إن ما يقال عن «هوية» الفرد الواحد، كيف تحافظ على «استمرارية» عبر تغيرات الزمن، مرحلة من العمر بعد مرحلة، ومجموعة من الظروف بعد مجموعة، يقال كذلك عن الأمة الواحدة، ويقال عن البنية الثقافية لتلك الأمة؛ ففي حياة الأمة الواحدة ملايين الأفراد يولدون، وملايين يموتون، وهكذا تظل الموجات البشرية، ترتفع الموجة منها لتختفي، ثم ترتفع موجة بعدها لتختفي، لكن محيط الماء يظل هو محيط الماء، وتظل له خصائصه الأساسية، حتى لو تغيرت في أعماقه كوامنها جميعا، أسماكا بأسماك، وشعابا من الصخر بشعاب من الصخر، وكذلك قل عن البنية الثقافية، بل هيكلها العام، لتلك الأمة الصامدة بهويتها، فقد ينتج أبناؤها - على تعاقب العصور - علما غير العلم، وشعرا غير الشعر، وصورا من الحكم غير الصور، ومع ذلك تبقى هناك بقية راسخة، فتكون هي الجهاز العصبي لحياة الناس الثقافية، ومن هذه البقية الثابتة، يبقى المصري مصريا، ويبقى كل منتم إلى أمة بعينها هو من هو، لا يخطئ حقيقة نفسه حين يقيسها إلى سائر الأنفس، ولا يخطئها الآخرون إذا عرفوها وعرفوا ما يميزها في وحدانيتها وتفردها، إذن فالسؤال قائم بين أيدينا، بالنسبة إلى هوية الفرد الواحد، وإلى هوية الأمة الواحدة، وهوية البنية الثقافية لتلك الأمة، والسؤال هو - نكرر ما أسلفناه - ما الذي يجعل الهوية في كل هذه الحالات هوية واحدة، لها سماتها التي تميزها، ويكون لها - بالتالي - استمرارية متصلة على تعاقب العصور، برغم الاختلافات الشديدة والبعيدة بين عصر وعصر؟
وناديت أن انفخ في النار يا غلام، حتى ينصهر من الفكرة ما لم ينصهر، فيظهر منها ما لم يكن قد ظهر، اشتعلت النار، فعادت إلى ذاكرتي صورة قارب السماك، وكان السماك كلما اهترأ جزء من أجزاء قاربه، استبدل باللوح الخشبي المهترئ لوحا جديدا، وربما اختار اللوح الجديد من خشب أكثر صلابة من خشب اللوح القديم، وهكذا أتيحت لي مراقبة السماك فيما يجدده من أجزاء قاربه، حتى خيل إلي أن كل جزء من تلك الأجزاء قد أفناه عمره، وجاء خلف ليبدأ عمرا جديدا ، تماما كما قد قيل عن الطفل يولد بمجموعة خلاياه، فتختفي كلها مع الأيام، لتكون له مجموعة أخرى من الخلايا، وكما يظل الطفل على هويته برغم ما تبدل من خلاياه، لبث قارب السماك على هويته برغم ما تبدل من ألواحه الخشبية، واحدا بعد واحد، فإذا سألنا: كيف تحققت لكل منهما استمرارية الهوية، برغم ما قد حدث، جاءني جواب (ولست مسئولا عن أي جواب آخر قد يجيء لغيري) وجوابي هو في كلمة واحدة «الصورة» تبقى فتبقى الهوية، ماذا، أتقول «الصورة»؟ فهل عدت مرة أخرى إلى الشكل المرئي بالعين؟ كلا يا صاحبي؟ فلست أعني «بالصورة» تصوير السطح الظاهر، وإلا فهل ترى الطفل يحافظ على ظاهر صورته حتى يكتهل؟ كلا، بل عنيت ب «الصورة» ذلك الجانب الخفي الرواغ، الذي يفلت من بين أصابعك كلما ظننت أنك قد أمسكت به، لكننا لن ندعه هذه المرة ليفلت، ولن يتحقق لنا ذلك إلا بعد أن نستعرض أمثلة أخرى، نتدبرها، ونتأملها معا، لعلنا نقع على ذلك السر، الذي يضمن استمرارية الهوية للفرد الواحد، وللأمة الواحدة، وللبنية الثقافية الواحدة.
