسان إلى عقله بعد ذلك، فيما قد يستحدث له في حياته من مشكلات، مما لم يرد عنه حكم قاطع في الكتاب والسنة؟ نستطيع الآن أن نقول للكاتب الفاضل إن جانبا من جوانب ذلك النضج العقلي الذي زعمناه، هو أنه كان قد تهيأ لقبول أحكام شرعية، صيغت على نحو تتسق به مع العملية الاستدلالية، التي هي أهم ما يتميز به الإدراك العقلي، عندما يجد في متناوله حصيلة فكرية تمكنه من سعة الأفق في مقارناته وتحليلاته واستدلالاته.
وعند هذا المنعطف من حديثنا ننتقل فيما بقي لنا أن نقوله إلى حياتنا الفكرية الراهنة، لننظر إليها من زاوية النضج العقلي بالمعنى الذي أشرنا إلى بعض معالمه، لعلنا نقع على مواضع القصور التي تجمعت فأحدثت ما نحسه من قلق حول تلك الحياة، فكثيرا جدا ما يحدث أن يبدأ الإنسان بانطباع ما عن موقف ما، ثم يعقب عليه بتحليل ذلك الموقف إلى عناصره تحليلا عقليا، فيتحول الانطباع إلى فكرة لها حدودها؛ فالانطباع العام الذي ينطبع به بعضنا اليوم، وأقول «بعضنا»؛ إذ يرجح لمن هم في مرحلة الشباب من مبدعي الفكر والأدب، أن تكون لهم رؤية - أخرى - أقول إن الانطباع العام عند بعضنا اليوم عن حياتنا الفكرية والأدبية أنها قد تراجعت بنا مسافة ليست بالقصيرة عما كان الجيل الماضي قد بلغه من «النضج العقلي»، ولا تقل إن مثل هذا التراجع إنما هو ضد طبائع الأشياء؛ لأن سير التاريخ مليء بالشواهد التي تؤكد إمكان أن تجمد حركة التقدم حينا، وإمكان أن تنتكس تلك الحركة حينا دون أن ينفي ذلك اطراد التقدم إذا نظرنا إلى المسيرة الحضارية في مجموعها، ومع ذلك فهذا الكاتب يعرض رأيه راجيا أن يكون فيه على خطأ، وهو أن هذا الجيل في حياتنا الفكرية والأدبية، وخصوصا الفكرية قد انتكست به حركة الصعود الذي صعد به الجيل الماضي في منحنى النضج بالمعنى الذي حددناه، والذي نحن في سبيلنا إلى بيان مزيد من توضيحه وتحديده.
وأول الجوانب التي أعرضها هنا لأضيفها إلى الجوانب التي أسلفتها، هو جانب المحصول الفكري الذي أشرت إليه في الفقرات السابقة، فأصحاب المواهب من أبناء هذا الجيل يعتدون بمواهبهم إلى الدرجة التي يظنون بها أن وجود الموهبة في ذاته يكفي، وحقيقة الأمر هي أن الموهبة، مجرد الموهبة، إنما هي استعداد كالذي نراه في مسابقات الجري حين يصطف المتسابقون عند الخط الأبيض في أول المضمار ينتظرون صفارة البدء، فترى الواحد منهم قد استعد بوضع جسده وضعا خاصا توترت فيه العضلات استعدادا للانطلاق، كما يشد الفارس قوسه لتنطلق القوس إلى آخر مداها إذا ما أرخى الفارس قبضته، فما الذي لا بد من إضافته إلى الموهبة مما يعين على نضج نتاجها؟ إن أول ما يضاف خبرة بالحياة تتسع آفاقها حتى تشمل حيوات الآخرين ما استطاع الموهوب إلى ذلك سبيلا؛ وذلك لتسهل المقارنة بين الأضداد فتنقدح شرارة الإبداع، وأهم من هذه التوسعة الأفقية توسعة أخرى رأسية، يرجع بها الموهوب إلى تاريخ الفرع الذي هو موهوب فيه، لا ليعرفه مجرد معرفة باردة ساكنة، يجمع به معلومة إلى معلومة ليعلو الكوم، كما يجمع البخيل مالا إلى مال حتى تتخم خزائنه بمخزونها، دون أن يتغير من حياته شيء، بل يجب أن تكون مراجعة الموهوب لتاريخ مجال موهبته تفاعلا حيا، حتى إذا ما جاء دوره في الإبداع وإن كان مختلفا بزاوية منفرجة عن مبدعات السابقين، فإن إبداعه يجيء مشبعا بالروح التي تؤهله لأن يكون جزءا من تاريخ المجال الذي هو موهوب فيه، وإلا فهل رأيت تاريخا لأي جانب من جوانب الحياة التي يتناولها مؤرخوها بالتسجيل، قد جاء على صورة حلقات منفصلة إحداها عن الأخرى، إنه لو كان الأمر أمر حلقات متناثرة، كل حلقة فيها كيان مستقل بذاته لا شأن له بما عداه من نواتج، لأمكن منطقيا أن تضع الحلقة الواحدة منها في أي سياق تاريخي تصادفه أصابعك، فتضع شاعرا عربيا في تاريخ الأدب الصيني، وروائيا عربيا في تاريخ الأدب الأرجنتيني، ولم لا؟ ما دامت تلك الحلقة لا تربط نفسها أفقيا بعصرها ورأسيا بقومها وتاريخها؟
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أروي عن لحظة منذ قريب، كنت فيها أستمع إلى البرنامج الثاني في إذاعتنا المصرية، وفتحت الجهاز على ندوة في النقد الأدبي، يشترك فيها اثنان أقدرهما أعظم تقدير، ولكم آلمني أن أجد فيما بينهما تلميحا، لم أشك في أنه يشير إلى شخصي دون أن يذكر اسمي، وكان التلميح مسيئا لا عن طريق اختلاف الرأي؛ فاختلاف الرأي مشروع ومطلوب، ولكنه مسيء بما حمله من نبرة ساخرة؛ فأحد الصديقين نطق لفظة معينة إلى نصفها، ثم كتم النصف الآخر ممزوجا بضحكة حبسها بين شدقيه، ورد الصديق الآخر يؤيده لكنه كان تأييدا والحمد لله مبرأ من السخرية، وكان موضوع الحديث بينهما ذا علاقة بهذا الذي أقوله، وهو وجوب أن تكون موهبة الموهوب موصولة على بعدين، فهي موصولة على بعد أفقي بعصرها، ثم هي موصولة على بعد رأسي بماضيها، ومن هذه العناصر كلها الموهبة الخاصة، والحاضر الذي تعيشه الدنيا والماضي الذي ورثناه، أقول إنه من هذه العناصر كلها مؤتلفة في الناتج الإبداعي فكرا وأدبا وفنا، بل ونظما اجتماعية من تعليم إلى سياسة واقتصاد وما شئت أن تضيف، هي التي تكفل «النضج» فيما تبدعه المواهب، والحق أن أعجب ما عجبت له من تلميح الصديقين في ندوة النقد: الزاوية التي فهما بها معنى المعاصرة، فقد حسباها مجرد أن يكون الإنسان موجودا في عصره! وأن يكون الدليل على ذلك عندهما - فيما أظن - أن ننظر إلى لوحة التقويم المعلقة فوق الحائط، فإذا رأيناها تشير إلى سنة 1988م ثم رأينا أنفسنا نتنفس الهواء ونأكل الطعام في سنة 1988م، كنا معاصرين نعيش في عصرنا، وما دام ذلك كذلك وضوحا وسطوعا، ففيم كل هذه اللجاجة عن الدعوة إلى المعاصرة، وهي صفة لاصقة بأمعائنا ورئاتنا وجلودنا، ولم يرد لهما على خاطر - وهما من هما علما وفضلا - أنه إذا كان مجال الحديث عن الثقافة بأي فرع من فروعها، فإن المراد بالمعاصرة عندئذ لا يكون إلا أن يعيش الإنسان أفكار عصره، لا بالموافقة حتما بل قد يكون ذلك بالمقاومة، فأنت تعيش الفكرة إذا تبنيتها أو إذا قاومتها على حد سواء.
