ومن تلك الوثيقة الأولى عن نفس بسمارك يظهر كبره وبصره وزريه وجسوره فتتألف من هذه الأمور عناصر خلقه وعوامل نجاحه وأصل عطله من حس السعادة وأسباب عراكه الأدبي القادم، ومن تلك الوثيقة الأولى عن نفس بسمارك يظهر احتقاره لكل حقير وصورة هزلية للطموح الطامع في أن يدعى بالسيد الرئيس ذات يوم مهما كلفه الأمر. وهو بذلك لا يعتقد سعادة الموظف الذي يكون له رئيس دائم مع عطل من الحرية، وفي ذلك آية على ما يواثب شابا في الثالثة والعشرين من سنيه من حال روحية يعارض بها ما يبهر بالهوى، والغرور بالصيت، والاشتراك بالانفراد ، والمقام بالسلطان، وذلك مع تركه القارئ يبصر ذلك التلذذ العصبي بنعم الحياة نتيجة لأثر الكحول، وقد رأينا ذلك الرجل الريفي الذي يود أن يقوي بدنه، وأن يضع صحته فوق المهنة، والغابة والصيد فوق الكرسي والمكتب.
وفوق كل ذلك نبصر فتى ذا عجب لا يوصف راغبا عن إطاعة أي كان شاعرا مقدما بتفه أي مكافأة تقتضي تضحيته بحريته، ويا للعزة التي يدفع بها دليل حب الوطن ويطرح بها الأوهام القومية والمسائل الحكومية التي تحل أو تبسط لينفذ واثقا كلمة الميل والهوى في القلب، وهو إذا ما منح سلطان الطاغية انقض انقضاض البعوض على الضياء ليقود ويشتهر، لا لتحقيق فكرة، غير أن هذا لا يمكن الآن في سوى الدول الحرة كإنكلترة، وفيما هو يدون ذلك كتابة تجد بيل، الذي كان رئيسا للوزارة بالأمس، يجاهد في مجلس النواب من أجل حرية المبادلة ضد حزبه الخاص، وتجد أوكونيل يجاهد - أيضا - من أجل استقلال إيرلندة، فذانك ثوريان، لم يعولا على غير نشاطهما ورأيهما الخاص، لا على رغائب مليك، وكلاهما دعا إلى انقلاب، حتى إن ميرابو أراد تحديد امتيازات النظام الملكي، ولكنك ترى في بروسية، ولكنك ترى هنا، ولكنك ترى في هذه البقعة الألمانية العاطلة من دستور، العاطلة من مجلس شيوخ ومجلس نواب؛ أن ذلك كله حلم بارون خيالي يحاول عبثا إحداث حركة سياسية.
تلك هي صورة عن بسمارك، ويشعر هذا المولود طاغية بقواه الخاصة التي لا يحفزه إليها ولاؤه للملك ولا خوفه من الله ولا مسئوليته تجاه المجتمع، هو وحيد، هو عظيم، هو يزدري الرجال، وينتظر هذا المكافح، هذا الثوري الفارغ الصبر، تبديلا، ويحتقر هذا المغامر كل ما هو راكد، ولا يود نشاطه العصبي الإدارة، بل يود التحويل، وهو يرغب في القيادة كما يشاء، وهو لا يصفح عمن يعلوه.
الفصل الخامس
بيوت العمال المستطيلة بكنيبهوف مغطاة بالتبن، وفي كل واحد من اثني عشر من هذه البيوت يسكن أربع أسر، وهذه الأسر فقيرة إلى الغاية، ولا يكاد الرجل منها يكسب تاليرا في الشهر الواحد، وعلى الرجل أن يعمل عدة أيام من السنة بلا عوض، ولأولئك مساكن وحطب وأفدنة ثلاثة ومرعى وعلف وحب، ولهم عون في الموسم السيئ إذا ما أراد سيدهم، وإذ إن كنيبهوف ضرب من الإمارات الإقطاعية؛ فإن السيد فيها يعد رئيسا للشرطة ورئيسا للعدل ورئيسا للكنيسة، وله كرسي في مجلس الولاية وله أن يبدو حاكما فيباح له أن يساعد من يود ويؤذي من يريد، وفي الواقع لم يكن لأولئك الفلاحين حقوق ولا ضمانات حتى سنة 1840، بل كانوا عبيدا متصفين بولاء العبيد، وأجداد هؤلاء كانوا يخدمون أجداد سيدهم الكريم.
ويعاملهم بسمارك وديا ويظل لهم سيدا، ويرسل صديق له كتابا يقول فيه: «حقا إنك أوتو المحبوب، حقا إنك الشريف الذي يحمل قلبا عطوفا على رجاله، ومما يسرني أن يحدث رجالي عني بأطيب القول كما يحدثون عنك.»
ولكن الفلاح يرغب ذات يوم عن الاصطفاف ليدعه يمر، ويسفر ذلك عن اصطدام هائل، وتقاوم عربة الفلاح وتحطم عربة السيد على الطريق، ويمكن تمثل ما ينجم عن ذلك من النتائج، وهو يوضح من البداءة كيف يسير بهذا النوع الجديد من الحياة، وهو يقول في كتاب يرسله إلى صديقه إنه عازم على أن يكون «سيدا، لا خادما، وعلى ألا ينسخ الرسائل.»
وعلى ما كان من حبه القلبي لأخيه لم تدم شركتهما زمنا طويلا؛ فما كان بسمارك ليطيق العيش مع أحد مساو له في الحقوق، فاقتسما الميراث بعد وقت قصير لذلك، والأمر هو كما جاء في كتاب له: «إنني أكاد أقتسم الميراث مع أخي لما وجدته من مشتر يعرض ثمنا عاليا، فهذا هو عزمي.» ثم يعمل كل من الأخوين على إطفاء الدين بتؤدة ومشقة.
وأراد بسمارك أن يعرف شيئا عن الزراعة فقضى من جديد بضعة أشهر في الجامعة، وحضر دروس كيمياء في غريفسفالد وإلدينا، وحمل كيزرلنغ على إرسال كتب في النبات إليه، ووجد طبيبا يعلمه قليلا من الكيمياء. وتقع مبارزات جديدة ومصادمات مع الشرطة، ويغدو غير تلميذ، ولا يغدو سيد نفسه من جميع الوجوه، ويجلس حول المائدة بين كبار الملاكين الذين أتوا إلى السوق، «وأصغي إليهم كثيرا، ثم أفكر فيما يقولون وأحلم ليلا حول البيدر
1
Página desconocida