وناديت أن انفخ النار يا غلام، فما اشتعلت ألسنة اللهب، حتى سمعت تاريخ الفن في مصر، يفصح لي عن بعض سره، فسمعته وكأنه يقول: انظر إلى العصر الفرعوني الطويل، والذي زاد في مبدعاته الفنية على أربعة آلاف عام تجده «هو هو» - وأعني أنك واجده - قد حافظ على «هوية» واحدة، عبر مراحل طويلة من الزمن، حتى ليستطيع كل ذي وعي، أن يدرك على الفور إذا كانت القطعة الفنية التي تعرضها عليه، مصرية فرعونية أو لم تكن؛ وذلك لأن الفنان المصري قد بث روحه في مبدعاته، فجاءته تلك المبدعات صارخة بهويته؛ فالمصري في أواخر التاريخ الفرعوني «هو هو» المصري في أوائل ذلك التاريخ، مع أن طول ما بين الطرفين أربعة آلاف عام، فكل أثر فني طوال ذلك العهد الطويل ناطق بما تخلق به المصري، فترى في التماثيل خشوع المصري العابد وحكمته ورزانته ورصانته، وترى في أعمدة المعابد الجبارة جبروته، وترى في المسلات شموخه وطموحه، وترى في مقابره تعلقه بالخلود.
وتمضي القرون ويجيء الفن القبطي لينطق بأن المصري «هو هو» المصري، وإن اختلفت صور الحكم والعقيدة؛ ففي كل مأثور من ذلك الفن، ترى بساطة المصري في إيمانه، وفي زهده، وفي صفائه ونقائه، ثم تمضي القرون مرة أخرى ليجيء الفن الإسلامي معبرا - وهو على أيدي الفنان المصري - عن روح التجرد والتجريد من أوزار الحياة المادية وأثقالها، أو ما يشبه القيود الرياضية، من زخارف هندسية تراها على الجدران، ونقوش تغلب عليها روح التقسيمات الهندسية، على نحاس القناديل، والمدافئ، والصواني، وما إليها، وعلى خشب المشربيات والأبواب والنوافذ وغيرها.
وتمضي مسيرة الحضارة داخل العصر الإسلامي، لنصل إلى عصرنا هذا الحديث، الذي وجد المصري نفسه فيه - لأول مرة في تاريخه - مجبرا على الأخذ عن حضارة صنعها سواه، فكان محتوما عليه أن يوفق بين ما عنده وما عند سواه، وانعكس هذا التوفيق أيضا على مبدعات الفن على اختلافها، فإذا أخذنا منحوتات محمود مختار رمزا يشير إلى روح المصري الحديث منعكسة في فنه، رأيت ذلك واضحا في الجمع بين فلاحة عصرية، تمس بكفها موروثنا القديم ليصحو: فإذا جاز لنا أن نلخص تلك العصور الفنية في التاريخ المصري، تلخيصا يقول في جملة واحدة: ما هي السمة الأساسية الأولى للمصري على طول تاريخه، قلنا إنه التحكم في الحياة الدنيا من منظور الدين، وأعني إخضاع الحياة الدنيا لمعايير مستمدة مما هو أعلى من الحياة الدنيا، فإذا صح رأينا هذا في الشخصية المصرية، كانت تلك السمة هي عماد «الهوية» المصرية، بمعنى أن المصري في كل مرحلة من مراحل تاريخه، كان «هو هو» المصري في سائر المراحل، وإن اختلفت اللغة التي يستخدمها في إبداعه الفني للتعبير عن حقيقة ذاته.
والآن يحق لنا أن نعيد على أنفسنا السؤال الذي طرحناه عن «الهوية» ما أساسها؟ وأحسب أن المثل الذي ذكرناه من تاريخنا الفني، يملي علينا الجواب، وهو أن صلب الهوية هو ما يصمد من الإنسان عبر التاريخ، أي أنه لا بد من «تاريخ» - طال التاريخ أو قصر - لتكون هناك هوية ما: نعم، لا بد من لحظات تتوالى على مر الزمن، لنعرف منها أن شيئا مما كان قائما في لحظة ماضية، ما زال قائما في لحظة حاضرة، كي يتاح لنا القول بوجود هوية صمدت فيها سمة معينة أو سمات.