وأعود إلى الحديث عن حياتنا الفكرية والأدبية الآن، فأقول إن انطباعي العام عنها هو أنها مقصرة في ذلك الاتصال على بعديه الأفقي والرأسي معا، وخذ مجموعة من أعلام الجيل الماضي ومجموعة من أبناء الجيل القائم، تجد هذا الفرق بينهما واضحا، وهو أنه بينما كان كل علم من أعلام المجموعة الأولى ملما إلماما واسعا وعميقا بما قاله السابقون في ميدانه، وملما في الوقت نفسه بأهم المعالم التي يتسم بها إبداع المبدعين في الغرب، وفي المجال الخاص الذي توجه إليه رجل الجيل الماضي باهتمامه، فإنك - فيما أعتقد - واجد غير هذا في أفراد المجموعة الثانية؛ إذ الأغلب والأرجح في أي واحد منها تختاره كما تشاء، ألا يكون ذا علم راسخ وواسع بما قاله السابقون في ميدانه، ولا على شيء من المعرفة الوثيقة بما يقوله أصحاب تلك الميادين في الغرب، إنني سأضع بين يديك أمثلة من أعلام الجيل الماضي، وأترك لك أن تجد من يقابلهم في هذا الجيل ثم تمضي في المقارنة؛ ففي الشعر كان شوقي، وفي النقد الأدبي كان طه حسين، وفي الرؤية الاجتماعية السياسية كان لطفي السيد، وفي الوقفة الدفاعية عن الأصالة العربية كان العقاد، وتذكر أرجوك أن محور حديثنا هنا هو جمع البعدين الأفقي والرأسي جمعا يلتقي بالموهبة الشخصية، ثم اختر من تختاره من أبناء هذا الجيل وانظر وقارن.
ذلك إذن هو جانب من الجوانب التي أراها تحد من درجة النضج في حياتنا الراهنة، وأضيف جانبا ثانيا قد يكون من الناحية المنطقية فرعا يتفرع عن النقطة التي عرضناها فيما أسلفناه، وهو ضعف القدرة على النقد بمعناه الواسع أولا، وبمعنى النقد الذاتي ثانيا، والنقد الذي أعنيه هو القدرة على التحليل والمقارنة، ومن ضعف هذه القدرة ضعفا شديدا عند أبناء هذا الجيل، جاءت سرعة قبولهم وسرعة رفضهم، دون أن يجيء القبول أو الرفض مستندا إلى معرفة مؤكدة واضحة، فهم كثيرا ما يتناولون المفاهيم العامة قولا وكتابة، وكأنها من الوضوح الناصع بحيث لا يحتاج أمرها إلى إمعان نظر فاحص، ومن أخطر ما نتج لنا في حياتنا عن هذه الوقفة البريئة براءة الطفولة، ذلك النزوع إلى التطرف أيا ما كان موضوع البحث، بما في ذلك البحوث المزعوم لها أنها بحوث علمية، فها هنا ترى عجبا من مزج الفكرة بصاحبها مزجا يجعل كرامة صاحبها وكأنها أهينت إذا رفضت فكرته. إن دارسي الفلسفة يعلمون كم عني الفلاسفة ببيان مواضع الزلل ليتجنبه من أراد لنفسه فكرا صحيحا، فإذا استعرضت أهم ما ذكروه في هذا الصدد وجدته ماثلا في حياتنا القائمة مثولا جريئا وكأنه يتحداك! فالتسرع في الأحكام وتعميمها عن غير علم وارد على كل لسان ناطق وكل قلم كاتب، والتحصن بما قد تراكم في النفوس وفي العقول دفعا لأي عامل مهاجم من عوامل الدعوة إلى تغيير ما يجب أن يتغير، هو الآن موقف سائد مرفوع اللواء والتحدث بلغة مبهمة عن أي موضوع، حتى ولو كان موضوعا يعرض حياتنا كلها للخطر، هو من سمات المناخ الفكري الذي نعيش اليوم فيه ونملأ رئاتنا بهوائه، حتى لنظن الظنون بمن يجرؤ على توضيح الغامض، خشية أن تهتز من البنيان قوائمه وأركانه.
لقد كان حديثنا هذا أول الأمر محاولة للإجابة عن رسالة، يسأل فيها صاحبها عن معنى النضج العقلي، الذي كنت قد زعمته لفترة معينة من مراحل التاريخ، ثم استطرد بنا الحديث عن النضج العقلي، حتى لقد بدأناه ثم لم نعرف كيف ننهيه.
Página desconocida