ولكي أضع قارئي معي، في مطالعتي هذه المرة، لما كتبه الغزالي عن «تلك الدرجات الثلاث الحواس والعقل والقلب» سأضع بين يديه قول الغزالي بنصه، مع الأفكار التي أثارها في نفسي ذلك النص هذه المرة: ولماذا أحرص على هذه المشاركة بيني وبين قارئي؟ وذلك لأني سأقيم على هذه القراءة الجديدة نتيجة تمس حياتنا الثقافية الحاضرة، في جانب هام من جوانبها، وهاك قول الغزالي، وسأبدأ من الموضع الذي انتقل من عنده من غصن التواتر؛ إذ جعله الناس مصدرا للعلم الصحيح إلى بحثه في صلاحية «الحواس» أن تكون مصدرا موثوقا به، فوجد أن الاعتماد على الحواس غير مأمون الصواب؛ لأنها قد تضلل، فتقدم لنا صور الأشياء غير حقيقتها، ومن هنا انتقل إلى مرحلة المعرفة العقلية، التي يشير إليها بكلمة «الضروريات» فقال: «... فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العلم، بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟»
فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات، والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكك، إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا، وأخذ يتسع هذا الشك فيها، وبقوله ...
فمن أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل، فتراه واقفا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة، وبعد ساعة تعرف أنه تحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدرج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية، تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار.
هذا وأمثاله من المحسوسات، يحكم فيه حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبه حاكم العقل ويخونه (بتشديد الواو) تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته، فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات، التي هي من الأوليات؛ كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثا وقديما، موجودا معدوما، واجبا محالا.
فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل، لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذب العقل (بتشديد الذال) في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه وعدم تجلي ذلك الإدراك، لا يدل على استحالته، فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت أشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورا، وتتخيل أحوالا، وتعتقد لها ثباتا واستقرارا ... لا شك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو بعقل، هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها، وإذا وردت تلك الحالة تقينت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها، ولعل تلك الحالة ما يدعيه الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم - التي لهم إذا غاضوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم - أحوالا لا توافق هذه المعقولات، ولعل تلك الحالة هي الموت؛ إذ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا»، فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له عند ذلك:
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد .
فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجا، فلم يتيسر؛ إذ لم يمكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية؛ فإذا لم تكن مسلمة ، لم يكن تركيب الدليل، فأعضل هذا الداء، ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة، بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال حتى شفى الله تعالى من هذا المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضرورات الفعلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة (انتهى كلام الغزالي).
لن أعتذر للقارئ على طول النص الذي اخترته مما أورد الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال»، فقد أردت للقارئ أن يواجه المفكر الإسلامي العظيم في كلماته مواجهة مباشرة؛ إذ هي كلمات بلغت الغاية في الغزارة والغنى لمن أراد صورة متكاملة لوسائل المعرفة ودرجاتها ونسبة بعضها إلى بعض، حتى يجعل لكل وسيلة منا قيمتها الحقيقية، لا يضيف إليها من عنده ما ليس منها، ولا يحذف منها جانبا مما يكون جزءا من أجزائها، وتلك الوسائل عنده أربع، تتدرج صعودا، فلقد أسلفنا لك القول بأن أدناها درجة، برغم كونها أشيعها بين الجماهير، هي الأخذ بما يدور على ألسنة الناس، على أنه هو الحق، ويتلوها صعودا وسيلة الحواس وما تدركه، بحيث يعتمد الإنسان في معرفته على ما يراه بعينيه وما يسمعه بأذنيه، وما يحسه إحساسا مباشرا، بحاسة من حواسه الأخرى، ثم تعلوها درجة الإدراك بالعقل؛ فإذا كانت الحواس مقصورة - بالطبع - على ما تتلقاه من انطباعات تنطبع بها رؤية - أو سمعا - أو غير ذلك من ضروب المحسوسات، فإن «العقل» أرحب مجالا، وأدق علما بما يحيط به؛ إذ هو إلى جانب التصورات الذهنية التي يستخلصها مما قد انطبعت به الحواس وما قد تراه أو تسمعه، نقلا عن المصادر الخارجية، يقيم علما مشتقا من «أوليات» فطرت في جبلة لا حاجة فيها إلى الحواس، ليعلم أن الإثبات والنفي لا يجتمعان معا في الشيء الواحد؛ فالنقل بما زوده به خالقه من «أوليات» يرفض أن يقال له - مثلا - إن العشرة أكثر من الثلاثة، وهي في الوقت نفسه أكثر من الثلاثة، والعقل يرفض كذلك - بحكم أولياته الفطرية - أن يكون الشيء الواحد المعين موجودا ومعدوما في آن واحد، ويرفض أن يقال له عن فكرة معينة بأنها مقطوع بيقينها، ومقطوع ببطلانها في وقت واحد، وهكذا وهكذا، فما جاء العقل مزودا به من مبادئ التفكير الصحيح دون طبائع الأشياء، فتلك - إذن - ثلاث درجات في وسائل المعرفة، وأما الرابعة فأرجئ ذكرها والحديث عنها حين يحين حينها فيما هو آت من هذا الحديث.
وذلك لأني أريد أن أتناول الدرجات الثلاث المذكورة، التي هي على التوالي: الأخذ عما يدور على ألسنة الرواة، ثم الاعتماد على محسوسات الحواس في انطباعها بالأشياء انطباعا مباشرا، ثم «المعقولات» التي يكون «العقل» بمبادئه الفطرية مصدرا لها، أقول إنني أرجأت الدرجة الرابعة من درجات المعرفة حتى أتناول تلك الدرجات الثلاث السابقة بشيء من التعليق والشرح:
Página desconocida