أقول هذا وأنا على علم بأن أغلب من تعرض للكتابة عن «الهوية» من الفلاسفة، ذهبوا إلى منحى غير هذا المنحى؛ إذ وجدوا أنفسهم مضطرين إلى افتراض وجود محور «غيبي» في الإنسان - أو غير الإنسان - يكون له من الثبات ما يضمن ثبات الشخصية على هوية واحدة، سواء أكانت تلك الشخصية قد لمعت كالبرق الخاطف ثم اختفت، أم دام وجودها ولو إلى حين ليكون لها «تاريخ»، لكن أغلب ظني هو أن فكرة الهوية تندك من أساسها إذا لم يصاحب تلك الهوية وجود ممتد على فترة من زمن، يمكننا من رؤية الصمود على صفة معينة خلال تلك الفترة.
وهنا أشعر بضرورة أن أذكر شيئا عما يسمى في «المنطق» بقانون الهوية؛ لأنه يلقي بعض الضوء على هذا الذي زعمناه، فأول قوانين العقل، التي هي قوانين مجبولة في فطرة الإنسان ذاتها، هو قانون الهوية هذا، ومؤداه أن لدى الإنسان قدرة طبيعية على أن يتعرف إلى شيء ما، بأنه هو نفسه الشيء المعين الذي رآه في وقت سابق، فمنذ مرحلة الرضاعة لا يلبث الرضيع أن يتعرف إلى مرضعته اليوم، وأنها هي التي كانت مرضعته فيما سبق، أي أنه يدرك «هوية» مرضعته وثباتها من لحظة سبقت إلى لحظة حضرت، وذلك معناه - فيما نحن بصدد الحديث فيه - أنه لا مجال لإدراكنا للهوية وثباتها، إلا إذا امتدت بتلك الهوية فترة من زمن، لتتم المقارنة بين سابق ولاحق، ولولا هذه القدرة الفطرية عند الإنسان، على إدراك الهوية الواحدة في أكثر من لحظة واحدة، لاستحالت العملية العقلية استحالة تامة؛ لأنه ما من عملية من عمليات التفكير العقلي، إلا وفيها انتقال من «مقدمات» إلى «نتائج» ترتبت أو أقيمت على تلك المقدمات، ومعنى ذلك أن العقل يدرك «هوية» ما تكرر قيامه في المقدمات مرة وفي النتائج مرة، فدل ذلك على أن ما تقوله النتيجة هو نفسه ما تقوله المقدمة، إذن فالعملية الفكرية صحيحة.
وها هنا أحسست وكأني أسمع سائلا يسألني: ثم ماذا؟ كيف نستضيء بهذا الذي قدمته عن «الهوية» وحقيقة معناها، فيما نعانيه من مشكلات في حياتنا الثقافية، ومنها تلك المشكلة التي ذكرت لنا عنها بأنها ثقلت على صدرك حتى همت على وجهك في الشوارع بغير هدف إلى أن وصلت إلى الحداد وغلامه نافخ النار؟
ولكي أجيب لم أجد بدا من العودة بالفكرة إلى المطرقة والسندان، فصحت بالغلام، أن ينفخ النار، وبعد معالجات جديدة للفكرة، أبرزت أمام السائل أمرين لا أرى أهم منهما في حياتنا الثقافية اليوم: الأمر الأول خاص بالانتماء الوطني والقومي، الأمر الثاني خاص بالانتماء ودوره؛ فأما الانتماء فالدعوة إليه تكون عبثا في عبث، إذا لم ينغمس في الهوية الوطنية والقومية - وأعني المصرية العربية - ولا يكون ذلك إلا إذا جاء ذلك المنتمي حلقة جديدة من سلسلة التاريخ المصري والعربي، وأكرر قولي «حلقة جديدة»، فالمتمرد على سلسلة تاريخه سيخرج عن حلقاتها، ويصبح منذ لحظته نسيا منسيا لكونه بغير تاريخ يضع نفسه في حلقاته، والذي يكر راجعا إلى حلقة ذهب زمانها، فيدمج نفسه في أصحابها يكون قد جعل نفسه واحدا منهم فسقط حسابه من عداد الحاضرين، فلا بديل لإثبات الوجود إلا بأن يكون الموجود الحاضر «حلقة» من سلسلة تاريخه، وأن تكون تلك الحلقة «جديدة» فيها ما يصلها بالماضي، وفيها ما يصلها بزمانها.
Página desconocida