عندما سئل أبو حيان التوحيدي، وهو في حضرة الوزير، بما معناه: ألك أن تحدثنا عن نقد الأدب؟ أجاب بما معناه أيضا: سأحاول، وإن كنت أعلم أن ذلك عسير؛ لأنه بينما الأدب كلام عن «الأشياء» فإن النقد «كلام عن كلام»، والكلام عن شيء ما، أيسر من كلام يبنى على كلام، وأذكر أني عندما طالعت ذلك الحوار لأول مرة، رأيت الصدق في قول التوحيدي: لكني على
هنالك حكم عام يصدق على جميع الحالات: فربما كانت هنالك الحالات التي يكون فيها الكلام عن حقائق الأشياء أيسر من التعليق عليه، والحالات التي يكون فيها الأمر على عكس ذلك، وسأوضح ذلك بأمثلة أسوقها للحالتين، ليكون القارئ على بينة من الأمر قبل أن نمضي معا في هذا الحديث، وما أريد أن أرتب عليه من نتائج، لأصور بها ما أراه علة الفقر في الحياة الفكرية التي نحياها اليوم.
فلنأخذ قول حافظ إبراهيم عن المصري ومجده:
وبناة الأهرام في سالف الده
ر كفوني الكلام عند التحدي
فإذا أراد ناقد أن يبين مواضع البلاغة في هذا القول، فأول ما نلاحظه في مقارنة هذا النقد بذاك البيت المقصود، هو أن الشاعر كان له مطلق الحرية فيما يختاره من صور يصور بها مجد المصري منذ فجر التاريخ، وأما الناقد الأدبي فمقيد بما أمامه من ألفاظ وطريقة تركيبها، وعليه أن يحفر بقلمه في هذا المنجم الواحد المعين، ليستخرج منه ما قد كمن فيه من نفيس المعادن، وإنه ليكفينا أن نذكر حرية الشاعر وقيد الناقد، لنرى وجها للحكم بأن مهمة الناقد أشد عسرا من مهمة الشاعر، لكن هذا الحكم مشروط بجودة ما يقوله الناقد؛ لأنه إذا حدث أن تصدى للتعليق النقدي، من لا يحسن الفهم ولا يجيد الكلام، فعندئذ ينعكس الموقف، بحيث لا تجوز المقارنة بين اللحظة الإبداعية عند الشاعر، من جهة، ولحظة التخليط بالهراء عند صاحب التعليق.
ومثل هذه المقارنة ليس مقتصرا على الأدب ونقده، بل نراه قائما كذلك بين القول العلمي ومن يتلقاه من الدارسين، فافرض أننا أمام عبارة كهذه: يتحول الماء إلى بخار بفعل الحرارة، فهذه الحقيقة العلمية قد تصادف تلميذا يحفظها ولا يدري ماذا يصنع بها، وقد تصادف قديرا يستنبط منها اختراع القاطرة البخارية؛ ففي الحالة الأولى كانت الجملة العلمية أصعب على من ذكرها وحدها، منها على جهد التلميذ حين قرأها فحفظها، وأما في الحالة الثانية فقد كان ما بني على تلك الحقيقة العلمية، أحوج إلى شدة الذكاء من ملاحظة الظاهرة وصياغتها في العبارة التي صيغت فيها.
ولا علينا من هذا كله، فإنما قدمته بين يديك لأنه هو الذي كان عندي نقطة ابتداء لسلسلة الأفكار التي توالت، فأنتجت لي ما أنتجت، من حيث الفرق البعيد، في عملية التعليم، وفي عملية التثقيف، بين أن نربي أبناءنا على مواجهة «الأشياء» ليستخرجوا من مشاهدتهم المباشرة، ما يفتح عليهم الله باستخراجه، كل بحسب قدراته ومواهبه، وبين أن نربيهم على قراءة ما قاله آخرون عن تلك الأشياء ثم حفظ ما قرءوه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المقروء المحفوظ، مما ورثناه من أسلافنا، أو أن يكون مما نقلناه عن شعوب أخرى في حاضرها أو في ماضيها على حد سواء.
عندما قرأت لأبي حيان التوحيدي قوله بأن: «الكلام عن الأشياء» أيسر على صاحبه من «الكلام عن الكلام»، كانت لي وقفة مع نفسي أراجعها في هذا الذي قاله التوحيدي، فرأيت - كما أسلفت لك - أن الحكم يصح على حالات ولا يصح على حالات أخرى؛ فالدرجات العلى من تفكير المفكرين، يغلب أن تكون تعليقا أو تحليلا لشيء قيل بالفعل، مثال ذلك ما يكتبه العلماء والفقهاء شرحا لنصوص تركها علماء وفقهاء سابقون، نبغوا في ميادينهم، وكذلك ما يقوله نقاد الأدب، تحليلا لما يتناولونه من الموروث الأدبي، بل إن هنالك فلاسفة من أعظم الفلاسفة شأنا كان مدار عملهم شرحا لما تركه فلاسفة سابقون، كما فعل «ابن رشد» في شرحه لفلسفة أرسطو، وكما فعل «ج. ا. مور» - وهو من أعظم الفلاسفة في إنجلترا في العصر القائم - إذ قصر نفسه على تحليل بعض ما قاله فلاسفة آخرون لنخرج من ذلك التحليل بنتائج، كانت من أبرز معالم الفكر الفلسفي المعاصر، وهكذا وهكذا، وإذن فعملية «الكلام عن الكلام» ليست بالأمر الهين، عندما تبلغ هذه العملية ذاتها، وأعني: عملية «الكلام عن الكلام» قد تهبط إلى أسفل الدرجات تفاهة وعجزا.
وهنا انتقلت بفكري إلى المقارنة بين من اعتاد استخراج معرفته من معالجته «للأشياء» معالجة مباشرة، وبين من يتجه بحياته الفكرية نحو أن يستخرج معرفته من كلام الآخرين عن تلك الأشياء، كما أثبتوه في كتب قديمة أو حديثة، وكان أول ما وجهت انتباهي إليه - عند إجراء هذه المقارنة - هو وجوب التوسع في فهمنا لكلمة «أشياء» توسعا يجعل العلماء الذين يتناولون في بحوثهم «نصوصا» لها قيمتها في تاريخ الفكر أو العقيدة، تناولا غير مسبوقين فيه، فيعملون على أن تنطق تلك النصوص بمكنونها، أقول إنه أجدر بنا أن نجعل أمثال هؤلاء العلماء الرواد، بمنزلة من يستمد عمله من إحدى ظواهر الكون، إذ هو في عمله ذاك أقرب إلى العلماء المبدعين منه إلى أولئك الذين يقرءون نصوصا يجدونها في كتب وقعت لهم في دراستهم، فيحفظونها ليرددوها كلما حانت لهم فرصة لترديدها.
Página desconocida