ولم تزل العفاريت الثلاثة التي كانت بجانب مهد بسمارك - وهي العجب والشجاعة والحقد - تسيطر على هذا الشيخ عندما كتب مذكراته، وهي قد بلغت من السيطرة عليه ما بدت معه اعترافاته صورة عن روحه الملغزة، ولا تكاد تجد في كتابه المؤلف من ثمانمائة صفحة شخصا أثنى عليه، ولا تستثن من ذلك معلميه ولا رؤساءه الرسميين ولا الأمراء ولا النواب ولا الزملاء ولا التابعين. ولا ترى من هؤلاء من مدح مدحا غير مقيد، حتى إن رون الذي هو أخلص الجميع لم يخل من تنديد به، ولا تبصر غير الأصاغر، كستيفان وهولشتاين وشويننجر من سلم من الذم، وإذا ما استحوذ الحقد والهزوء على قلمه صلح له كل شيء، ومما لا مراء فيه أنه هدف إلى إطراء مولاه الشائب خلافا لمولاه الشاب.
والحقد حتى في أمر ولهلم الأول وجد إلى قلب بسمارك سبيلا، ويمكن استجلاء الوجه الذي عامل به كبار أعدائه وصغارهم من مطالعة الصفحة التي صب فيها جام غضبه على الطبيب الألماني المجهول الأمر الذي أسفرت مداواته له في سان بطرسبرغ عن أذى كبير له، ولم يكتف بسمارك بإسقاط هذا الطبيب مع مضي ثلاثين عاما على ذلك، بل أشار مغاضبا إلى الدوكة الكبرى التي أوصته وأوصت بلاط سان بطرسبرغ به.
وبسمارك بين سراح ومراح وحتى موت بوشر في سنة 1892، أملى على هذا المفضال جوهر المجلدات الثلاثة، ثم غير فيها مقدارا لا يستهان به متبسطا هنا وهنالك، وهو لم يبد كبير حماسة حول هذا العمل، وإذا حضر الطبيب شويننجر أبصر - في الغالب - ما يأتي فقال: «بوشر أبكم مكتئب متجهم مرهف الأذنين مستدق القلم الرصاصي جالس أمام ورقة بيضاء، والأمير مضطجع على كرسي طويل متأمل في الصحف غير ناطق بكلمة، وبوشر ليس أقل منه صموتا، وتظل الورقة بيضاء»، ثم يساعده الطبيب قليلا، ومن المحتمل أن يتلو بعض المقالات، وقد يجد بسبب أحد الزوار ما يدفعه إلى الإملاء ذات حين.
بسمارك في سنة 1895.
وكان بوشر دون بسمارك حماسة للأمر مع تمتعه بذاكرة أحسن من ذاكرة ذلك، وكان يشكو من كون الأمير «يكرر كثيرا من الأمور عدة مرات وعلى أوجه مختلفة تقريبا، وهو يقف عند أكثر المسائل أهمية ويعيد نفسه متناقضا، وهو إذا تناول أمورا كان نصيبها الحبوط تنصل من مسئوليتها؛ حذر اللوم، ولا تكاد ترى من يبدو مثله خطرا، وقد أنكر كتابه إلى بريم (في سنة 1870) إلى أن ذكرته بأنني أنا الذي نقله إلى الجنرال في مدريد، ومن المحتمل أن يكون قد فكر في مؤرخي المستقبل وفي ترك وصية للأعقاب، ولكنه يفكر أيضا في الحال، وفي الحال يريد أن يؤثر».
وبسمارك إذ عطل من المستندات وكان راغبا في الانتقام من أعدائه وخروجه رابحا لقضيته، راعه ما أبصره من تناقض بين ما أبداه من رأي خاص وما أبداه من رأي عام عن السلطة الملكية، فقد قال: «ما فتئت منذ سنة 1847 أدافع عن المبدأ الملكي وأرفعه كالراية، ولكنه كشف لي أمر ثلاثة ملوك فوجدت تصرفاتهم لا تناسب من هم في مثل سموهم، ومما يناقض المبدأ الملكي أن يذاع هذا بين الأنام، ومما يتعذر علي مع ذلك أن أسلك سبيل النذالة فأسكت عن ذلك أو أن أذكر أمورا على غير وجهها.»
وهكذا ، وفي نهاية الأمر يرى هذا الممثل الأكبر أن يكفر عن عيشه في عالمين، والآن يجب على هذا الذي لم ينطق بالحق إلا وراء المسارح حتى الساعة الراهنة أن يقول الصدق للمرة الأولى على نور المنحدر، وبسمارك حتى في ذلك التاريخ يضفو حقده على عامله السياسي فيدبج يراع هذا الملكي ذات حين فصله المشهور عن ولهلم الثاني فيصوب به سهما مميتا إلى سمعة هذا العاهل، ولا يتناول في ذلك هذا العاهل وحده ما أبدى آل هوهنزلرن هنالك بأقتم صورة، ولن تجد ما هو أبلغ من ذلك الفصل ضد النظام الملكي.
وكان بسمارك بصيرا بصرا تاما بما يكون لذلك من أثر بالغ حينما أمر بنشر جميع كتابه فور وفاته، ويدعي ورثته وجود إشارة فيفضلون حماية الإمبراطور على دفاع أبيهم عن نفسه من قبره، وهم لم يمتنعوا عن نشر المجلد الثالث في سنة 1898 فقط، بل داوموا على حفظ سمعة ولهلم الثاني حتى بعد فراره من ألمانية سنة 1918، وقد احتجوا على ما كان من «نشرها الفوري» عند تلك الهزيمة مؤيدين القضية التي رفعها الإمبراطور ضد الناشر بدلا من أن يتخذوا جميع الوسائل وصولا إلى عرض تلك الوصية على أعين الأمة في نهاية الأمر.
الفصل التاسع
«يقضي الواجب علي بأن أتكلم، ويسدد هذا الواجب إلى وجداني كالمسدس الذي يصوب إلى كياني، وبما أنني أعتقد أن السياسة الحاضرة تقود الوطن إلى ورطة يجمل اجتنابها، وبما أنني أعرف هذه الورطة على حين يخادع الآخرون أنفسهم حولها؛ كان من الخيانة أن أسكت، ويريد أصدقائي الأعزاء أن أكون ميتا حيا مكتوما بكيما
Página desconocida